لملمة الخلافات..في ابعاد زيارة قاسم سليماني إلى العراق

لملمة الخلافات..في ابعاد زيارة قاسم سليماني إلى العراق

images

في كل مرة، ومع تزايد تراجع الاوضاع الامنية والعسكرية، يأتي قاسم سليماني القائد العسكري لفيلق القدس التابع للحرس الثوري إلى العراق، للالتقاء بالساسة وابداء التوجيهات لهم، يُثار الجدل حول الزيارة ومعانيها من وراء كواليس العملية السياسية.

وبحسب معلومات توافر عليها مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية، فان سليماني كان في غاية الانزعاج والامتعاض، وابلغ قيادات التحالف الشيعي وعلى رأسهم رئيس الوزراء حيدر العبادي ان تقييم الأوضاع العسكرية والامنية جاء مخيبا للآمال الايرانية، رغم ما ضخته طهران من اموال ودعم عسكري ولوجستي واستخباري إلى الميليشيات الموالية لها.

وبأي حال، فان العراق الذي اضحى حديقة خلفية لإيران، التي تريده من القوة والتأثير في محيطه العربي، ليكون سندا لها في إعادة رسم ملامح المنطقة، انما هو عاجز عن توظيف مصادر القوة المتاحة لديه، وغير قادر
على حماية امنه الوطني، في وقت تسعى فيه طهران اعقاب اتفاقها النووي مع القوى الكبرى إلى فتح الطريق امامها لمزيد من التدخل والنفوذ في الجوار الاقليمي، ومن خلال البوابة العراقية.

ويرتبط بهذه الزيارة، مسعى إيراني يتحرك باتجاه الحد من تنازع القوى السياسية العلني والمستتر على المصالح والمنافع، في حرب اضحت واضحة للعيان تفضي إلى تعطيل آلة الحكم القائمة على توافقات هشّة بين أقطاب تلك القوى، والتي تضمر العداوة الشديدة لبعضها البعض، إذ يرى كل منها نفسه الأحقّ بتزعّم المشهد وقيادة البلاد.

وليست إقالة محافظ النجف عدنان الزرفي المحسوب على رئيس الوزراء السابق نوري المالكي، والتي وقف وراءها عمّار الحكيم رئيس المجلس الأعلى الإسلامي، الا مؤشر عن حجم الصراع الشرس الدائر بين الحليفين، والذي بدأ يتضح بشكل كبير مع مطالبة المجلس بمحاكمة المالكي بتهم الفساد وبالمسؤولية عن سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم “الدولة الاسلامية”.

وإذا كانت السنوات التي اعقبت احتلال العراق عام 2003، وما رافقها من امتيازات حصلت عليها الأحزاب والمرجعيات الشيعية على حد سواء، على مستوى السلطة والنفوذ، قد شهدت تغطية الخلافات ومنع الاحتراب الحزبي، ما حمل الاطراف السياسية على تحمل فساد بعضها البعض، فان الصورة اليوم تبدو قابلة للانفجار في ظل تدهور الاوضاع الاقتصادية والامنية، والتي هي في أسوأ حالاتها، وستكون في اشد تداعياتها في قابل الأيام.

تسوية صراعات

وربما لزيارة سليماني سبب آخر، والتي لم تقتصر على بغداد بل شملت اقليم كردستان، إذ التقى قائد “فيلق القدس” الرئيس مسعود البارزاني, ورئيس وزراء الاقليم نيجرفان، وقادة من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني منهم كوسرت رسول وبرهم صالح وهيرو احمد ابراهيم، ومنسق حركة التغيير نوشيروان مصطفى، ومؤكدا دعم بقاء مسعود البارزاني رئيسا للإقليم، على ان يتخلى عن بعض صلاحياته.

مع ذلك، فإن غالبية المسؤولين الإيرانيين يرون أن البارزاني ملتزم على نحو كبير بالاستقلال الكردي، ويناور من أجل الاستفادة من الظروف السائبة سياسياً في العراق وفي الشرق الأوسط لطرح هذه المحاولة. وهو ما حذر منه علنا حسين أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية الإيرانية المسؤول عن الشئون العربية والإفريقية، من ان “كل الفصائل العراقية يجب أن تحترم دستور البلد… ومنع البلد من الانقسام”.

ما يعني بأن تفعل طهران ما تستطيع القيام به لمنع اقتطاع كردستان مستقلة في شمالي العراق، في مقابل الابقاء على رئيس الإقليم، واضعاف دوره، الذي كان في لحظة معينة السبب في منع الشيعة من إحكام السيطرة على كل البلاد، بعد ان تمسك ببقاء الدور السُني والكردي في العملية السياسية.

ومن جهة ثانية، يُظهر الايرانيون اهتماما بالغا بتسوية حدة الخلافات بين الاكراد والشيعة، لما يعتقدون ان تزايدها، يشتت جهودهم في السيطرة على كل العراق، والتوصل إلى حل وسط مقابل تمديد ولاية البارزاني لعامين آخرين.

فالخلافات بين المركز والاقليم سمحت للاكراد بتوسيع نطاق الأراضي الخاضعة لسيطرتهم في الشمال دون مقاومة، معززة الشكوك حول مستقبل العراق كدولة موحدة . وبالنسبة لإيران فإن الفوضى، تمثل فرصة يتوج فيها الاكراد إرثهم نحو قيام الدولة المستقلة، وهو ما يحاول سليماني وضع حد له، من خلال سياسة الارضاء التي يعتمدها حيال الابقاء على مسعود البارزاني رئيسا، وتكبيله بقيود، ليبدي الاخير الامتنان لموقف طهران التي ابقته في منصبه، ما يجعله مستجيبا للكثير من ضغوطها وسياساتها.

ومن جهة ثانية، فان الخلافات الكردية كما تراها إيران قد تكون سببا في اضعاف جبهة القتال ضد تنظيم “الدولة الاسلامية”، خاصة أن المعارك الأخيرة ضد التنظيم تم حسمها بصعوبة وبدعم من التحالف الدولي.

وإيران التي يحفزها اليوم الاتفاق النووي لمزيد من التدخل في المنطقة، تريد استثمار الاعتداء الارهابي الذي حدث في منطقة سوروج التابعة لمحافظة شانلي أورفة التركية، للظهور بمظهر الحامي للاكراد من خطر تنظيم “الدولة الاسلامية” في المنطقة. وبهذا تستطيع طهران، استثمار خطر التنظيم من جانب، وإنهاء حزب العمال الكردستاني لوقف إطلاق النار مع تركيا، والتي تفسر في دائرة احراج حكومة إقليم كردستان، وإظهارها وكأنها المتسبب في عودة الحرب إلى تركيا بعد طلبها  إخلاء جبل قنديل من حزب العمال الكردستاني التركي pkk .

ولا شك فان تجميد عملية السلام وانهاء وقف القتال في تركيا، يصب في المصلحة الإيرانية، وبحسب ما قاله  منصور آق غون، وهو أحد الكتاب والمحللين الأتراك، “إن إيران هي أكثر المنزعجين والممتعضين من مرحلة السلام؛ لأنها قلقة من انتقال الديمقراطية إلى أكراد إيران وتأثرهم بها”. ومن وجهة نظر ثانية؛ يعد نجاح انقرة في التصالح مع الاكراد، متغيرا مقلقلا للمصلحة القومية الإيرانية، حيث انعكس ايجابا على الداخل التركي وتحديدا في مناطق جنوب شرق البلاد، رافقه تزايد القوة الاقتصادية التركية، حيث اصبح الاقتصاد التركي سادس اقتصاد في أوروبا، ليحتل المرتبة 17 عالميا.

وزيارة سليماني هذه، مفعمة بالمصلحية والمقايضة، فالحملة الجوية التي اطلقتها انقرة نهاية الشهر الماضي ضد المتمردين الاكراد داخل العراق، تركت بارزاني في وضع غير مريح. وهو ما تحاول إيران استغلاله، ليكون منصب الرئيس مقابل تغيير موقف اربيل، بعد ان دفعت الازمة الحالية ادارة بارزاني الى الطلب من المتمردين نقل معاركهم الى اماكن اخرى. ويبدو ان التوقيت السيء لهذه العمليات سيضع مسعود في موقف حرج، لان جميع الاكراد يدعمون حزب العمال الكردستاني، ولا يمكن ان ينظر اليه على انه مناهض لتطلعات الاكراد في تركيا.

جنوب العراق .. ما بين الطائفة والاحتجاج

تصاعدت حدة الاحتجاجات الشعبية في جنوب العراق منذ بداية شهر اغسطس/ آب الجاري بسبب تفشي الفساد في المؤسسات الحكومية, وانتشار سرقات المال العام، وسوء الخدمات، من انقطاع للتيار الكهربائي، ووزيادة معدلات البطالة، وأطلق المحتجون هتافات تتهم المسؤولين في السلطتين التشريعية والتنفيذية بـ”السرقة”.

وكان رئيس الوزراء العراقي حيدر العبادي، حذّر في كلمة متلفزة، من أن موجة الاحتجاجات الشعبية التي تشهدها مختلف المحافظات بسبب تراجع الخدمات هي بمثابة “جرس إنذار” للدولة، ووجه المسؤولين في حكومته إلى العمل بسرعة لتوفير متطلبات المواطنين.

وتشكو غالبية المحافظات العراقية من تدني ساعات تزويد التيار الكهربائي، خصوصا مع الارتفاع الشديد في درجات الحرارة، ما دفع الأهالي لتنظيم مظاهرات تطالب السلطات المحلية والحكومة الاتحادية بتحسين الخدمات، حيث أنفق العراق نحو 40 مليار دولار على مدى 12 عاما على ملف الكهرباء دون تحسن يذكر.

وكان العراق قد اضاع خلال عام 2014 بحدود 190 مليون دولار في مشاريع وهمية، وبحسب ما قاله بهاء الاعرجي نائب رئيس الوزراء في يوليو/تموز الماضي، فقد “العراق خسر خلال سنوات حكم المالكي الثماني 1000 مليار دولار (تريليون دولار) من دون أن ينجز منها شيء”. واتساقا مع ما تقدم أدى الفساد المالي والإداري إلى ظهور طبقة جديدة من الأغنياء ورجال الأعمال الجدد المحسوبين على الحكومة العراقية، ناهيك عن الساسة وقادة الاحزاب وشللهم السياسية، والذين وصلوا إلى الثراء بشكل سريع، في حين يعيش ثلث الشعب العراقي تحت خط الفقر.

وقد كشفت اللجنة المالية في البرلمان العراقي أبريل/نيسان 2014، عن خسارة البلاد نحو 360 مليار دولار، بسبب عمليات الفساد وغسل الأموال، التي جرت خلال 9 سنوات في الفترة ما بين عامي 2006 و2014، والتي حكم فيها رئيس الحكومة السابق نوري المالكي البلاد.

ومن زاوية اخرى، فان العراق الذي تشكل بعد عام 2003، يتصف بذات السمات التي قال المعارضون لحكم النظام السابق، انهم يتصدون لها، ولن يحدوا عن مقارعتها, من بينها التسلط والشمولية وعنف الدولة والانتهاكات الواسعة لحقوق الانسان، وافلات الاتباع والمقربين من السلطة من العقاب.

ولعل سياسات المحسوبية واحكام المركزية في الادارة  التي شهدها العراق ابان حكم المالكي، اوجدت سلسة من الشبكات المترابطة  غير الرسمية في مؤسسات الحكومية، والتي وصفها كلا من الباجث تشارلز تريب وتوبي دودج بـ”دولة الظل”.

وغالبا ما تدار الحكومة بحسب اهواء الاطراف المؤثرة في العملية السياسية والتي تحظى بدعم طهران، فعلى سبيل المثال يشكل المالكيون – نسبة إلى المالكي- من الذين ينتمون إلى حزب الدعوة، ومعهم اولاد الهندية، وهي المنطقة التي ترعرع فيها رئيس الوزراء الاسبق، رأس الرمح في  الادارات الهامة والمؤسسات الامنية والاقتصادية. كما تلعب مجموعات اخرى من الاسلام السياسي ادوارا كبيرة في هذا الصدد، مثل المجلس الاسلامي الاعلى وتيار مقتدى الصدر، وقد التحق بهم قادة لميليشيات شيعية تتصدى لتنظيم “الدولة الاسلامية”، لن تفرط في نصيبها من المزايا. عملا بنظرية “الأرض لمن يحررها” لتسيطر هذه الميليشيات على مقاليد الأمور في المناطق التي طردت منها تنظيم “الدولة الاسلامية” في صلاح الدين وديالى .

ولعل ميل الساسة الشيعة لإظهار ما حصلوا عليه بوصفه حقا، يقابله واقع شيعي شعبي، يعيش بؤسا وفقرا، انما يعبر عن مقاربة مبتسرة تخفق في فهم تداعيات سوء استخدام السلطة، وما يمكن ان تفضي اليه من خروج على سلطة المقدس وفتواه الداعمة للحكومة، التي غالبا ما تحصن بها  الاسلام الشيعي.

وبهذا المعنى، فانه بقدر ما أفضت مساوئ العملية السياسية إلى تذمر شعبي يدعم حركة التغيير النازعة إلى محاسبة المافيات، التي تتلاعب بالسلطة والمال، فان تلك الحركة لن يكون بمقدورها تثبيت مفاعيل الاصلاح في هيكيلة الحكم، لما ستواجهه من ممانعة المنتفعين وشللهم السياسية والمرجعية.

ولهذا فان هشاشة النظام الحالي، تشكل قلقا مضافا لطهران، التي لا ترغب في تزايد التذمر الشيعي الشعبي ضد الحكومة، فالاساس يكون استغلال الطائفة، في مشاريع “تصدير الثورة”، وعدم التسبب باحداث خلل في مشروع الهلال الشيعي، وعدم تبيان السخط ازاء مثالب ما يجري من فساد وخلل في الادارة، لدور بغداد الرئيس في النهوض باعباء هذا المشروع.

ولحين ما تستطيع ميليشيات “الحشد الشعبي” والتي ستكون لها ذراع سياسية في المستقبل، من تحقيق الفوز في الانتخابات المقبلة لما لها من تأثير على الناخب الشيعي. فان طهران تريد ان تبقي الجنوب هادئا، حيث كانت زيارة قاسم سليماني في احد اوجهها تقريعا لحكومة بغداد وفساد عمليتها السياسية.

وفي الواقع، فان إيران تجد نفسها اليوم في العراق في وضع صعب ومكلف دون أن تعرف أحد كيف سينتهي، فحلفائها يتصارعون فيما بينهم ويتنافسون على الغنائم، في وقت ينبئ بإقدام النظام الإيراني على محاولة تكريس نفوذه ورفع وتيرة تدخله في قضايا المنطقة بشكل أكثر حدة خلال المرحلة القادمة. فهل ستكون زيارة سليماني مجدية في جمع الحلفاء – الغرماء؟

وحدة الدراسات العراقية

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية