في حربها ضد “داعش”: هل كان لإيران دور في إحباط إبادة جماعية في عصرنا الحاضر؟

في حربها ضد “داعش”: هل كان لإيران دور في إحباط إبادة جماعية في عصرنا الحاضر؟

لا يوجد خلاف حول اعتبار إيران عدو إسرائيل اللدود والأكثر جدية في عصرنا. لذلك، من الطبيعي أن اغتيال أمريكا قبل نحو أسبوعين لقائد “فيلق القدس” في حرس الثورة، قاسم سليماني، الذي رباه الزعيم الأعلى علي خامنئي، أثار في إسرائيل رضى كبيراً. والحديث السائد في الخطاب الإسرائيلي الرسمي عن إيران وأذرعها العسكرية الشاملة وشيطنتها في الشرق الأوسط، يعد أمراً طبيعياً ومفهوماً بحد ذاته. ومن السذاجة أن نتوقع من دولة تقع في مواجهة مصيرية مع دولة أخرى ألا تصف سلوك دولة العدو بصورة مبسطة وأحادية الجانب، إذ هكذا تعمل آلة الدعاية الوطنية في أي دولة قومية حديثة، ديمقراطية وغير ديمقراطية. ورغم ذلك يجدر معرفة أن الواقع الجيوسياسي أحياناً معقد ومتعدد الوجوه أكثر مما يظهر في خطاب الدعاية الوطني، لا سيما عندما يصرخ التصادم بين أحادية البُعد في خطاب الدعاية، والعقل السوي إلى عنان السماء.

على سبيل المثال، إحدى المسلمات الأساسية للخطاب الإسرائيلي (والأمريكي) حول إيران، والمتكررة جداً منذ اغتيال سليماني، تقول بأن لإيران والمليشيات الشيعية التي تدعمها دوراً في ضعضعة الاستقرار في المنطقة. هذا الادعاء يتم قوله أحياناً كمسلمة دون أي دليل، وأحياناً يكون مدعوماً بوقائع وأرقام. مثلًا، المحلل العسكري في “هآرتس”، عاموس هرئيل، الذي يريد تعزيز هذا الادعاء، شرح بعد يومين من عملية الاغتيال (“هآرتس”، 5/1) بأن أيدي سليماني كانت ملطخة بدماء كثيرة، وأن تورط إيران في الحرب في أرجاء الشرق الأوسط ساهم بقتل عشرات آلاف الأشخاص. ادعاءات كهذه طرحت أيضاً في مقال هيئة تحرير “هآرتس” الذي كان رداً على تصفية سليماني (5/1).

ولكن في الوقت الذي تكون فيه هذه الأقوال بحد ذاتها صحيحة ودقيقة، فإنه مطلوب منا قدر كبير من العمى التحليلي كي نجهل حقيقة أن ثمة دوراً مهماً في السنوات الأخيرة للمليشيات الشيعية المؤيدة لإيران، إنه دور رئيسي أيضاً في إحباط سيطرة “داعش” على المجال في العراق وسوريا. وهذه مهمة كرسها لنفسه كما هو معروف تحالف دولي كامل، برئاسة الولايات المتحدة. وفي الوقت الذي رفع فيه تدخل إيران في سوريا والعراق (والتدخل الأمريكي في المنطقة) منسوب الدماء في الحروب الأهلية في هذه الدول، فقد ساهمت أيضاً في إنقاذ ملايين الأشخاص من استعباد “داعش”، وحتى إنقاذهم من الإبادة الجماعية، لو أن “داعش” تمكن من أن ينشئ فيها إمبراطورية دينية متعصبة وقاتلة.

يمكن الافتراض بأنه عند انتصار “الدولة الإسلامية في العراق وسوريا” فإن مصير ملايين “الكفار” الشيعة في هذه الدول لم يكن ليختلف كثيراً عن مصير اليزيديين، الذين جربوا فظائع المذبحة الجماعية لـ”داعش” التي هزت تفاصيلها من وقت غير بعيد الرأي العام العالمي. صحيح أن لا أحد يوهم نفسه بأن النشاطات العسكرية لإيران وتوابعها في الشرق الأوسط تستهدف في المقام الأول تحويل دولة آيات الله إلى دولة عظمى إقليمية، ولكن في الوقت نفسه لم يكن من الخطأ الاعتقاد بأن أحد أهداف تدخل إيران في الحروب الأهلية في العراق وسوريا هو مساعدة السكان الشيعة في المنطقة للدفاع عن أنفسهم أمام التهديد الوجودي لـ”داعش”. هذا الهدف أمر يستحق ومبرر، بالتحديد في نظر إسرائيل التي تهتم كثيراً بمصير يهود الشتات، ومثل هذا التجند في مساعدة الأخوة في الدين الذين يتعرضون لإبادة شعب، قد يثير درجة معينة من التقدير.

قد يكون هناك إسرائيليون حتى في أوساط قيادة الدولة لم يعتبروا انتصار “داعش” في الشرق الأوسط تهديداً لدولة إسرائيل. أجل، يبدو أن النضال ضد العدو الصهيوني لم يكن على رأس سلم أولويات تنظيم الدولة الإسلامية “داعش”.

إضافة إلى ذلك، يبدو أحياناً أن لو لم يظهر “داعش” بنفسه، لوجب على اليمين واليمين – وسط في إسرائيل اختراعه بشكل سريع؛ فبسبب النضال الدولي ضد “داعش” أقصي الموضوع الفلسطيني نهائياً إلى الزاوية. ونحن لا نريد التحدث عن التبرير الإسرائيلي الخالد ضد كل تسوية في الشرق الأوسط، الذي يتم رفعه على خلفية فظائع “داعش”، والذي يقول بأنه لا يوجد ما نتحدث عنه بشأن تسوية حقيقية مع من يريد أن ينبت في داخله وحشاً كهذا.

ورغم ذلك، نأمل بأن هؤلاء العنصريين من بين الإسرائيليين الذين يفرحون دائماً برؤية العرب يذبح بعضهم بعضاً، يمكنهم الفهم بأن سيطرة “الدولة الإسلامية” على فضاء الشرق الأوسط كانت ستنزل على المنطقة كارثة إنسانية ثقيلة جداً، التي كانت ستؤثر على المدى البعيد بشكل سيئ أيضاً على مستقبل إسرائيل.

ومقابل التهديد الاستراتيجي الذي وضعه “داعش” في العقد الماضي في قلب بلاد الهلال الخصيب، ساهمت إيران بشكل لا بأس به في وقف تدهور المنطقة كلها إلى هاوية حقيقية من الإبادة الجماعية الشديدة. وربما حتى بمستوى يقترب من الفظائع التي حلت بأوروبا المتنورة والمتحضرة في منتصف القرن السابق، التي كانت ستسود في المنطقة عند إقامة خلافة “داعش” في العراق وسوريا. والاعتراف بهذه الحقيقة لا يوجد فيه ما يقلل من إبعاد تهديد إيران لإسرائيل، مثلما لا يوجد فيه ما يطمس التأثيرات السلبية والضارة لتدخل إيران العسكري في الشرق الأوسط، أو الطابع المتعصب والديكتاتوري لنظام آيات الله. ولكن من أجل التعامل مع التهديد الإيراني بصورة منطقية، ومتزنة ومدروسة، فمن الأفضل لإسرائيل أن ترى واقع وسياق النشاط الإيراني في المنطقة بكامل تركيبته.

القدس العربي