السياسات الاقتصادية في العراق لابد من تغيير

السياسات الاقتصادية في العراق لابد من تغيير

الباحثة شذى خليل*

لفهم واقع الاقتصاد العراقي والتنمية الاقتصادية يجب فهم طبيعة ونشأة الاقتصاد العراقي لمعرفة الواقع والمستقبل الذي ينتظره.
ولو رجعنا الى التشريعات التي أصدرت ما بعد عام 2003 التي شكلت الأساس الذي بنيت عليه المنظومات لبناء ما يعرف بالدولة ، والذي اعتمد المحتل في بنائه على قوانين أصدرها وشرعها هو نفسه مثل قانون إدارة الدولة وقانون الإدارة المالية، وتجاهل إرث الدولة العراقية لثمانية عقود من الزمن، مما خلق التباينات بين فئات المجتمع، وهمشت فئات وغابت المساواة وأثيرت النزعات الدينية والطائفية والعرقية وغاب مفهوم الوطن، واستعيض عنه بالمكونات مما أشر فشلا في كل المجالات، ظهر ذلك بجلاء بعد انسحاب الجيش الأمريكي في سنة 2011.
وانعكس ذلك بتوزيع الثروة بين الأفراد والمكونات والمحافظات ومعيار توزيع الثروة عرقي وطائفي، مما انعكس بشكل مباشر وغير مباشر على هيكلية الاقتصاد العراقي وأداؤه.
فالاعتماد الكلي على واردات بيع النفط يخلق ثقافة اتكالية ولا يدفع الدولة والشعب نحو الإنتاج الاقتصادي المنافس المثمر. وعندما تقترن هذه الظاهرة بحكومة تستحوذ على ريع الموارد النفطية لتعزيز استبدادها وزيادة ثروات قادتها، تكون النتائج مدمرة.
إلى معرفة ما هو الريع ؟ ومن هي الدولة الريعية ؟ وما هي المساوئ المترتبة على اقتصادها . أول من استعمل هذا المصطلح – أي الريع – باعتباره شكل من أشكال المردود المالي هو ( ادم سميث ) في كتابة ( ثروة الأمم ) ، ولكن أول من استعمله كنمط اقتصادي هو ( كارل ماركس ) في كتابة ( رأس المال ) ، وان معنى كلمة الريع هو النماء والازدهار .
أما بالنسبة لمصطلح الدولة الريعية يمكن تعريفها : بأنها الدولة التي تعتمد وبشكل شبه كلي على مصدر واحد لسد إنفاقها الحكومي وهذا المصدر يتمثل بالنفط ، وان الدولة النفطية ذات الاقتصاد ألريعي تكون معتمدة بصورة كبيرة على النفط وبذلك يكون اقتصادها مبني على مستويين :- -المستوى الداخلي: يتمثل في تحكم الدولة بموارد النفط مع تحديد طرق إنفاق عائداته. -المستوى الخارجي: ويتمثل في الاعتماد على النفط وما يدره من عوائد.
الدولة التي تحصل على جزء كبير من دخلها من مصادر خارجية سواء كان ذلك من موارد طبيعية أو زراعية او استخراجية على شكل ريع تتحكم الدولة في السيطرة علية وتوزيعه. لقد أثير الجدل حول مصطلح الدولة الريعية خصوصا بعد ظهور مصطلح الدولة ما بعد الريعية ، ولكن هناك إجماع على أن الدولة الريعية هي تلك الدولة التي تعتمد على العائدات النفطية لسد نفقاتها الحكومية .
أما الدولة ما بعد الريعية فهي الدولة التي تعتمد على عائدات صادراتها من المواد الأولية من اجل سد إنفاقها الحكومي . وعلية يمكننا أن نقسم الريع إلى ثلاثة أقسام :
*الأول : الريع الطبيعي ويتمثل بالموارد الطبيعية المتوفرة لدى الدولة ، كالنفط والثروات المعدنية الأخرى .
*الثاني: الريع الاستراتيجي ويتمثل هذا النوع من خلال موقع الدولة من حيث الموانئ ومدى تحكمها بطرق التجارة أو تمتعها بميزة جيو سياسية كالأشراف على الممرات المائية .
*الثالث : الريع التحويلي ويتمثل بما تحصل علية الدولة من معونات ومنح بالإضافة إلى أشكال الدعم الأخرى .
العراق والدولة الريعية:- يمتلك العراق العديد من الموارد التي لم يتم استغلالها بشكلها الأمثل وتم الاعتماد بشكل كلي على مورد واحد والمتمثل بالنفط وإهمال باقي القطاعات الأخرى التي لو تم الاهتمام بها والقيام بتنفيذ مشاريعها لأصبح العراق من أغنى دول العالم . إن سمة الاقتصاد العراقي اليوم ومنذ فترة طويلة وبالأخص بعد عام 2003م هي انه اقتصاد ريعي بامتياز واعتماد الدولة العراقية على المدخلات النفطية لا غير جعلها بموقف صعب جدا ، لكون الميزانية الاتحادية تحسب بالدرجة الأساس على النفط وبنسبة 95% ولم تعتمد على القطاعات الأخرى والسمات الأساسية للاقتصاد العراقي كونه اقتصادا ريعيا هي:
– جميع إيرادات الدولة تأتي من عائدات النفط .
– النفط هو المصدر الأساس للاقتصاد المحلي .
– المستلم لإيرادات النفط الريعية والمتصرف بها هي الحكومة .
– النشاط السكاني يتركز على استهلاك وإعادة توزيع الريع النفطي دون سعي في إنتاجه .

اذ يمتلك العراق الكثير من المصادر التي تمكنه من النهوض بالواقع الاقتصادي والخروج به من دائرة الاقتصاد ألريعي أحادي الجانب إلى اقتصاد منتج ومتطور ومتنوع ، وذلك من خلال تفعيل دور القطاعات الاقتصادية الأخرى كالزراعة والصناعة بالإضافة إلى القطاع الخدمي والسياحي .
إن العراق لديه مقومات للسياحة الدينية كبيرة جدا لو تم وضع عدد من الخطط التنموية والإستراتيجية لاستثمارها لانتقل الاقتصاد العراقي نقله نوعيه وكبيرة ، ولكن في نفس الوقت هناك عدد من المعوقات التي تحول دون الانتقال بالاقتصاد العراقي من الاقتصاد ألريعي إلى الاقتصاد المنتج ومن ابرز هذه الأسباب ما يلي :-
• الوضع الأمني المتردي .
• التخبط السياسي وعدم توحيد المواقف السياسية من قبل النخب الحاكمة .
• الطريقة المتبعة في تنفيذ العقود الحكومية وطبيعة توجه هذه العقود . ومن ابرز المساوئ الملاحظة على الاقتصاد ألريعي في العراق ما يأتي :-
• (1) سيطرة فئة دون أخرى على مراكز الثروة والتحكم المباشر في توزيعها .
• (2) سوء التوزيع في الدخل القومي ، فعلى الرغم من غنى الدولة لكن لا يستفيد منها جميع أفراد المجتمع .
• (3) إن المجتمع العراقي مجتمع استهلاكي ومستورد لكل شيء بالرغم من إمكانية التقليل من هذا الاستيراد من خلال تنشيط القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية داخل البلد ، وبالتالي تحويل الاقتصاد من الريع إلى اقتصاد أكثر تنوعا وتكاملا .
• (4) التبعية السياسية والاقتصادية من قبل الدولة اتجاه الدول الكبرى .
• (5) من اكبر مساوئ الدولة الريعية هو اعتمادها على مورد واحد وهو النفط ، ففي حال قلته أو نضوبه –نفاده– سوف يؤثر بشكل سلبي على كل مجالات الحياة . أخيرا يمكننا وضع عدد من النقاط التي يمكن من خلالها النهوض بالاقتصاد العراقي والتحول به نحو الاقتصاد المنتج وكما يلي:- • الاهتمام بالقطاع التعليمي لأنه يمثل حجر الأساس في أي نهضة مجتمعية ومن خلاله يتم إطلاق الكوادر الكفيلة بأجراء أي تغييرات سياسية أم اقتصادية أم اجتماعية .

لابد من تغيير
هذا التغير لا يمكن أن يحصل بين عشية وضحاها. فقد نشأت طبقة واسعة من الموظفين غير المنتجين، البعض منهم مجرد لولب صغير في ماكينة الفساد الجبارة. هذه الطبقة لن تتقبل التغيير والإصلاح طائعة، ولن تعترف بواقع طفيليتها ولن تتخلى عن امتيازاتها غير المشروعة بسهولة.

ففي الجيش تضخم عدد حاملي الرتب العليا بلا استحقاق وبشكل لا يتماشى مع حجم الجيش وقدراته. فعدد الجنرالات في الجيش العراقي عشرة أضعاف عددهم في الجيش الأميركي! أما مستواهم المهني فقضية مختلفة جدا. وقل مثل ذلك في الشرطة ودوائر الحكومة الأخرى الفيدرالية منها والمحلية، بشهادات الكثير منها مزورة أو صادرة من مؤسسات تافهة.

ولا ننسى عشرات الآلاف إن لم نقل مئات الآلاف من “الفضائيين” والنواب الذين يقبضون رواتب تقاعدية لعملهم في البرلمان لدورة واحدة، إضافة للمستفيدين من قانون رفحاء وقانون السجناء السياسيين الحقيقيين والمزورين.

لم يكن كل ذلك إلا لترسيخ ما يكفي من الولاءات إلى درجة تسمح بالنهب الكبير، الذي ترتكبه الأحزاب وقياداتها من المشاريع الكبرى، الحقيقية منها والوهمية. باختصار هي عملية نهب منظمة لموارد الدولة، التي ينبغي أن تصرف لخدمة جميع الناس وتحسين حياتهم.

كيف نخرج من هذه الحالة المرَضية الشاذة التي لا يمكن استمرارها؟ وكيف نتحول إلى الحكم الرشيد بحيث تقتصر دوائر الدولة على الحد الأدنى من الموظفين والمنتسبين المؤهلين للقيام بأعمالها؟ سوف يقتضي ذلك بالتأكيد تقليصا كبيرا في عدد الموظفين والمنتسبين وسد ثغرات الفساد المنظم.

فهناك نوعيين من الموظفون في الدولة بإنتاجية متدنية جدا يعيشون على مواردها بشكل طفيلي، وصنف آخر محرومون من الوظائف الحكومية يحلمون بالحصول عليها، في وقت لم تعد فيه الجامعات معنية برفع المستوى العلمي، بقدر اهتمامها بإصدار شهادات هي بمثابة إجازات عمل في الدولة، لا يصلح الحائزون عليها لأي عمل إنتاجي مثمر.

إذا حصلت هزة في سوق النفط وانخفض سعره أو تعرقل تصديره لأي سبب تعرضت الدولة بكاملها إلى خطر الانهيار.

الحالة التي يجب أن نصل إليها، هي حالة الحكم الرشيد، الذي لا يحمي النهب المنظم بل يحمي حقوق الجميع وفي مقدمتهم الضعفاء والمحرومون. والخطوات الضرورية لتحقيق ذلك والتي ينبغي أن تدرس قد تتضمن الآتي:

استعمال التكنولوجيا الحديثة لإكمال مشروع الهوية الموحدة، التي تستخدم العلامات البيولوجية لكل فرد، فيكون له (أو لها) رقم وحيد ثابت يُستعمل في كل تعاملات الفرد مع الدولة. هذا سوف يساعد على القضاء على ظاهرة تعدد الرواتب الحكومية للشخص الواحد وظاهرة “الفضائيين”.

إعادة النظر في أجهزة الحكومة برمتها وإلغاء المؤسسات والدوائر، التي لا تضيف شيئا سوى طبقات من البيروقراطية عديمة الفائدة ومكلِفة وربما مضرة. مثال على ذلك، إذا عززنا ديوان الرقابة المالية ورفدناه بالعناصر النزيهة الكفوءة فلن نحتاج إلى دوائر المفتشين العامين ولا إلى هيئة النزاهة ولا إلى المجلس الأعلى لمكافحة الفساد الذي أنشئ مؤخرا.

إدخال الحوسبة على نطاق واسع في عمل دوائر الدولة مع أنظمة يضعها أخصائيون، تتيح مراجعة كل الخطوات في كل معاملة حكومية مع توقيتاتها والشخص الذي أمضاها أو أوقفها، وتسهيل عملية التفتيش على حسن سير العمل، لتكون أداة هامة في الحد من الفساد الإداري.

إنشاء مجلس الخدمة العامة والحرص على أن يقوم عليه إداريون مؤهلون مشهود لهم بالكفاءة وغير مسيسين، حتى وإن استقدمناهم من خارج البلد في المراحل الأولى. ويكون التعيين في كل دوائر الدولة من خلال هذا المجلس حصرا وبالتنافس الفعلي.

ترشيق دوائر الدولة المدنية منها والعسكرية، بإشراف وإدارة مجلس الخدمة العامة إلى الحد الأدنى القادر على أداء مهماتها والاقتصار على الكفوئين المؤهلين وفق معايير محددة للتأكد من الخبرة.

التخلي عن مبدأ التوظيف مدى الحياة، فالذي يعمل في الدولة يكون شأنه شأن الذي يعمل في القطاع الخاص، وعليه أن يكون منتجا ولا ترقيته وظيفيا إلا بشكل تنافسي( التنافس يخلق الابداع ) .
وإذا وُجد أنه فائض عن الحاجة أو مقصر في عمله يكون بالإمكان إنهاء خدماته بعد إجراءات مبسطة وعادلة، وإحالته إلى سجل المسرحين من العمل وتتم معاملته مثلهم حتى يجد عملا آخر. وتكون الإجراءات التي تحكم كل ذلك بإشراف مجلس الخدمة العامة، الذي ينبغي تحصينه من المحسوبية والابتزاز وسوء الاستغلال.

تقوية نظام الضمان الاجتماعي، بحيث يشمل جميع المواطنين العاطلين عن العمل بدون استثناء، وتكوين مراكز تدريبية لتهيئة الفنيين والإداريين الذين يحتاجهم القطاع الخاص.

هذه التغييرات تعني ثورة في المفاهيم والعقليات والتحول من الثقافة الاتكالية الطفيلية إلى الثقافة التنافسية المنتجة، باستثناء غير القادرين على العمل.

لكن جميع الإصلاحات لن تكون ممكنة دون استتباب الأمن وخلق بيئة مشجّعة للقطاع الخاص والاستثمار الوطني والخارجي لخلق فرص عمل متزايدة ولاسيما للشباب.

تجارب في مجتمعات ناجحة :
الصين مثلا، حيث كانت كل القوى العاملة تعمل في الدولة حصرا في عام 1965. لم يكن هناك أي عمل خارج الحكومة. وفي عام 1997، أي بعد سنوات من الانفتاح الاقتصادي، الذي أحدثه دينغ شاو بنغ، كان العاملون في القطاع الخاص يمثلون حوالي 10 بالمئة من القوى العاملة وينتجون 50 بالمئة من الناتج القومي. وبعد عشرين عاما أي في 2017 وصلت نسبة العاملين في القطاع الخاص حوالي 44 بالمئة من مجموع القوى العاملة (340 مليونا من مجموع 776 مليونا). حدث كل ذلك في بلد يحكمه الحزب الشيوعي ولا يزال يدعم القطاع العام لأسباب أيديولوجية وأمنية.

وفي بلدان ريعية أخرى مثل المملكة العربية السعودية ودول الخليج الأخرى، مع اختلافاتها، هناك برامج لتقليص التوظيف الحكومي وتوسيع دور القطاع الخاص، يمكن دراستها والاستفادة مما يمكن الاستفادة منه.

الثروات التي توفرها الإصلاحات وترشيق الجهاز الحكومي والسيطرة على الفساد المالي والإداري، يمكن أن تستخدم في بناء وتطوير البنية التحتية من طرق وجسور ومواصلات واتصالات ورفع مستوى التعليم والخدمات الصحية، وسوف تحدث انقلابا في مستوى الحياة في البلد ويكون أثرها التراكمي عظيما. ومن دونها سنبقى في مسار منحدر نهاياته كارثية بلا شك.

وحدة الدراسات الاقتصادية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية