تداعيات الاتفاق النووي: إيران ماضية في تنفيذ الكومنويلث الشيعي

تداعيات الاتفاق النووي: إيران ماضية في تنفيذ الكومنويلث الشيعي

version4_26ipj131-400x259

لطالما ربط المحللون بين غايات المشروع النووي الإيراني ونزعات طهران التوسّعية وسعيها المحموم لبسط نفوذها على منطقة الشرق الأوسط بشتى السبل والطرائق. ربط تحليليّ وجد ما يثبته على أرض الواقع مع عقد الاتفاق الأخير بين القوى الغربية وإيران، والذي بدأ يكشف بصورة جلية عن مدى عضوية الارتباط بين الهدفين، خاصة أن تداعيات الاتفاق التي بدأت تبرز لا تكاد تخرج عن دائرة خدمة طموحات الملالي في تثبيت نظام لهم يتجاوز الحدود ويخترق القوميات.

تطرح التداعيات السياسية للاتفاق الإيراني الغربي حول الملف النووي، قراءة للسيناريوهات المقبلة التي يمكن أن تنجر عنه، والتي تتضمن إمكانية تأثيره في ملفات إقليمية أخرى، كما يمكن أن تكون قد خوّلت لإيران مزيدا من الهامش للحركة والتمدد، ربما يتجلى من خلال مُضيّها في عسكرة الطائفة الشيعية وتأجيج الفتن والعمل على بث الفرقة والانقسام في بعض البلدان العربية على أسس مذهبية ودينية، بالإضافة إلى استغلالها للإرهاب، التحدي الأكبر للأمن القومي العربي، بطريقة مكيافيلية لتوسيع نفوذها، في وقت تُعاني فيه العديد من دول العالم العربي مراحل متفاوتة الصعوبة على إثر تداعيات ما سمي بـ“الربيع العربي”.

وتفتح هذه السياقات لفهم الدور الإيراني ومبادراته على المستوى الإقليمي المجال أمام تحليل مسار آخر مرتبط بها، هو ذاك المتحكم في سياسة طهران الحالية وموازين قواها الداخلية، والذي يبقى مقرونا بحلم قيادة “الحكومة العالمية للإسلام” التي يشكل فيها ارتباط القومية بالمذهبية عنوانا بارزا للتأثير والاستثمار الأيديولوجي القائمين على مبدأ ولاية الفقيه وتصدير الثورة الإسلامية، فضلا عن استغلال القضية الفلسطينية للحصول على ورقة في مقعد الصراع غير المباشر مع إسرائيل. وهو ما يؤكّد أنّ النظام الإيراني لطالما حاول الخروج من عزلته الدولية عبر تثبيت مكاسب إستراتيجية، خاصة بعد وصوله إلى “الحافة النووية”.

ومن ثمة، يمكن فهم الانعطاف المرحلي الحاصل في ما يتعلق بالملف النووي الطامح لإيجاد تسوية تُخرجه من عنق زجاجة الخنق الاقتصادي وتكلفته الباهظة اللذين كانا مطبقين عليه، في الوقت الذي يصرّ فيه الجانب الإيراني على فرض نفسه كأحد الفاعلين الأساسيين في المنطقة سواء عبر التدخل المباشر أو السيطرة بالوكالة أو إطلاق عدد من المبادرات التكتيكية رغم الاعتراض والتحفظ اللذين تجابه بهما سياساته.

غايات توسعية دائمة

لطالما كانت تنمية القدرات العسكرية عنوانا بارزا للتصعيد العسكري، الذي تَمثّل في السعي قدما نحو امتلاك برنامج نووي متكامل يمكن أن يتحول في أي وقت لأغراض عسكرية، حيث يصبح الهدف إيجاد القدرة على امتلاك السلاح وليس استخدامه الفعلي، وهو الأثر المتوخّى من الردع في العلوم العسكرية، الذي يتحقق بالوصول إلى امتلاك قدرات نووية تجلب معها آثارا سياسية قريبة من تلك التي يمكن أن تتحقق عبر امتلاك السلاح، وهو ما توصل إليه الإيرانيون عندما أصبح الاتفاق رهنا على احترامهم لتعهداتهم والالتزام بها.

وفضلا عن ذلك، فقد اتّخذت إيران من تطوير صواريخها الباليستية ومناورات “الرسول الأعظم” المتعددة، و“الولاية 89” عنوانا للرفع من قدراتها. كما عمدت إلى تطوير استراتيجية تواجدها في المنطقة عبر تشكيل ألوية عسكرية غير إيرانية تخضع لها مباشرة بفضل قيادات عسكرية تابعة لها تسهر على تدريبها، فضلا عن وجود قوات إيرانية في كل من سوريا والعراق ومستشارين في لبنان واليمن، حيث بات الجنرال قاسم سليماني يلعب دورا محوريا في الإشراف على القوات الإيرانية في الخارج. كما اهتمت مرارا بتكوين شبكات تابعة لها وتعبئة قواعد شيعية في دول عديدة لتتحول إلى مراكز ضاغطة مثل “حزب الله” في لبنان ، وجماعة “الحوثيين” في اليمن، فضلا عن إنشاء فروع لـ“المجمع العالمي لآل البيت” للعب على عواطف العلويين في سوريا وشيعة أفغانستان وشيعة دول الخليج، تحت ستار المقاومة أحيانا وضد ظلم الأنظمة القائمة أحيانا أخرى فيما سعت إلى استغلال إرهاب داعش وحركات إسلامية متطرّفة أخرى لتسويقه كإرهاب سني يهدد الأقليات الشيعية والطوائف الأخرى داعية إلى تحويل مواجهته إلى مواجهة إقليمية ودولية.

ومن شأن الانفراج الذي خلفه الاتفاق النووي أن يمنح الإيرانيين فرصا جديدة لالتقاط الأنفاس، عبر رفع العبء الاقتصادي، فضلا عمّا كان يحيط ببرنامجها من هواجس أمنية ولوجستية وارتفاع منسوب الضغط الداخلي داخل شرائح اجتماعية إيرانية متضرّرة، والمضي في تنفيذ نزعاتها التوسعية على حساب أمن جيرانها.

وقد اقترن الصراع الإيراني الغربي بمعادلة سياسية استمرت عقودا وتراوحت بين محاولة إسقاط النظام وإفشال نموذجه السياسي من طرف القوى الغربية، ليتحول الأمر مع الاتفاق النووي من محاولة لـ“تغيير النظام” إلى محاولة تغيير “سياساته”، حيث اكتفى الأميركيون على ما يبدو بمحاولة تعديله وتطويعه، مما يشي بأن أبرز التجليات التي برزت مع الصفقة ومخلفاتها المباشرة، تكمن بشكل مباشر في الإقرار ببقاء ولاية الفقيه والاعتراف بها والتعايش معها، وهو ما يعتبر أبرز نتيجة للصفقة النووية على المدى القصير والمتوسط.

وقد مثّلت المفاوضات النووية طوال فترات مختلفة من عمر النظام الإيراني رمزا لما يسميه الإيرانيون ”استقلالية” تجسد فيها الحلم الإمبراطوري الفارسي. كما أنّ الثورة الإسلامية جعلت منه رمزا لتطور الدولة الإيرانية. ولكل ذلك يصوّر النظام نتائج الاتفاق على أنّه انتصار عظيم للثورة وللدولة الإيرانية، فهو في نظرها لا يقضي على ما حققته ولا يجهز على مكاسبه العلمية والتكنولوجية، بل إن نتائج المفاوضات تحولت من تفكيك البرنامج النووي إلى تقييد قدراته فحسب، مما فتح للنظام مجال الدعاية حوله لترسيخ شرعيته وتمتينها، لاسيما أنه بموجب انحسار الضغوطات، بدأ ينتظر جلب استثمارات اقتصادية ومالية تنعش مناخا اقتصاديا واجتماعيا إيجابيا، وهو ما يدفع نحو التفاف أوسع الشرائح الإيرانية حوله ملالي طهران. أمّا على المستوى الخارجي، فإن أبرز مكسب تحقق للإيرانيين فيتعلق باستبعاد التقرير السنوي لعام 2015، الصادر عن الاستخبارات الأميركية والموجه إلى لجنة الخدمات المسلحة في مجلس الشيوخ، إيران من دائرة الدول الخطيرة، وعدم إدراج “حزب الله” في قائمات الإرهاب الأميركية.

من جهة أخرى، لطالما تعمدت الحكومة الإيرانية عبر فريقها المفاوض إلى التلويح مرارا وتكرارا بأن عدم الوصول إلى الاتفاق، هو ضربة للإصلاحيين وإضعاف للرئيس روحاني وتقوية للمؤسسات المتشددة، وأنّ المفاوضات تعدّ فرصة لن تتكرر أمام القوى الغربية لإبرام اتفاق، فيما كان الدافع الأصلي يتعلق بتوزيع الأدوار بين المتشددين والإصلاحيين، وشن حرب نفسية وإرباك أوراق المفاوض الغربي أمام ما سمي “الخطوط الحمراء” وعدم التخلي عن الحقوق النووية لتمتين الجبهة الداخلية وخلق إجماع وطني. أما على المستوى الخارجي، فقد جعلت إيران من مواجهة داعش مساحة مشتركة مع واشنطن رغم وجود اختلاف جزئي في نظرتهما لهذا التنظيم. ويمكن انتظار انتخابات الرئاسة الأميركية في عام 2016، وانتخابات الكونغرس بعدها بعامين لمعرفة تطوراته في ما يتعلق بهذه المسألة، لكنّ عقارب الساعة الحالية تنذر بمزيد من التدخل الإيراني في العراق وسوريا في ظل تراجع القيود الأميركية.

أسس الرد العربي

يعتبر قبول إيران كجزء من النظام الإقليمي سياسيا وجغرافيا في الشرق الأوسط بمثابة كومنويلث شيعي وهو من أبرز التداعيات المباشرة للاتفاق النووي، حيث يمكن أن يخول لها أن تصبح، رفقة إسرائيل، دولة محورية مقابل التراجع المسجل لدى النظام الإقليمي العربي وذلك تأسيسا على منطق القوة؛ فالدول العربية ما زالت لا تتحرك جماعيا بالشكل المطلوب، والتنسيق في ما بينها ما زال يراوح مكانه في القضايا الإقليمية الكبرى نتيجة لتباين الأولويات وتعارض المصالح، حيث تتوزع العديد من الملفات التي تهم العرب بشكل مباشر بين إسرائيل وإيران، مثل الملف الفلسطيني ونفوذ إيران في سوريا ولبنان والعلاقة مع حماس وغيرها.

وقد فتحت إعادة إدماج إيران في المنظومة الإقليمية والدولية الباب على مصراعيه أمام رسم خارطة تحالفات عربية جديدة توقيا لأي خطر محتمل؛ إذ سارعت أبرز الدول العربية وهي السعودية ومصر والإمارات والكويت والأردن والبحرين، بالإضافة إلى المغرب والسودان وباكستان لتشكيل تحالف جديد، علاوة على محاولة ضم تركيا له مؤخرا، حيث أتت “عاصفة الحزم” والدعوة إلى تشكيل قوة عربية تحت مظلة الجامعة العربية كاستجابة ضرورية لمنطق القوة السائد بالمنطقة.

وليس من ردّ فاعل بالنسبة للدول العربية في مواجهة التمدد الإيراني سوى الخروج من دائرة رد الفعل الانفعالي وبناء استراتيجية تحتسب نقاط القوة فيه لتحييدها، وتستغل نقاط ضعفه بطريقة ناجعة. وفي هذا الصدد تبدو المواجهة الفكرية والسياسية والإعلامية للأسس التي يستند عليها النظام الإيراني لقولبة تمدده وطموحاته التوسعية ضرورية إلى أبعد الحدود. ولم يعد من حل أمام الجانب العربي أنجع من الوقوف في وجه الترويج للنموذج الإيراني ولولاية الفقيه، حتى لا تقع الجماهير العربية والأقليات الدينية تحت مطرقة الدعاية إلى ثقافة “مقاومة” من جهة وسندان التصدي لـ”ظلم الأنظمة العربية وتسلطها” من جهة أخرى، وذلك عبر اختراق تلك الدعاوى التضليلية، والرد على الثقافة السياسية الإيرانية التي تحاول الجمع بين ديمقراطية الانتخابات والتسلطية الدينية، من منطلق احترام تامّ لقيم الأقليات الشيعية في العالم العربي، وتنقية الثقافة العربية من الانجرار صوب التطرف والتعصب.

أمّا على المستوى الدولي، فيجب توسيع خارطة التحالفات العربية الخارجية بالتوازي مع تقوية العلاقات العربية المتبادلة والمشتركة، والعمل على أن يكون للدبلوماسية دور هام في استخدام الوسائل العلمية والثقافية والإعلامية لحل الخلافات العربية، وإرساء مناخ ثقة بين الدول العربية تمكنها من التعاون السياسي ودفع الأخطار عسكريا باستغلال الإمكانيات المتاحة لديها لخلق نواة عسكرية صلبة، وصياغة مضمون استراتيجية مختلفة عن النموذجين الإيراني والتركي تدافع عن مشروع عربي من دون خلفية سياسية وأيديولوجية، تشارك فيها القوى المدنية العربية بكل حرية، فضلا عن التحرر من عقدة أننا لسنا أقوياء بدرجة كافية في مواجهة التحديات المحيطة بنا.

د.حسن مصدق

صحيفة العرب اللندنية