اغتيال سليماني والراهن الإيراني

اغتيال سليماني والراهن الإيراني

ثأرت إيران الجريحة لاغتيال الجنرال في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني، بإطلاق صواريخ على قاعدتين أميركيتين في العراق اقتصرت نتائجها على أضرار مادية. لكن المثير والمحزن في آن أن نحو 150 إيرانيا زهقت أرواحهم نتيجة، أو بالتزامن مع، اغتيال سليماني، منهم من سقط بالتدافع لحظة تشييعه، ومنهم من احترق على متن الطائرة الأوكرانية التي اعترفت طهران بإصابتها بصاروخ إيراني بالخطأ! كلفة انتقام باهظة الثمن لولي الفقيه، علي خامنئي، وصفر ضحايا للرئيس الأميركي، دونالد ترامب. وعلى الرغم من حالة التأهب القصوى لدى الطرفين إلا أنهما تبادلا الإعلان عن نيتهما عدم التصعيد.
لماذا؟ يشكّل اغتيال سليماني ضربة قاصمة، إن لم نقل قاضية، للنفوذ الإيراني في المنطقة. كان سليماني العقل المدبر والمخطط والمنفذ لتوسّع وتمدّد نظام الملالي، الساهر على التطبيق الفعلي لشعار “تصدير الثورة” الذي أطلقه مفجّرها ومرشدها الأول، روح الله الخميني، عام 1979. هو القائد العسكري والميداني الذي كان يجول بين ساحة وأخرى، تجسيدا للشعار الذي كان يتباهى به الحرس الثوري في السنوات الأخيرة “طهران تسيطر على أربع عواصم عربية، بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء”. وسليماني هو من صرّح، بعد الانتخابات النيابية في لبنان، في مايو/أيار 2018، بأن “فريقنا أصبح لديه الأكثرية في البرلمان بحصوله على 74 مقعدا”! وهو الذي مارس دور الحاكم بأمره في بغداد، مقيما يعمل على تجميع القوى الشيعية الموالية لإيران بعد الانتخابات لكي يأتي برئيس حكومة مضمون الولاء. وسليماني هو الذي خطّط لأكثر من معركة عسكرية في سورية ضد المعارضة، وهو من شارك مع الروس في معركة إسقاط حلب في ربيع 2016، ودخل مزهوّا على دماء آلاف الضحايا السوريين.
هو إذاً الابن المدلل لنظام الملالي، ورأس الحربة في مشروع “تصدير الثورة” الذي بدأ فورا بعد
“تبدو القيادة الإيرانية مربكة ومدركة خطورة السلوك باتجاه التصعيد، وقد انعكس الأمر فورا على “ساحاتها”انتصار الثورة الخمينية فلسطينيا بمحاولة فرض الوصاية على الفصائل الفلسطينية المسلحة، ورفع شعار تحرير القدس، وإنشاء “فيلق القدس” الذي تسلّم زمامه سليماني منذ عام 1998. ثم نجحت طهران في استمالة حافظ الأسد في سورية إلى جانبها في بداية الثمانينيات، لاستعماله في حربها ضد رفيقه اللدود في حزب البعث صدّام حسين في العراق. وبعد أن وضعت رجليها في دمشق، بدأت تتمدّد وتتوسع تدريجيا في المنطقة، بدءا من لبنان، بالتواطؤ مع الأسد، عبر محاصرتها المقاومة الوطنية (الشيوعية تحديدا) ضد الاحتلال الإسرائيلي، وتحويلها إلى مقاومة إسلامية بيد طهران، يجسّدها حزب الله الإيراني الولاء الذي أعلن رسميا عن نفسه عام 1985. والباقي أصبح جزءا من الحاضر الذي تبلور خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة بتسلّم سليماني زمام القيادة الميدانية، بدءا من حرب يوليو/تموز 2006 ضد إسرائيل، وهذا ما كشف عنه أخيرا الأمين العام لحزب الله، حسن نصرالله، الذي نشر، قبل أيام، صورة له مع سليماني وعماد مغنية (اغتيل عام 2008)، وهم يستعرضون معا على خريطة وقائع حرب الثلاثة والثلاثين يوما. كان سليماني في حاجةٍ لمعركة يقودها ليثبت وجوده ودوره وكفاءته قائدا عسكريا ميدانيا. وقبل اندلاع الثورة في سورية، كانت إيران قد ثبّتت رجليها في العراق، بعد غزو الولايات المتحدة، برئاسة جورج بوش الابن، عام 2003، العراق وإسقاط صدّام حسين ونظامه، ثم تركت البلد لنظام الملالي كي يدير مرحلة ما بعد صدّام. وتمكّنت طهران، خلال سنوات معدودة، من الإمساك بالسلطة، وفرض رجلها نوري المالكي، بعد الانتخابات في عام 2008. ثم جاء اندلاع الثورة في سورية ليكرّس سليماني مهندسا وقائدا فعليا للنفود السياسي والعسكري الإيراني، الآخذ في النمو والتمدّد وصانع للقرار، وكذلك بارتكاب المجازر في سورية. وما عجز عنه خامنئي نفسه حققه سليماني بتوجهه إلى موسكو، وإقناعه الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، بضرورة التدخل العسكري لإنقاذ نظام بشار الأسد الذي كان يوشك على الانهيار.
إطلاق الحرب على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) عام 2014 في سورية والعراق من جهة، وتوقيع الاتفاق النووي في منتصف 2015 بين إيران والغرب من جهة أخرى، أطلقا لاحقا يد نظام الملالي في المنطقة، وعبّدا الطريق أمام سليماني الذي اصبح قائد المليشيات الشيعية وغير
“كان سليماني رأس الحربة في مشروع “تصدير الثورة” الإيرانية”الشيعية من مختلف الجنسيات التي راحت تعيث فسادا في شعبي سورية والعراق، فقد أحكمت إيران قبضتها على الوضع في العراق، حيث دفعت باتجاه تفريخ عشرات المليشيات، إلى درجة أن كل تشكيل سياسي شيعي عراقي أصبح له مليشيا مسلحة، ما يسهل على سليماني اللعب على التناقضات، وحب السلطة بينهم، وفي الوقت نفسه، التحكّم بالعملة السياسية في بغداد، عملاً بمبدأ “فرّق تسد”. وقد تم تجميع هذه المليشيات تحت مظلة “الحشد الشعبي” الذي تحوّل إلى جيش موازن رديف للجيش العراقي النظامي، يحرّكه سليماني عن بُعد، ويحضر إلى بغداد عند الضرورة، يمارس دور الوصي والموجّه. وفي لبنان، بعد أن شلّ السلطة السياسية، وعطل رئاسة الجمهورية سنتين ونصف السنة، أعاد حزب الله رسم الخارطة السياسية، مستفيدا من الزخم الإيراني – الروسي وتراجع الدور الأميركي الأوبامي. وهكذا فرض في نهاية 2016 انتخاب ميشال عون رئيسا للجمهورية وحكومة برئاسة سعد الحريري، وإنما قرارها بيد حزب الله، وأدخل لبنان في “محور الممانعة”، وبات قراره السيادي والإقليمي في يد طهران. وبعد ثلاث سنوات، انتفض الشارع على هذه السلطة الفاسدة، ومرتهنة للخارج، في ثورةٍ شعبيةٍ مستمرّة منذ ثلاثة أشهر.
كبر حجم سليماني ودوره وتضخّما إقليمياً إلى درجة أنه بات يعتبر المرشّح الأقوى لرئاسة الجمهورية في إيران، فيما ذهب بعضهم إلى أبعد من ذلك، مفترضا أنه لو كان معمّما كان سيصبح خليفة مرشد الثورة خامنئي، فهل لهذا الحجم الذي أصبح عليه الرجل علاقة باغتياله؟ شكّل دخول دونالد ترامب البيت الأبيض إيذانا ببدء العد العكسي لنهاية سليماني. كان الجميع يتوقع من الرئيس الجديد استعادة زمام المبادرة في الشرق الأوسط، بعد انكفاء أوباما، ولعب دور حاسم تحديدا في الساحة السورية، بعد أن دخلها الدب الروسي بقوة، إلا أن ترامب فاجأ الجميع، عندما أعلن أنه غير معني بإسقاط بشار الأسد، وإنما بتحجيم النفوذ الإيراني في المنطقة، وإعادة نظام الملالي إلى داخل حدوده، ما أثار استهجان كثيرين، أي إنه كان يقصد بالضبط الدور الذي
“كبر حجم سليماني ودوره وتضخّما إقليمياً إلى درجة أنه بات يعتبر المرشح الأقوى لرئاسة الجمهورية في إيران”كان يقوم به اللواء سليماني، وليس اللقب أو المهمة الرسمية التي كان موكلا بها بصفته قائد “فيلق القدس”! رب قائل إن الطريق إلى القدس تمر عبر كل هذه العواصم العربية، غير أن ترامب قرّر، منذ اليوم الأول لولايته، أن تطويع إيران هو مفتاح الدخول إلى أزمات المنطقة، وليس العكس. لذلك قرّر إلغاء الاتفاق النووي لقناعته بأنه أطلق يد طهران في المنطقة، بالتزامن مع تشديد العقوبات عليها، أملا ربما بتحريض الإيرانيين عليها، فهل كابرت القيادة الإيرانية، أم أنها لم تستوعب نيات ترامب وخطته، أو أن سليماني لعب دور “الصقر” الذي دفع باتجاه الاستمرار في الاندفاعة الإقليمية؟ فاستمر تحدّي واشنطن في البحر والجو، وكذلك الاستفزازات لدول الخليج، من جديدها الهجوم على شركة أرامكو السعودية في سبتمبر/أيلول الماضي.
اغتيال سليماني يعني عمليا لترامب بداية نهاية دور إيران الإقليمي، وقد باشر فورا بقصف معبر البوكمال على الحدود العراقية – السورية، بهدف إغلاق الطريق التي تسعى إيران لمدّه من طهران إلى بيروت. فهل كان الاغتيال مخططا له مسبقا، وهل من تواطؤٍ في مكانٍ ما؟ غداة اغتيال سليماني، حط بوتين رحاله في دمشق، واستدعى بشار الأسد إلى مقر قيادة العمليات العسكرية الروسية، زيارة مذلة في الشكل والمضمون، هو جاء يقول للملالي إن سورية ساحتي والأسد دميتي. ويبدو أن طهران فهمت رسالة تحجيم دورها في سورية، إذ علق عضو مجلس الشورى الإيراني، علي مطهري، واصفا سلوك بوتين بالمهين، مثل سلوك ترامب في زيارتيه أفغانستان والعراق. في المقابل، تبدو القيادة الإيرانية مربكة ومدركة خطورة السلوك باتجاه التصعيد، وقد انعكس الأمر فورا على “ساحاتها” التي بدأ يلفها الشلل والضياع، فلا حكومة في بيروت، ولا حكومة في بغداد!

سعد كيوان

العربي الجديد