التنوع ومناعة المجتمعات

التنوع ومناعة المجتمعات

كان التنوع في المجتمعات العربية في الماضي وقبل الدولة الحديثة والاستقلال هو الغالب وذلك بسبب تعايش طوائف وديانات مختلفة قرب بعضها البعض. لم تكن الكراهية والعداء قد وصلت لما وصلت اليه بعد إنشاء الدولة الحديثة. بل كان للمجتمع الأهلي العربي الإسلامي، القديم المكون من عائلات وعشائر وقبائل والأوقاف الإسلامية والتجار وغيرهم، وسائله الخاصة في حل النزاعات وإدامة منطق التعايش والتجارة. بل تحت كل الظروف لم تكن الدولة القديمة قبل الاستعمار تلعب أكثر من دور غير مباشر لا يؤثر على حياة الناس إلا ضمن حدود. هكذا في مدن وموانئ الشرق تعايشت ديانات مختلفة كل منها تعرف كيف تدير شؤونها بتفاهم مع جيرانها.
لكن الدول العربية الحديثة، ومنذ نهاية الحرب العالمية الثانية، اعتبرت الهويات الأخرى المكونة للمجتمع منافساً لها. لهذا اعتبرت الدولة العربية الحديثة الطائفة تخلفاً والقبيلة رجعية والتنوع عدم ولاء، وفي حالات اعتبرت الدين بما له وما عليه عصور بائدة. مع الدولة الحديثة الوطنية بدأت المجتمعات العربية تحتكم للخوف من الآخر المختلف، لهذا ستكون أولى نتائج الخوف فقدان التنوع وسواد الرأي الواحد والحزب الواحد وهروب الكثير من الأقليات من البلدان العربية. ومع الخوف من الآخر ومع السعي للاستئثار لفئة محددة ارتفعت نسب التميز العنصري. إن فقدان التنوع هو الأساس الذي بنى الكثير من التهميش بين فئات مختلفة، بل إنه مسؤول عن فساد الكثير من الأنظمة الحديثة وسواد حالة استبداد يقوم على فئة دون كل الفئات الأخرى.
ويسرد أمين معلوف الروائي الفرنسي العربي في كتابه الاخير «غرق الحضارات» الكثير عن قصة التنوع في البلدان العربية. فقد تخلصت الدول العربية في بداية استقلالها من فئات اجتماعية كانت جزءاً هاماً من المجتمع. بل كانت تلك الفئات والجماعات والأقليات تعلب دوراً هاماً في العلاقة مع النظام الدولي والاقتصاد العالمي، وكانت تجيد لغة العصر، وكان بقاؤها ضرورياً لتمتين الاستقلال وتعزيز التقدم. لكن الأجواء التي سادت بعد الاستقلال لم تعرف كيف تستوعب هذه الفئات النوعية في دولة عصرية، فتم التخلص منها في ظل تهم «كالخيانة» «وعدم الولاء» «والتعاون مع طرف خارجي» «وعدم الانتماء».

إن التصالح مع التنوع واعتباره أساساً مركزياً لتوازنات جديدة في مجتمعات تبحث عن العدالة والديمقراطية سيكون أساسياً في صياغات المستقبل

ويسرد معلوف قصة جزء هام من أسرته اللبنانية المسيحية التي أسست لها في مصر مشاريع وحياة متكاملة، وكيف بعد أجيال من العيش في مصر فُرض عليها ترك مصر مع الكثير من المصريين من جذور لبنانية والكثير من المصريين من جذور يونانية وإيطالية وغيرها. لقد تم كل هذا في الزمن الناصري. وقد عبّر معلوف في كتابه عن تلك القيمة التي ميّزت جمال عبد الناصر، وهو الزعيم الأكثر شعبية من بين زعماء العرب في القرن العشرين، لكنه في الوقت نفسه انتقد معاقبة ناصر لأقليات اعتبرها وقفت خارج النضال ضد الاستعمار. لقد سار ناصر حتى النهاية في تطهير مصر ممن اعتبرهم سبب ضعفها. لكنه في هذا السياق لم ينتبه، ربما بسبب المرحلة التاريخية التي أتت مع الاستعمار ثم الاستقلال، إلى أن خروج هذه الجاليات وفقدان دورها سوف يفقد مصر الكثير من القوة.
إن عدم الإلمام بأهمية عقد مصالحات وطنية تمنع تهجير أي من الفئات التي يتشكل منها المجتمع هي من أهم نقاط ضعف الدول العربية في العصر الحديث. نتذكر مثلاً كيف طرد صدام حسين مئات الألوف من الشيعة العراقيين بحجة ان الجد الخامس جاء من إيران، لكن نتذكر أن هذا أسس لردة فعل مستمرة في العراق جعلت في ما بعد الكثير ممن طردوا يعودون للعراق في ظل حالة أكثر ارتباطاً بإيران وذلك بحكم لجوئهم الطويل في مدنها. يبقى أن نتذكر من التاريخ بأن دمار المانيا بدأ من خلال تجريم وسحب أوراق الجنسية من مئات اليهود الألمان، فالسياق العام الالماني كان يقوم على مبدأ تنظيف المانيا من المختلفين دينيا وثقافيا، لكن هذا السياق هو ذاته الذي أضعف ألمانيا.
العنصرية وملاحقة التنوع أصاب كل العرب والكثير من مجتمعاتهم وذلك لدرجة أن بعض المجتمعات العربية تنغمس كل يوم بإشاعات عن أن ربع الشعب ليس من الشعب أو ثلث الشعب ليس من الشعب، بينما يغوص لبنان في شبر من الصراعات حول التوطين وحول الهوية، يغوص الأردن في نزاع حول أصول كل مواطن. لا حل لعقدة الأقليات والغالبيات في البلدان العربية إلا بالتفاهم والمصالحات، ففي جنوب افريقيا كان بإمكان مانديلا خلق الأساس لطرد كل المستوطنين البيض، لكنه وجد قيمة في وجودهم واستقرارهم والتصالح معهم.
إن أسوأ أنماط تصفية التنوع جاء مع الاستيطان الصهيوني، وهو الأكثر شراسة بحق سكان البلاد الاصليين. بل ان الاستيطان الصهيوني هو الأكثر شراسة مع اليهود من خلفيات عربية لدرجة الإلغاء الكامل للغة والعمق العربي. بل يمكن القول بأن النموذج الهيكلي للدولة اليهودية يفرز العنصرية والتفرقة في كل سياسة وقانون.
ضيق الأفق العربي لا يقتصر على تعريفات المواطنة، بل يعود لعدم تقدير دور المعرفة والتعليم والكفاءة والتنافس الشريف. في كل حضارة نقاط ضعف، لكن في حضارتنا العربية ضعف واضح في المقدرة على استيعاب الآخر أكان مختلفا في الدين والطائفة والقبيلة أو اللغة و اللون. إن التصالح مع التنوع واعتباره أساساً مركزياً لتوازنات جديدة في مجتمعات تبحث عن العدالة والديمقراطية سيكون اساسياً في صياغات المستقبل.

شفيق ناظم الغبرا

القدس العربي