إشارات عربية إيجابية لإخراج دمشق من أزمتها

إشارات عربية إيجابية لإخراج دمشق من أزمتها

لن ينفع السوريين التمسك بحليف إيراني مثقل بالأزمات فرضته الضرورة، خاصة بعد أن باتت الأوضاع العسكرية على الأرض شبه محسومة لصالح الحكومة السورية، والرئيس التركي أردوغان غارق في بحر من العداوات، وهناك إشارات مصالحة ترسل من دول عربية باتجاه دمشق، ولكنها إشارات لن تدوم طويلا، على الحكومة السورية أن تهيّئ الأجواء لالتقاطها بالعمل على إخراج الذئب الإيراني من الحقل العربي، بعد أن ساهمت هي في إدخاله.

تونس – لا جديد يأتي من سوريا، قد يكون هذا خبرا جيّدا؛ إيران غارقة في أزمتها الاقتصادية، بعد أن استنفدت قواها في التدخل بدول الجوار، ومواجهة الولايات المتحدة حول الملف النووي. وتركيا هي الأخرى اختنقت بلقمة يصعب هضمها، وانشغلت عن سوريا بمغامرة جديدة أثارت غضبا دوليا.حزب الله اللبناني محاصر، ليس فقط بالعقوبات المفروضة عليه من قبل دول صنفته ضمن التنظيمات الإرهابية، بل بالوضع اللبناني الداخلي المتأزم سياسيا واقتصاديا واجتماعيا.

ما زال هناك اقتتال في إدلب وضواحي حلب، مدنيون يطالهم الموت، أو يجبرون على النزوح عن منازلهم، وجنود سوريون يقتلون من قبل تنظيمات مسلحة، إلا أن شهية الإعلام شبه متوقفة عما يجري هناك، باستثناء تقارير تنقل أخبار مناوشات محدودة لا تثير انتباه أحد.

معركة محسومة
عسكريا، بات الأمر شبه محسوم لصالح الحكومة، بعد أن ساهم الدعم الروسي، ومن قبله الإيراني، في استعادة جميع الأراضي التي خسرتها الدولة تقريبا من داعش ومن تنظيمات مسلحة مدعومة من تركيا.

لم تعد سوريا هي المشكلة، بل هي تجلّ من تجلّيات مشكلة أكبر، هي من جهة إيران المحكومة بآيات الله، ومن جهة أخرى مطامع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان.

أصل الأزمة التي تعاني منها سوريا اليوم، لم يبدأ عام 2011، إثر أحداث مدينة درعا واعتقال خمسة عشر طفلا، بسبب كتابتهم شعارات تطالب بإسقاط النظام على جدار مدرستهم بتاريخ 26 فبراير 2011، ليبدأ بعدها حراك شمل المدن السورية في 15 مارس من نفس العام.

كل شيء بدأ إثر أحداث 11 سبتمبر، عمل إرهابي بهذا الحجم كان لا بدّ أن يواجه بانتقام على نفس السوية، فهل الصدفة وحدها هي ما حوّل سوريا إلى ساحة من ساحات المواجهة والانتقام، أم هو الحظ العاثر، أو هو غالبا سوء تقدير من الحكومة السورية؟

طاردت الولايات المتحدة الغاضبة تنظيم القاعدة، الذي اتهمته بالمسؤولية عن شن الهجمات داخل أفغانستان، وتابعت المهمة أيضا داخل العراق، ولحقت بعناصره داخل سوريا، بعد أن تجمّعوا هناك مستفيدين من الفوضى التي عمّت المنطقة، بالطبع ما كان لهذا أن يحدث لولا الرعاية التركية القطرية.

وجدت سوريا نفسها في مواجهة تطورات تجاوزت قدرتها على المواجهة، فاتجهت إلى الحليف الإيراني، دون أن تدري أن هذا الحليف مطلوب أيضا من قبل واشنطن، التي كانت على علم بتورط آيات الله بأحداث 11 سبتمبر، فالنظام الإيراني مدان، بشهادة لجنة 11 سبتمبر وأعضائها من الجمهوريين والديمقراطيين، وبوثائق صادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية، إلا أن واشنطن اختارت التكتّم على ذلك.

الأوروبيون ملّوا ابتزازات أردوغان وتلويحه الدائم بورقة المهاجرين، والولايات المتحدة رأت في تقاربه مع روسيا خطوة تعبّر عن عدم وفائه

وعندما حمّل الرئيس الأسبق بوش، فيلق القدس مسؤولية دعم شبكات تعمل ضد الأميركيين في العراق، وكان هذا في سنة 2007، نفى صناع القرار السياسي في واشنطن ذلك، واختاروا التكتم على الأمر، لأن ذلك لا يخدم، حسب رأيهم، أولويات السياسة الأميركية آنذاك.

تورط إيران بالإرهاب أشار إليه نائب الرئيس الأميركي، مايك بنس، صراحة في تصريحات لوسائل إعلام أميركية أوردتها قناة “سكاي نيوز” الفضائية يوم التاسع من يناير الجاري قائلا “نحن نتعامل مع نظام هو المموّل الأكبر والرئيس للإرهاب منذ 20 عاما”. وهذا يضعنا بالضبط مع أحداث الحادي عشر من سبتمبر.

وحرصت واشنطن على مدى 17 عاما على عدم خروج معلومات تشير إلى تورط إيران، إلى أن حل الرئيس الأميركي دونالد ترامب في البيت الأبيض، وأشار إلى هذا التورط في مناسبتين، الأولى كانت عام 2018، بالتزامن مع قرار الخروج من الاتفاق النووي مع إيران، وإعادة تطبيق العقوبات المفروضة عليها. أما المناسبة الثانية فكانت بعد سبعة أيام من استهداف ومقتل قاسم سليماني في مطار بغداد.

وكانت المحكمة الفدرالية في مارس 2016، وجهت الاتهام لإيران بتمويل وتدريب من نفذوا التفجيرات، في إطار علاقتها المؤكدة بتنظيم القاعدة، التي يعود تاريخها إلى سنة 1993.

قبول الولايات المتحدة بخسائر تقارب تريليوني دولار، في حروبها التي تلت 11 سبتمبر، يؤكد مدى جدية واشنطن في التعامل مع الإرهاب، وهي حتما لن تتساهل في التعامل مع حكام طهران.

كل هذه التطورات تؤكد اليوم أن الورقة الإيرانية لم تعد صالحة بالنسبة لسوريا، خاصة مع بروز اللاعب الروسي الذي قلل من أهمية الدور الإيراني داخل سوريا.

سقوط أوراق أنقرة

معضلة أخرى في الأزمة السورية، لا تقل في حجم تأثيرها عن الورقة الإيرانية، هي الموقف التركي؛ وكانت أنقرة، التي ربطتها علاقات ودية مع سوريا قبل بدء الأزمة في ربيع 2011، قد أدانت الرئيس السوري بشار الأسد، وانضمت إلى عدد من الدول الأخرى التي تطالب باستقالته.

ولم تكتف أنقرة بذلك، بل سارعت إلى تدريب المنشقين عن الجيش السوري على أراضيها، معلنة ميلاد ما سمي بالجيش السوري الحر، رغم أنه يدار بإشراف من أجهزة المخابرات التركية. وقامت بالتنسيق مع قطر بتزويد المتمردين بالأسلحة بما فيها المعدات العسكرية الثقيلة.

الحرب التي خاضتها أنقرة من وراء الستار خلال أربع سنوات، تحولت إلى تدخل عسكري مباشر، تحت ذريعة استهداف داعش والقوات المتحالفة مع الأكراد في سوريا.

خلال ذلك، استقبلت تركيا المعارضة السورية، التي عقدت اجتماعا في إسطنبول خلال شهر مايو 2011، لمناقشة تغيير النظام، وبدأت أنقرة في تدريب البعض من مقاتلي المعارضة السورية بإشراف مباشر من الاستخبارات الوطنية التركية.

ورغم أن 70 بالمئة تقريبا من الأتراك لا يوافقون حكومتهم حول السياسات التي تتبعها مع سوريا، وتعتبر نسبة 48 بالمئة منهم تقريبا الجيش السوري الحر “عدوّا” لتركيا، إلا أن ذلك لم يبدّل من موقف أردوغان الطامح لبسط نفوذه على المنطقة.

لم يتمكن أردوغان من إقناع دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة بدوافعه للتدخل المباشر في سوريا. فتنظيم داعش كما يعرف الجميع، صناعة تركية تكاد تكون خالصة، لقد أمّنت تركيا لثمانين بالمئة من أتباع داعش القادمين من مختلف دول العالم، ممرّات عبور إلى داخل الأراضي السورية، ووفّرت لهم الدعم اللوجيستي، ويوصف التنظيم بأنه الابن “غير الشرعي” للنظام التركي. ولم تسجل أية حادثة استهدفت فيها وحدات الحماية الكردية أمن تركيا، طيلة الفترة التي سيطرت فيها على شرق الفرات.

وكان عبدالله أوجلان، الزعيم الكردي المحتجز في السجون التركية قد دعا أتباعه إلى احترام المخاوف الأمنية التركية، ودعا أيضا إلى فتح حوار مع السلطات في أنقرة.

ورغم تحفظها طوال فترة الأحداث، انتقدت المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، موقف أردوغان، واعتبرت أن الاجتياح التركي للأراضي السورية، سيهيّئ الفرصة أمام الإرهابيين للهرب من السجون، وبالتالي إعادة تصديرهم إلى نقاط متفجرة أخرى، ويتسبب بتهجير عشرات الآلاف، يتم استخدامهم ورقة ضغط ضد الأوروبيين، وذلك بالتهديد بفتح الحدود أمامهم للتسرب إلى أوروبا.

نجح أردوغان في كسب عداوة الجميع. الأوروبيون ملّوا ابتزازه وتلويحه الدائم بورقة المهاجرين، والولايات المتحدة رأت في تقاربه مع روسيا خطوة تعبر عن عدم وفاء، إلى جانب استيائها من مواقفه الداعمة لتيارات الإسلام السياسي، أمّا جيرانه فيرون في أحلامه التوسعية تهديدا لمصالحهم الحيوية.

لم يعد أمام السوريين ما يراهنون عليه من بين القوى المتواجدة اليوم في الساحة السورية، سوى روسيا بزعامة فلاديمير بوتين، الباحث عن تعزيز مكانة روسيا استراتيجيا.

وبينما تبحث إيران عن تحالفات طائفية لبسط سيطرتها على المنطقة تحت غطاء ديني، ويبحث أردوغان عن إحياء حلم الإمبراطورية العثمانية، من خلال تمكين قوى الإسلام السياسي في المنطقة وعلى رأسهم الإخوان المسلمون، يبحث بوتين عن قواعد عسكرية في المنطقة، يدعم من خلالها مصالح روسيا الاقتصادية والأمنية.

إذا كانت تلك هي الخيارات المطروحة أمام السوريين اليوم، فأيّا منها يجب أن يختاروا؟ أمام حكومة دمشق فرصة لن تتكرر، روسيا هي أهون الشرور، ولكن هذا أيضا لن يكفي.

لقد غرقت سوريا في بحر من المتاعب، نجمت عن تسع سنوات من الاقتتال، وبالرغم من استحالة تقديم أرقام نهائية لحجم الخسائر التي تكبدتها البلاد، إلا أنها وفقا لتقديرات محلية ودولية تجاوزت 300 مليار دولار، تراجع خلالها الناتج المحلي الإجمالي من 60 مليار دولار عام 2011 إلى نحو 10 مليارات دولار عام 2019، كما تراجع حجم الموازنة العامة للدولة من 18.1 مليار دولار إلى نحو 8 مليارات دولار في العام 2020.

وتبلغ نسبة البطالة اليوم 80 بالمئة من مجموع القوى القادرة على العمل، وطال الفقر نسبة تزيد عن 90 بالمئة من مجموع السكان، بعد أن تضاعفت الأسعار بنحو 15 ضعفاً على ما كانت عليه عام 2011، في حين لم تزد الأجور بأكثر من 2.8 ضعف، ليتسبب ذلك في انحدار غالبية السوريين إلى ما دون خط الفقر، بأجور لا تزيد عن 50 ألف ليرة، بينما تحتاج الأسرة السورية إلى خمسة أضعاف هذا الرقم لسد احتياجاتها الدنيا شهريا.

في ظل ظروف مثل هذه، لن يكون كافيا التخلص من العبء الإيراني ومعه عبء حزب الله اللبناني، ولن تكفّ تركيا بزعامة أردوغان عن التدخل في سوريا دون ممارسة ضغوط دولية عليها، ولن تنجح هذه الضغوط أيضا إلا بعد خطوات يجب على السوريين الشروع في تنفيذها دون تردد. أولى هذه الخطوات تصحيح العلاقة مع الدول العربية الشقيقة، في خطوة متلازمة يعلن فيها الانفصال عن إيران.

هناك قناعة، ليس فقط على الصعيد العربي، بل وحتى الدولي، أن تغيير النظام السوري، وعلى رأسه بشار الأسد لم يعد ممكنا، وأن الإبقاء على الموقف الرافض لأي انفتاح على دمشق يخدم في النهاية توجهات قوى إقليمية، على رأسها إيران وتركيا.

وتشير الدلائل إلى تغيّر جدي بالموقف العربي تجاه سوريا، مفتاحه التخلي عن الورقة الإيرانية. لم تكن إيران حليفا حقيقيا لدمشق يوما، إنها حليف فرضته الضرورة، وهذه الضرورة تغيّرت.

ويمكن لدمشق الاستفادة من الدور الروسي، لإعادة الودّ المنقطع مع أشقائها العرب، والترحيب بها ثانية لتحتل مقعدها الشاغر في الجامعة العربية.

وكانت قناة “روسيا اليوم” قد ذكرت في ديسمبر الماضي أن السعودية تستعد لفتح سفارتها في دمشق وإعادة العلاقات الدبلوماسية مع الحكومة السورية.

ومؤخرا تناقلت وكالات الأنباء خبرا نشرته صحيفة “الوطن” السورية عن حضور مندوب دمشق الدائم للأمم المتحدة، بشار الجعفري، حفلا خاصا أقيم في نيويورك، تلبية لدعوة من قبل نظيره السعودي، عبدالله بن يحيى المعلمي، بعد شهر من حضور اتحاد الصحافيين في سوريا اجتماعات الأمانة العامة لاتحاد الصحافيين العرب، التي انعقدت في الرياض، الأمر الذي أثار حينها جدلا فيما إذا كانت هذه الخطوة تندرج في سياق انفتاح سعودي على دمشق.

ووفقا لمصادر الصحيفة، عبّر المسؤولون السعوديون خلال لقاء نيويورك عن قناعتهم بأن ما جرى مع سوريا يجب أن ينتهي، مشدّدين على العلاقات الأخوية التي طالما جمعت بين البلدين.

الإشارات التي ترسل من قبل دول عربية لدمشق لن تدوم طويلا، ما لم تسارع الحكومة السورية للتحرك في نفس الاتجاه. لقد ساهمت دمشق في إدخال الذئب الإيراني إلى الحقل العربي، وأمامها الآن فرصة لإخراجه منه.

وحدها الدول العربية، وعلى رأسها المملكة العربية السعودية ومصر ودولة الإمارات، قادرة على إخراج السوريين من محنتهم، ولكن يبقى هذا مشروطا بقدرة السوريين، حكومة ومعارضة، على إجراء مصالحة حقيقية تمحي آلام سنوات الاقتتال ويكون التسامح فيها سيّد الموقف.

العرب