العراق بين الاستنهاض الوطني والتهديد الوجودي

العراق بين الاستنهاض الوطني والتهديد الوجودي

تتواصل الانتفاضة الوطنية العراقية منذ الأول من أكتوبر 2019، وتفشل مساعي الاحتواء والالتفاف. ولم تفلح محاولة التضحية بها على مذبح الاشتباك الأميركي – الإيراني المتفاقم منذ مقتل قاسم سليماني وصحبه بداية هذا العام. لذلك تبرز الورقة الأخيرة لإخماد الجذوة الثورية عبر القمع المكثف في بغداد والمحافظات الجنوبية من قبل فريق مقتدى الصدر بتوجيه وغطاء إيراني رسمي.

وليس من الأكيد أن تنجح هذه الخطة في ضرب حالة الاستنهاض الوطني ومعركة استعادة الدولة الوطنية العراقية. والواضح أننا أمام سباق محموم بين تحقيق الانتفاضة لأهدافها وبين التهديد لوجود العراق وطبيعة دولته وربما وحدته وكيانه ضمن مخاض إعادة تركيب الإقليم التي انطلقت في موازاة زلزال سقوط بغداد في أبريل 2003.

مما لا شك فيه أن المعضلة العراقية ترتبط ارتباطا وثيقا بمجمل مسار التطور التاريخي منذ ثورة العشرين إلى الاستقلال والحكم الملكي وسلطة حزب البعث العربي الاشتراكي وصدام حسين وصولاً إلى الحقبة الحالية.

وبالفعل أدى الفشل في إعادة بناء الدولة ما بعد الحرب الأميركية لتفاقم وضع العراق بدل وضعه على السكة الصحيحة بعد معاناة طويلة مع الحروب منذ نهاية سبعينات القرن الماضي. وفي ظل وصاية الحاكم الأميركي بول بريمر (واستشاريي الأمم المتحدة) جرى ترسيخ المحاصصة الطائفية والعرقية التي صارت أمرا واقعا وغطاء لاستشراء الفساد، وتم تحطيم هياكل الدولة خاصة مع حلّ الجيش والأجهزة الأمنية واجتثاث حزب البعث. ولم يكن ذلك ليتم من دون تقاطع في المصالح بين الولايات المتحدة وإيران، لكن ذلك كان مصحوبا بتجاذب لتحديد مستوى النفوذ على وقع “المقاومة ضد الاحتلال” و”صعود الإرهاب” إلى “الحرب الأهلية” بين 2004 و2007، وبروز تنظيم داعش منذ 2014 وما رافقه من عودة تناغم إيراني – أميركي خلال حقبة أوباما واختتام ذلك بجعل العراق ساحة الصدام الرئيسية على خط اختبار القوة الأميركي – الإيراني في حقبة ترامب.

وإبان السنوات السبع عشرة كانت أرقام الفساد خيالية ويتهم مصدر عراقي الحكم الإيراني بالإسهام المنهجي في “نهب الدولة العراقية بحدود 500 مليار دولار”. بغض النظر عن تقاسم المسؤوليات أو تحميلها للغير، استمر الاستنزاف وبناء دولة موازية من الميليشيات القريبة من إيران مع إقصاء عملي للنخب السنيّة أو إشراكها بشكل صوري وتحييد للجانب الكردي المكتفي بالرئاسة الرمزية والحكم الذاتي المقيد.

هكذا تدرّج تلاشي وتحطيم الدولة العراقية الوطنية التي لم يتركها صدام حسين في أحلى أحوالها خاصة لجهة تماسكها الداخلي، وكان للمسلسل التدميري محطات مع الصراع العرقي العربي – الكردي ومع الصراع المذهبي السني – الشيعي ومع الحرب ضد الإرهاب ومع الاشتباك الأميركي – الإيراني.

ومنذ صيف 2017 وفي موازاة إنهاء خطر داعش، برز الخلل في البنيان الوطني والنقص المريع في الخدمات العامة على خلفية فشل صارخ للعملية السياسية وللطبقة السياسية بكل تلاوينها. ومن هنا جاءت انتفاضة أكتوبر 2019، لتشكل منعطفا فاصلا في التاريخ العراقي الحديث من أجل وضع حد للانهيار واستعادة الدولة الوطنية.

وبعيدا عن نظريات المؤامرة جابهت الحالة الثورية العراقية خصومة “الوصيّ الإيراني” وأدواته التي أرادت الحفاظ على مكاسبها في المحاصصة بعدما نجحت مع الحشد الشعبي في التمهيد لسيطرة الدولة الموازية على الدولة الشكلية والإطاحة عمليا بالمؤسسات العراقية.

لهذا السبب بدا الرهان الثوري منذ البداية محفوفا بالمخاطر بالرغم من الدعم الظاهري للمرجعية الشيعية. واليوم انكشف موقع التيار الصدري أو من يسيطر عليه في تموضع جديد. لكن يجوز التساؤل عن إمكانية مصادرة قرار هذا التيار لأن مقتدى الصدر موجود في مدينة قم في إيران، ويصعب تفسير انتقاله من معسكر إلى آخر إلا إذا كان مقتل سليماني حدا بإيران للعب ورقة مقتدى بقوة والقبول بدوره لحسم الموقف لصالحها أو التخفيف من الخسائر.

منذ بدايات الانتفاضة، كانت ثمة “ثورة مضادة” يتم الإعداد لها، من أجل قمع حركة الاحتجاج. وتمثلت استراتيجيات هذه الثورة المضادة في قمع تدريجي ومقنّع أوقع حوالي 500 قتيل وآلاف الجرحى وعشرات المغيبين، وكذلك في محاولات منهجية، ومنظمة، قامت بها السلطة، والمستفيدون منها، لشيطنة المحتجين، فضلا عن محاولة تصنيف المحتجين إلى “سلميين”، و”مخربين مندسين”. من بين الاستراتيجيات أيضا، إنتاج حركة احتجاج مضادة، أو خلق صدام مفتعل بين الطرفين، يبرر فض الاعتصامات بالقوة.

وواضح مما جرى خلال الأيام الماضية، أن هذه الاستراتيجية تطبّق اليوم على الأرض، مع متغيرات فرضها توجه مقتدى الصدر. فبعد الوصول إلى صفقة المرشح الجديد لرئاسة مجلس الوزراء، والتي أعادت السيناريو نفسه الذي أنتج حكومة عادل عبدالمهدي في 2018؛ حيث اتفق تحالفا سائرون والفتح مرة أخرى على المرشح الجديد الذي كلفه رئيس الجمهورية رسميا لتشكيل الحكومة.

ومع قيام مقتدى الصدر بسحب مريديه من ساحات الاحتجاج، كانت المفاجأة في صمود المحتجين، والزخم الذي حصلوا عليه من المشاركة الواسعة لطلبة الجامعات، وغيرهم، والذين توافدوا بقوة إلى ساحة التحرير في بغداد، والساحات الأخرى، مما فرض تغيير الخطة، والعودة إلى سيناريو آخر أي عودة أتباع التيار الصدري، والسيطرة على الساحات بالقوة، ومحاولة تسويق المرشح الجديد محمد علاوي بمثابة مرشح هذه الساحات.

بدأ الأمر بالهجوم على ساحة التحرير في بغداد، بالتوازي مع ذلك وجّه الصدر أتباعه ومريديه إلى فرض عودة الدراسة، وفتح الطرق والجسور بالقوة، في ظل «حياد» وغياب القوى العسكرية والأمنية.

ومع الفشل في بغداد انتقل القمع المباشر إلى النجف وكربلاء مع حصيلة دامية لم تفتّ من عضد المنتفضين. وتدل الإشارات الأولى من مرجعية السيد علي السيستاني إلى عدم تغطية للقمع وعن بحث دؤوب لمخرج آخر.

وهنا لا بد من تصحيح ما هو متداول عن صراع شيعي – شيعي بعد صراع سني – شيعي في الماضي، وفي هذا الأمر تبسيط وانتقائية إذ أن الصراع الأساسي يدور بين الوطنيين العراقيين (وإن كان العرب الشيعة هم طليعتهم اليوم) من جهة والحكم الإيراني وأدواته التابعة والمنتفعة من جهة أخرى. إنه صراع من أجل حاضر العراق ومستقبله بكل ما للكلمة من معنى.

وفي خلفية هذا الصراع يبدو الموقف الأميركي حذرا مع تناسي مسؤولية واشنطن عن وصول العراق إلى هذا المنحدر، والأدهى كذلك موقف تركيا المتواطئة عمليا مع إيران في إنهاء الدولة العراقية. وفي نفس الإطار، يبدو الموقف الأوروبي خجولا كأن وضع هذا البلد المركزي ليس في الحسابات كحالة مستقلة، أما الصين وروسيا فكأنهما تنتظران نتيجة اختبار القوة. أما بالنسبة إلى اللاعبين العرب المعنيين فيسود الحذر والتكتم مواقفهم لأسباب متعددة.

ضمن هكذا بيئة إقليمية ودولية، يصارع الشعب العراقي من أجل حركة تحرره واسترجاع دولته الأصلية بعد مصادرتها من الدولة الموازية. لن يكون الحل بالتقسيم بل ربما بشكل فيدرالي جديد بعد بلورة نتائج الصراع الأميركي الإيراني، أو اختبارات القوة الداخلية. لكن الوطنيين العراقيين محكومون بالصمود وتشكيل تيارهم وبلورة مشروعهم كي يكون مفتاح الاستنهاض الوطني وربما دخول المشرق والعالم العربي عصر الدولة الوطنية الحقيقية.

العرب