بلاد الرافدين مهددة بالمجاعة

بلاد الرافدين مهددة بالمجاعة

 

 

الباحثة شذى خليل *

“بلاد الرافدين”، “بلاد ما بين النهرين”، تلك أسماء العراق التي تشير إلى خصوبة أرضه وكثره مياهه، هذا ما جعله مهداً لأقدم حضارة في التاريخ، حيث كانت العوامل الطبيعية الداخلية والمحيطة كلها تساعد على ذلك، وظلت بلاد الرافدين مصدرا للغذاء والحبوب والمزروعات لأبنائها وجيرانها حتى وقت قريب، قبل أن تحل بالبلاد نكبة الاحتلال الأمريكي وما جرى بعده من أحداث دامية.
ومع انهيار الدولة العراقية عام 2003 تهاوى معها أمنها السياسي والاقتصادي ، بالإضافة إلى الأمن الغذائي الذي يقصد به مدى قدرة البلد على تلبية احتياجاته من الغذاء الأساسي من منتوجه الخاص، أو استطاعته على استيراده تحت أي ظرف ومهما كان ارتفاع أسعار الغذاء العالمية.
اشتدت المخاوف في العراق على نحو خطير بالنسبة لأوضاع الأمن الغذائي عقب التصعيد الأخير للصراع في رقعة واسعة من البلاد، وفق تحذيرات أصدرتها منظمة الأمم المتحدة للأغذية والزراعة “FAO”.
حيث ارتفع معدل انتشار انعدام الأمن الغذائي إلى الضعف بين الأسر الفقيرة “خاصة النازحة” مقارنة بالأسر الباقية في منازلها،

وكان أعلى تركيز للأسر التي تعاني من انعدام الأمن الغذائي في الجزء الجنوبي من البلاد والموصل وأجزاء من صلاح الدين.
أكثر من مليون شخص فروا من سكناهم ومزارعهم، تاركين أعمالهم وممتلكاتهم، حيث هبط الإنتاج المحلي الزراعي بشكل كبير بسبب الظروف التي يمر بها العراق من قلة في مواد الإنتاج وشح في مياه الري، وبعض العمليات الزراعية المهمة كتقنيات الري وقلة الأسمدة، فضلا عن عدم السيطرة على الحدود وضعف الحجر الزراعي، أدى ذلك الى اعتماد العراق على المواد المستوردة بنسبة 80% ، كون المنتج المستورد منافس كبير جدا، وقد يغطي المنتوج المحلي بسبب عدم فرض ضرائب على المستورد، وقلة دعم المنتوج المحلي، كما ان كثرة الطلب على المنتوج المستورد مقارنة بالمنتوج المحلي فتح الباب بشكل واسع امام التجار لاستقدام محاصيل جديدة ومتنوعة تناسب اذواق المستهلكين.
الأسباب الحقيقية لتدهور الزراعة في العراق:
• اعتماد الاقتصاد العراقي على النفط كمصدر وحيد للثروة، وهو خيار آني وليس استراتيجي، وإهمال القطاعات الأخرى ومنها القطاع الزراعي.
• شح المياه وحالة التصحر في مساحات شاسعة من الأراضي نتيجة حالة المناخ والظروف الجوية والاحتباس الحراري التي أسهمت في قلة تساقط الأمطار.
• السياسة السلبية التي تمارسها الدول المجاورة التي تنبع منها مياه الأنهار العراقية والدول التي تمر بها هذه الأنهار حتى تصل الى الاراضي العراقية ما أثر بنحو كبير على كمية المياه الواصلة للعراق.
• كسل الفلاح العراقي وبحثه عن مهن أخرى أكثر راحة، وتحوله من منتج الى مستهلك للمحاصيل الزراعية، وهذا التوجه حصل نتيجة اسباب عديدة لا يتحملها الفلاح وحده، بل تتحملها أطراف عديدة.
• عدم توفر المكننة الزراعية الحديثة التي تساند الفلاح في استصلاح الأراضي الزراعية، والاعتماد على الوسائل القديمة والبدائية في بعض الأحيان، مما يؤثر على حجم المردود الانتاجي للأرض ونوعيته.
• عدم توفير الأسمدة الكيمياوية الحديثة من قبل الدولة للفلاح، وإن توفرت فإنّها تعطى بأسعار باهظة غير مدعومة.
• عدم توفير البذور الجيدة للفلاح والتي تسهم بنحو انسيابي في رفع انتاجية المحاصيل الزراعية كمّاً ونوعاً.
• تحويل أكثر الأراضي الزراعية إلى دور سكن، مما تسبب في قلة الأراضي الصالحة للزراعة، مع غياب الرقابة الحكومية على هذا التصرف وعدم اتخاذ أية اجراءات رادعة لمنع ذلك.
• عدم احتضان الدولة للفلاح وعدم رعايته وتقديم الدعم الحقيقي له بنحو صحيح، وعدم الاستماع إلى آرائه تسبب في تعطيل عمل الجمعيات الفلاحية التي أصبحت مجرد علاقة وليس لها فعل يُذكر.
• قلة التخصيصات المالية من الحكومة المركزية والحكومات المحلية لدعم القطاع الزراعي في شتى تفاصيله، أدى الى التدهور الحاصل في هذا القطاع الحيوي.
• الإهمال الواضح للواقع الزراعي بنحو عام، جعل العراق سوقاً للمحاصيل الزراعية المستوردة من دول الجوار، وجعل العراق مستهلكاً وليس منتجاً بالرغم من توفر جميع المقومات في البلد لكي يكتفي ذاتياً في هذا المجال ويكون مصدراً للمحاصيل الزراعية.
• قلة ملاكات الهندسة الزراعية في الشعب الزراعية والعاملين في مجال الإرشاد الحقلي في معظم المحافظات، ما يؤثر سلباً على العملية الانتاجية الزراعية برمتّها.
• عدم توافق القوانين الحالية وخاصة قوانين الأراضي مع التطوير الزراعي وبالأخص قوانين الملكية وقانون (177) وقانون التأجير.
• عدم تفعيل قانون حماية الإنتاج الزراعي في الوقت الحاضر، إذ يرى معظم المختصين في هذا المجال أن من الضروري تفعيله بأسرع وقت للحاجة الماسة إليه للنهوض بالقطاع الزراعي.
• عدم وصول الخدمات الضرورية لكثير من القرى، حيث تتركز الخدمات المقدمة من قبل المجالس البلدية ومنظمات المجتمع المدني على بعض القرى دون أخرى وحسب المحسوبية والعلاقات الجانبية.
• عدم توفر شبكات المبازل النظامية التي تساعد على استصلاح الاراضي وتقليل نسبة الملوحة فيها، والاعتماد على الشبكات القديمة التي لا تواكب التطور العلمي في هذا المجال.
• استعمال الطرق القديمة في الري للبساتين والحقول، مما أدى إلى ملوحة التربة وعدم كفاية المياه لها.
• الفساد الاداري المتفشي في معظم مرافق مؤسسات الدولة والدوائر الزراعية الذي يُعوق عملية النهوض بالقطاع الزراعي.
• عدم حماية المنتجات الزراعية المحلية من منافسة مثيلاتها المستوردة من دول الجوار والدول الأخرى، ما جعل معظم الفلاحين يتركون مهنة الزراعة بسبب هذا التنافس الذي لا يستطيعون مجاراته.
• كما ان مشكلة عدم تنظيم عمليات التسويق وصعوبة إيصال المنتوج المحلي الى الأسواق لاعتماد المزارع او الفلاح على امكانياته الضعيفة جعل التاجر المستورد للمنتوج المحلي يسيطر على عملية التسويق والبيع الذي يناسب التاجر.
• ان المنتوج المحلي يتميز بالكلفة العالية لانعدام الممول الرئيسي للمحصول (الماء / الأسمدة / البذور / الوقود / الكهرباء) وقلة توفر الايادي العاملة مقارنة بالمنتوج المستورد، وقلة الوعي لدى المستهلك والمزارع تجاه ما يدخل من محاصيل، لما تحويه من امراض او حشرات او بذور او ادغال قد تمنح بيئة جديدة عند دخولها الى العراق له أثر سلبي على المنتوج المحلي والمستورد نفسه، على الرغم من أن أغلب المحاصيل المدخلة قد تكون معدلة وراثيا.
في العراق ليس الموضوع ببعيد عن الأزمات المتوالية، التي حدثت نتيجة لتدهور الواقع الاقتصادي بمختلف البلدان في تلك الفترة، إذ ليس لدينا أمن غذائي فعّال، ولا سياسة اقتصادية ناجحة وفاعلة، ولا حتى رقابة اقتصادية رصينة، تتبع السوق وتراقب عمل الموادّ الاستهلاكية والكمالية المستوردة.
إذا استمر انخفاض الأسعار فإن التدهور سيتزايد خلال الفترات القادمة، وهذا ما اتضح مؤخراً من خلال السياسة المالية الهشّة وما تضمنته فقرات وبنود قانون الموازنة الاتحادية للعام الحالي.
وعلى الرغم من غنى الاقتصاد العراقي، وما يمتلكه من ثروات نفطية وأموال هائلة، إلا أنه دخل في مرحلة الانحدار طوال سنوات ماضية، وهذا يعني أنه يعاني من مشاكل كبيرة وخطيرة تضعه في وضع لا يحسد عليه، لأسباب متعددة أهمّها تذبذب أسعار النفط العالمية، والفساد المالي والإداري الكبير الذي يستنزف موارده الاقتصادية والمالية، بالإضافة إلى غياب صنّاع القرار المتخصصين في الجانب الاقتصادي والمالي.
كما أن نسبة معدلات التدهور الاقتصادي العراقي، من المتوقع أن تصل إلى ما دون معدل النموّ الاقتصادي، وربما ترتفع نسبياً مع تزايد معدلات إنتاج النفط وانخفاض معدلات الأسعار في السوق العالمية، أما إذا استمر انخفاض الأسعار فإن التدهور سيتزايد خلال الفترات المقبلة، وهذا ما اتضح مؤخراً من خلال السياسة المالية الهشّة، وما تضمنته فقرات وبنود قانون الموازنة الاتحادية للعام الحالي، من حيث إدراج أسعار النفط في بنودها، دون التوقعات الواقعية لتذبذب أسعار النفط في السوق.
وبعدما عجزت السلطات العراقية عن معالجة المشكلات الحقيقية للاقتصاد العراقي، راحت تعمل على إيهام الرأي العام بإمكانياتها الاقتصادية، وبدلاً من أن تستحدث القوانين الاقتصادية الاستراتيجية القريبة والبعيدة المدى، أو إعادة تأهيل وبناء المشاريع الاقتصادية والصناعية ومصانع النسيج والألبان والحديد والصلب، وحقول الغاز والعمران والمشاريع العلمية، لم تقم بشيء يذكر.
ان التدهور في كافة القطاعات وخاصة الزراعية، كان من نتائجه تراجع حجم إنتاج العديد من المحاصيل، خاصة تلك التي عرفت بها البلاد تاريخيا كالنخيل مثلا، حيث تراجعت أعداد النخيل من حوالي 30 مليون نخلة قبل بضعة عقود الى حوالي 12 مليون نخلة، أما الرز فقد تراجعت المساحة المخصصة لزراعته.
وبناء على ما تقدم، نستنتج ان اهمال حكومات الاحتلال المتعاقبة لهذا القطاع الذي يمثل عصب الحياة، كونه ركيزة اقتصادية لا يمكن الاستغناء عنها، فبه يمكن ان تحل مشكلة البطالة بشكل كامل لو تم الاهتمام بالريف، وتوفير الخدمات بمختلف أنواعها، والاهتمام بالصحة، وتعبيد الطرق وتوفير الكهرباء، فلا سبيل للنهوض الاقتصادي وحل كافة الازمات المالية ومشكلة البطالة المستفحلة إلا باتخاذ الزراعة حلا إستراتيجيا.

 

وحدة الدراسات الاستراتيجية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية