النفوذ الروسي في ليبيا وخيارات السياسة الأمريكية

النفوذ الروسي في ليبيا وخيارات السياسة الأمريكية

في الوقت الذي تزايدت فيه الانتقادات ضد واشنطن لتخليها عن شركائها في المنطقة وتقليص وجودها وأنشطتها في ليبيا بعد هجوم أسفر عن مقتل سفيرها هناك، كانت روسيا قد بدأت فعلياً في ملء هذا الفراغ.

ويعد نفوذ موسكو المتزايد في سوريا وسط ما تشهده من حرب أهلية ودخولها في النزاع الدائر في ليبيا لصالح القائد العسكري خليفة حفتر، من بين التطورات الإقليمية المهمة بلا شك.

هجوم بنغازي بداية التراجع

في أعقاب هجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2012 على مجمع دبلوماسي أمريكي في بنغازي شرقي ليبيا، والذي أسفر عن مقتل ثلاثة موظفين أمريكيين، بينهم السفير كريستوفر ستيفنز، و10 من ضباط الأمن المحليين، تحولت سياسة واشنطن في ليبيا إلى مواقف سلبية دأبت من خلالها على متابعة التطورات من بعيد.

وكان مقتل السفير الأمريكي بمثابة صفعة كبيرة لإدارة باراك أوباما آنذاك، كما أن الهجوم الذي تزامن مع ذكرى هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001 في الولايات المتحدة، كان له تأثير نفسي كبير.

أدى هجوم بنغازي وتداعياته إلى تغييرات هائلة في سياسة الولايات المتحدة تجاه ليبيا، وأثار انتقادات الجمهوريين لإدارة أوباما، واتهامهم للأخير ووزيرة خارجيته هيلاري كلينتون بتعمد تضليل الرأي العام وعرقلة تحقيقات الكونغرس.

وقد أثيرت تلك المزاعم خلال حملة كلينتون لانتخابات الرئاسة عام 2016، والتي خسرتها لصالح الرئيس الحالي دونالد ترامب.

ورغم إعلان كلينتون قبولها بالمسؤولية عن الهجوم، ردا على الانتقادات الجمهورية خلال عام 2015 في مجلس النواب الأمريكي، فقد اتهمت الجمهوريين باستغلال مقتل الدبلوماسيين في ليبيا لتحقيق مكاسب سياسية.

ولم تتمكن كلينتون رغم كل الجهود التي بذلتها، من الحيلولة دون تحول هجوم بنغازي إلى صفعة كبيرة لحياتها السياسية، لاسيما مع خسارتها الانتخابات الرئاسية على نحو غير متوقع لصالح ترامب.

وخلال حملتها الانتخابية، تم التحقيق في رسائل البريد الإلكتروني لكلينتون إلى البعثة الدبلوماسية الأمريكية في بنغازي، وتم إتاحة معظمها للجمهور.

وتبين أن كلينتون استخدمت عنوان بريدها الإلكتروني الشخصي خمس مرات لمشاركة معلومات عن الموقع الدقيق للسفير الأمريكي في ليبيا الذي قُتل في الهجوم.

إضافة إلى ذلك، فإن رفض كلينتون للطلبات المتكررة لتعزيز الاحتياطات الأمنية قبل الهجوم عزز اتهامات لها بإهمال واجباتها. واتهم وزير الخارجية الحالي مايك بومبيو، كلينتون بالتملص من مسؤوليتها عن الهجوم.

تحول في السياسة الأمريكية

يعكس تعيين الجنرال كارتر هام، الذي كان قائداً للتحالف الدولي والعمليات في ليبيا عام 2011، رئيساً للقيادة الأمريكية في إفريقيا (أفريكوم) وشن عمليات في البلدان المجاورة ضد تنظيم القاعدة، تحولا في السياسة الأمريكية.

وفي هذا الصدد، قال هام إن هناك مؤشرات قوية على أن بعض المتشددين الذين نفذوا هجوم بنغازي كانوا مرتبطين بتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي، وأن ذلك التنظيم وحركة “الشباب” في الصومال وبوكو حرام في نيجيريا كانوا يحاولون العمل مع تنظيمات إرهابية أخرى في القارة الإفريقية.

ونتيجة لذلك، قلصت الولايات المتحدة وجودها وأنشطتها في ليبيا إلى عمليات محدودة من خلال “أفريكوم”.

ومنذ ذلك الوقت تطور موقف واشنطن تجاه الحرب في ليبيا إلى استراتيجية “انتظر وشاهد”، مع دعمها الجهود الأممية في ليبيا للتوصل إلى حل سياسي تفاوضي منذ عام 2014.

وتابعت الولايات المتحدة التطورات عن بُعد وقصرت أنشطتها على محاربة الجماعات الإرهابية مثل “داعش” وتنظيم القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي في ليبيا.

لكن التدخل الروسي كان حافزا مهما دفع الولايات المتحدة إلى مراجعة سياستها تجاه ليبيا.

هجوم طرابلس وتحالف حفتر مع روسيا

على الرغم من مرور ثماني سنوات على ثورة 2011 التي أنهت حكم معمر القذافي الذي دام 42 عاما، لاتزال البلاد تكافح مع أشباح النظام القديم ولم يتم بناء نظام ديمقراطي مستقر بعد.

ولم يحرز حفتر حتى الآن تقدماً ميدانيا في العملية الجارية للاستيلاء على العاصمة الليبية طرابلس والتي بدأها منذ أبريل/ نيسان الماضي، مما أثار بعض المخاوف بشأن التحالفات الوطنية والدولية.

وكانت هزيمة قوات حفتر في أبريل/ نيسان من قبل قوات حكومة الوفاق الوطني المعترف بها دولياً في منطقة العزيزية بالقرب من طرابلس، والتي أدت إلى نكسة في خططه الخاصة بشن هجوم مباشر على العاصمة، نقطة تحول مهمة أيضا في سياق الحرب، لأنها كشفت عن وجود مرتزقة روس في البلاد.

وأعلن محمد قنونو، المتحدث باسم قوات الوفاق، أنه تم تحييد ثمانية مرتزقة من شركة الأمن الروسية “فاغنر” خلال العمليات.

من ناحية أخرى، تواترت تقارير إعلامية تفيد بخضوع أحد المطارات الليبية لسيطرة القوات الروسية.

بالإضافة إلى تلك الادعاءات، تردد أنه تم تسليم ملياري دينار ليبي (1.42 مليار دولار) مطبوعة في روسيا إلى بنك ليبيا المركزي الموازي (تابع للحكومة المؤقتة غير المعترف بها المدعومة من حفتر) ومقره البيضاء (شرق) في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي.

وتعد ليبيا مهمة للغاية بالنسبة لروسيا كموطئ قدم عسكري في البحر المتوسط، يمكن من خلاله فتح آفاق جديدة بمقدورها توسيع مجال المناورة للروس في السياسة العالمية.

احتمالية تحول روسيا إلى جهة فاعلة حاسمة في السياسة الليبية تنطوي على خطر تأثير موسكو على قضايا مثل إمدادات الطاقة المتوسطية وسط اتهامات لها بالسعي للهيمنة على النفط الليبي.

هذه العلاقة الوثيقة التي طورها حفتر مع روسيا مالياً وعسكريا حشدت ضدها الجهات الدولية الفاعلة التي كانت وللمفارقة تنتظر سيطرة حفتر على البلاد.

وكثفت تلك الجهات جهودها لاستئناف المفاوضات، ودعت إلى حل سياسي لموازنة النفوذ الروسي المتزايد.

وعلى الرغم من بذل الممثل الخاص للأمم المتحدة في ليبيا غسان سلامة جهودا لتنظيم مؤتمر في العاصمة الألمانية برلين للعودة إلى عملية التسوية السياسية، فإن موعد المؤتمر لم يتحدد بعد.

وعندما بدأ حفتر هجومه على طرابلس في أبريل/ نيسان، اتصل به الرئيس الأمريكي ترامب وقال إنه يتوقع النجاح في وقت قصير وأعرب عن دعمه للعملية.

وأشار دعم ترامب لحفتر إلى زيادة اهتمام الولايات المتحدة بالتطورات في ليبيا، رغم حفاظ المؤسسات الأمريكية على حيادها في النزاع الليبي خلال هذه الفترة.

ومع ذلك، دفع تورط روسيا في المعادلة الليبية، الولايات المتحدة إلى إعادة النظر في دعمها لحفتر.

وكانت ليبيا بنداً هاماً في جدول الأعمال خلال اجتماع وزير الخارجية الأمريكي مايك بومبيو ونظيره الإيطالي لويجي دي مايو في 1 سبتمبر/ أيلول الماضي.

وصرح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، بعد اجتماع وزاري ليبي في الولايات المتحدة في وقت سابق، أنه في إطار القضايا المتفق عليها في مؤتمرات باريس وباليرمو وأبو ظبي حول ليبيا، يجب اعتماد وقف لإطلاق النار وحل سياسي.

ووسط كل هذه الزخم الدبلوماسي، فإن التطور الذي تم تجاهله هو أن واشنطن عمدت إلى تعديل سياستها الخارجية تجاه ليبيا.

ويمكن اعتبار زيارة نائب رئيس البعثة الأمريكية في ليبيا، جوشوا هاريس، إلى بنغازي في أكتوبر/ تشرين الأول الماضي مطالبا بإنهاء الحرب في طرابلس، بمثابة عودة للسياسة الخارجية الأمريكية إلى المربع الأول بعد هجوم بنغازي، وهي الزيارة التي عدت الأولى من نوعها لمسؤول أمريكي منذ 5 سنوات.

كذلك لم يغب الوجود الروسي في ليبيا عن اجتماع بين بومبيو ووزير الخارجية الإماراتي عبد الله بن زايد جرى في 22 نوفمبر/تشرين الثاني المنصرم.

وتحاول الولايات المتحدة التصالح مع ليبيا من خلال التحالفات الإقليمية التي تدعم حفتر، إلا أنه بات بالإمكان أيضاً التنبؤ بفترة تسعى فيها واشنطن إلى “تبني” قائد بديل في ليبيا بعد اتصالاتها الوثيقة مع الأطراف الفاعلة هناك، خاصة في ظل استعداد روسيا لاتخاذ خطوات أكثر نشاطا باسم تأسيس نفوذ جديد في البلد العربي الغني بالنفط.

(الأناضول)