ميونخ 56

ميونخ 56

على الرغم من غياب رؤساء دول عديدين عن الدورة الـ 56 لمؤتمر ميونخ للأمن (14- 16 فبراير/ شباط الجاري)، بمن فيهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي يهتم عادة بحضوره، إلا أن مؤتمر هذا العام شهد طرح جملة من الأفكار، قد تكون الأكثر أهمية منذ مؤتمر عام 2007 الذي لفت إلى عودة روسيا قوة مهمة على الساحة الدولية. أبرز طروحات مؤتمر هذا العام جاءت على لسان وزير الدفاع الأميركي، مارك أسبر، الذي فاجأ بعضهم بقوله إن الصين، وليست روسيا، تمثل التهديد الاستراتيجي الأكبر للولايات المتحدة على المستوى الدولي.
يعد هذا الطرح تغيرا مهما في تفكير المؤسسة العسكرية الأميركية التي ظلت، حتى وقت قريب، ترى أن روسيا والصين تمثلان معًا التهديد الأبرز في مواجهتها. وكان مدير المخابرات الوطنية الأميركية السابق، دان كوتس، آخر مسؤول أميركي يحذّر، في شهادة أمام الكونغرس في فبراير/ شباط 2019، من خطورة التقارب الصيني – الروسي، وتوجهه نحو بناء تحالف استراتيجي لتحدّي “القيادة الأميركية”.
تفيد تصريحات مارك أسبر بأن الولايات المتحدة بدأت تميل إلى الفصل بين روسيا والصين، عملًا بنصيحة وزير الخارجية الأسبق، هنري كيسنجر، لإدارة ترامب، عندما استلمت السلطة مطلع عام 2017. يرى كيسنجر أن النظام الدولي الراهن يقوم على مثلث قوة أضلاعه الولايات المتحدة، روسيا والصين، وأن تحالف اثنين منهما سوف يؤدي إلى هزيمة الثالث. وقد استشهد كيسنجر باستراتيجية إدارة نيكسون في مطلع السبعينيات، حيث تحالفت مع الصين لعزل الاتحاد السوفييتي، ما أدّى، في نهاية المطاف، إلى سقوطه.
على الرغم مما تواجهه من تحدّيات، بما فيها انتشار فيروس كورونا، إلا أن الباحثين والخبراء يتفقون على أن محاولات وقف الصعود السريع للصين تبدو غير واقعية، وأن فرص واشنطن للتحكم بمسارات هذا الصعود قد فاتت، ذلك أنها أضاعت العقدين الماضيين في حروب عبثية في العالم الإسلامي في مواجهة عدو هلامي غير محدّد المعالم، اسمه الإرهاب، فيما كانت تمضي الصين سريعا مستغلةً هذا الانشغال الأميركي في شؤون العالم الإسلامي.
ليس أن قدرة واشنطن على التحكّم بمسار صعود الصين باتت معدومة، بل تبدو عاجزةً حتى عن وقف الاختراق الصيني صفوف حلفائها، بدليل قرار كل من بريطانيا وألمانيا التعاقد مع شركة هواوي، لبناء جزء من البنية التحتية الخاصة بشبكات الجيل الخامس، غير عابئة بتهديدات واشنطن وقف التعاون الأمني والاستخباراتي، وفرض عقوبات اقتصادية عليها (صناعة السيارات تحديدا). من هذا الباب، يمكن قراءة تصريح وزير الدفاع الأميركي بمحاولة الفصل بين الصين وروسيا، بعد أن كانت بلاده تضعهما في سلةٍ واحدة، باعتبارها الفرصة الوحيدة المتبقية لاحتواء الصين عبر تعاون روسيا. هل يمكن ذلك، أم أن التحالف الاستراتيجي الصيني – الروسي أصبح هو الآخر أمرًا واقعًا؟
تطورت العلاقات الروسية – الصينية كثيرا في عهد شي جين بينغ، مع ذلك لدى روسيا مخاوف كبيرة تأمل واشنطن بإحيائها في هذا المضمار، مثل تخوّف روسيا من الثقل السكاني الكبير للصين (1,4 مليار من البشر) في وقت يتناقص عدد سكانها (انخفض من 163 مليون نسمة عشية تفكك الاتحاد السوفييتي عام 1991 إلى نحو 145 مليونا اليوم)، ومن غزو سكاني صيني لسيبيريا (إحدى أقل مناطق العالم كثافة بالسكان). وتشعر روسيا بالقلق أيضا من تنامي الدور الصيني في جمهوريات آسيا الوسطى، حيث أخذت تحتل حيزا كبيرا من اهتمام بكين في إطار “مبادرة الحزام والطريق” التي تعدها الصين طريقها للوصول إلى العالمية. كما تتخوف روسيا من طريقة تعامل الصين معها باعتبارها شريكا أصغر، نظرا إلى الفجوة المتزايدة في الإمكانات الاقتصادية والتكنولوجية للطرفين.
استمع الروس باهتمام كبير لتصريحات وزير الدفاع الأميركي في مؤتمر ميونخ للأمن، ويبدو أنهم فوجئوا بها أيضا، وهم سيحاولون على الأرجح الاستثمار في التوجه الأميركي الجديد الذي يسعدهم، ذلك أن روسيا، الضلع الأضعف في مثلث القوى العالمي، باتت وفق التفكير الجديد الطرف المرجّح في لعبة التنافس الصيني – الأميركي، وهذا ستترتب عليه تداعيات كبيرة على مستوى المنطقة العربية.. والعالم.

مروان قبلان

العربي الجديد