إيران والأزمات المتجددة بعد 41 عاما

إيران والأزمات المتجددة بعد 41 عاما

برغم مرور اكثر من اربعة عقود على قيام جمهورية إيران الإسلامية وما صاحب ذلك الزلزال السياسي من اهتمام ولغط واضطراب في العلاقات الدولية، فان الشؤون الإيرانية ما تزال تفرض نفسها على العالم، وتستعصي على التجاهل أو التهميش. وبرغم الصراع الإيديولوجي والسياسي بين إيران والغرب خصوصا الولايات المتحدة الأمريكية، وما صاحب ذلك من ضغوط سياسية واقتصادية غربية وحصارات شاملة فقد استطاعت الجمهورية الإسلامية أن تحقق أمورا عديدة:
أولها تفادي الحرب بعد تجربة الحرب العراقية ـ الإيرانية التي عصفت بها في عقدها الاول، ثانيها: الاحتفاظ بهويتها الإسلامية التي اعلنها مؤسسها الإمام الخميني، ثالثها: مواصلة تطوير بنيتها التحتية بكفاءة برغم الحصار المفروض عليها. رابعها: قدرتها على بسط نفوذها الاقليمي برغم تكالب القوى الدولية والاقليمية عليها. خامسها: استمرارها في رفض الاعتراف بـ «إسرائيل» ودعم قوى المقاومة المتصدية لعدوانه.
هذه الحقائق يجب أن لا تغطي على حقائق اخرى ذات صلة: اولها أن الشعب الإيراني عانى كثيرا نتيجة الحرب المذكورة والحصار اللاحق. ثانيها: أنها تعرضت وما تزال لحملات تشويه إعلامية واسعة لم تتوقف يوما، وادت الى تعميق سوء فهم الكثيرين لهذه الدولة التي يسميها البعض «ثيوقراطية» والبعض الآخر «قمعية»، وينعتها البعض بـ «التخلف والعيش في القرون الوسطى». ثالثها: أنها تدفع أثمانا باهظة لتشبثها بمبدأ «استقلال القرار السياسي» الذي يميزها عن كثير من دول العالم الثالث خصوصا في هذه الحقبة التي تتميز بالتغول الأمريكي. رابعها أنها تواجه ضغوطا كثيرة لإعادة النظر في موقفها الرافض لإقامة العلاقات مع أمريكا، وتستخدم العقوبات الاقتصادية والاستفزازات العسكرية وسائل لتحقيق ذلك.
ويمكن القول إن التحديات التي تواجهها إيران اليوم انما هي امتداد لما واجهته قبل أربعين عاما، وسوف تتواصل هذه التحديات في المستقبل المنظور. ويمكن تحديد اربع دوائر لهذه التحديات:
الاولى: ثنائية الدولة والثورة. يود قادة إيران استمرار حالة التوازي بينهما، فتستمر الدولة لتدير شؤون البلاد والمواطنين، وتستمر الثورة لحماية المبادئ والقيم الإسلامية التي تأسست عليها. وطوال عمر النظام السياسي الإيراني الحالي كانت هناك مماحكات بين المؤسستين، تظهر بين الحين والآخر وتتضح اكثر مع اقتراب الانتخابات البرلمانية او الرئاسية. فالدولة تسعى لممارسة دورها الطبيعي في ادارة البلاد والعلاقات الخارجية والحفاظ على امن البلاد في الداخل وحمايتها من اي عدوان خارجي. ولا بد من الاعتراف بأن الدولة الإيرانية تواجه عقبات كبيرة وهي تسعى للالتزام بمبادئ الثورة وتوجيهات القيادة الدينية.
وبرغم مرور اربعة عقود على هذه المعادلة الدقيقة إلا أن حالات الاحتكاكات لم تتوقف وان انتهى أغلبها بتفاهمات ودية بين السياسيين والتيار الثوري الذي كثيرا ما يوصف بالأصولية. والثورة في إيران تتجسد في وجودات حقيقية، فهي العقيدة السياسية المركزية لحرس الثورة الإسلامية المكلف بحمل الشعار وممارسة التطبيق. يضاف الى ذلك أن الثورة الإسلامية، من المنظور الإيراني، يجب أن تكون حالة عامة تسود العالم الإسلامي وتحمي شعوبه من التأثيرات العلمانية او الالحادية او الاستعمارية. وفي مرحلة صعود الإسلام السياسي في الثلاثين عاما الاولى بعد الثورة كان هناك احتضان واسع لأطروحات المشروع الثوري الإيراني، وتجليات عديدة في بلدان شتى. فما من بلد مسلم الا وظهرت فيه حالة إسلامية بشكل او آخر، وكان لذلك الظهور تبعات سياسية وتفاعلات مجتمعية، تلاشى أغلبها بعد حملات قمع واسعة استهدفت الإسلاميين في هذه البلدان.

برغم مرور اكثر من أربعة عقود على قيام جمهورية إيران الإسلامية وما صاحب ذلك الزلزال السياسي من اهتمام ولغط واضطراب في العلاقات الدولية، فإن الشؤون الإيرانية ما تزال تفرض نفسها على العالم، وتستعصي على التجاهل أو التهميش

الثانية: أطروحة «ولاية الفقيه» التي تشكل عصب الثورة. ولا يستطيع من يتعاطى مع هذه الظاهرة الا أن يسترجع القائد الذي شغل العالم في نهاية السبعينيات عندما كانت توجيهاته التي يبثها عن طريق الكاسيتات من ضاحية نوفيل لو شاتو الفرنسية، تستخدم لبث روح الثورة وضمان استقامتها وفق رؤاه الدينية والسياسية. فلا يمكن قراءة ثورة إيران بدون استيعاب شخصية الإمام الخميني وافكاره ونظريته السياسية. فقد استطاع تطويع النص الديني ليكون دافعا للثورة في نفوس الجماهير. واستطاع بفقهه اعادة توجيه مسار المبادئ والاحكام الدينية لتصبح ادوات تحريك فاعلة مستندة للنص الديني. ومن ذلك مقولة «الانتظار» لدى المسلمين الشيعة، اي انتظار الإمام المهدي المنتظر، فقد حولها من مفهوم سلبي يحصر الموقف بالانتظار الجامد، الى مفهوم سياسي حركي يعني العمل المعارض للنظام السياسي الظالم. كما اعاد مفهوم القيادة الدينية لتشمل القيادة السياسية والحضور الميداني. وبذلك اصبحت نظرية «ولاية الفقيه» التي تبناها مفهوما شعبويا، واصبح لرجل الدين موقعه الريادي في المجتمع، وليس محصورا بالعبادات المحصورة بدور العبادة. هذا احد اسباب استمرار روح الثورة في المؤسسة الإيرانية. وبرغم تعرض هذه النظرية للكثير من النقد الديني والعلماني فقد بقيت في الوجدان الإيراني الدعامة الأساسية للنظرية السياسية التي تأسست عليها الدولة. ومع ان منصب «الولي الفقيه» محكوم بممارسة انتخابية من قبل «مجلس الخبراء» الذي يضم فقهاء منتخبين، الا ان القلق يساور «الثوريين» حول القائد المقبل. فبرغم ان للإمام الخميني دور الريادة في تأسيس الجمهورية الإسلامية، الا ان القائد الحالي، آية الله السيد علي خامنئي، كان الاطول عهدا في ذلك المنصب الذي تولاه منذ العام 1988 بعد رحيل مؤسس الجمهورية. ولذلك اصبحت مسألة استخلاف الولي الفقيه مادة للتكهن والقلق وربما الشعور بالضياع احيانا لدى القطاعات الثورية. لقد استطاعت إيران حتى الآن الحفاظ على التوازن بين الثورة والدولة مع حالات من التوتر والاختلاف، وستكون الانتخابات البرلمانية بعد اسبوعين مؤشرا لمدى قدرة إيران على الاستمرار في نهج التوازن بينهما.
الثالثة: العلاقات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية. هذه الاشكالية لها وجهان: ايجابي وسلبي. فعلى الصعيد الايجابي فان وجود «عدو خارجي» دائم وفر لإيران سببا لليقظة الدائمة وبناء منظومة امنية وعسكرية خاصة لمواجهة كافة الاحتمالات المتوقعة. كما انه يساهم في الحفاظ على قدر من الوحدة الوطنية، خصوصا ان الإيرانيين بشكل عام متسامحون مع بعضهم ولديهم ولاء لبلدهم وثقافتهم، ويقفون مع بعضهم عندما تتعرض لبلدهم لتهديد او عدوان خارجي. البعض يرى أن النظام يحتاج لعدو خارجي دائم كوسيلة لحماية نفسه من اي تحد او تهديد داخلي. اما أمريكا التي اعتادت تركيع الآخرين امامها فتشعر بالإهانة من التمنع الإيراني المتواصل لبدء حوار معها. حكام واشنطن، خصوصا الرئيس الحالي، ينطلق في سياساته بشكل كبير مدفوعا بشعور العظمة والاستكبار، ولا يسمح لاي طرف آخر ان يتحداه او يرفض طلبه او يعامله بالمثل. أمريكا ترى ضرورة ايجاد علاقة مع إيران، تارة لأسباب تاريخية، واخرى لأسباب استراتيجية خصوصا مع تراجع دور حلفائها الإقليميين كالسعودية و «إسرائيل». فهي ترى كيف أن كافة اجراءاتها ضد إيران لم تمنعها من توسيع نفوذها في المنطقة خصوصا في العراق وسوريا ولبنان واليمن، وأنها بذلك تحاصر اولئك الحلفاء. وعلى عكس الرؤساء السابقين الذين سعوا للتقارب مع إيران من خلال الحوار يمارس ترامب ضغوطا عسكرية واقتصادية غير مسبوقة لإخضاع الجمهورية الإسلامية. وشعاره: «التجويع لفرض الحوار». ولكن إيران ردت بالدعوة لإنهاء الوجود العسكري في المنطقة، وهو أمر يؤرق الأمريكيين وحلفاءهم.
الرابعة: برغم الحديث الانكلو ـ أمريكي عن عزل إيران دوليا، فان الوقائع تكشف حقيقة مغايرة. فمع تطور علاقات الجمهورية الإسلامية مع روسيا والصين والهند وتركيا واندونيسيا، تبدو إيران قادرة ليس على توسيع علاقاتها الدولية فحسب بل وتوجيهها نحو تحالف دولي مواز يوازن النفوذ الأمريكي. الأمر المؤكد ان إيران تحتاج لدبلوماسية اكثر ديناميكية وفاعلية لتحقق نتائج تؤدي لتحالفات استراتيجية على غرار قمة كوالا لامبور الإسلامية.

سعيد الشهابي

القدس العربي