تطورات تحسم مستقبل العراق

تطورات تحسم مستقبل العراق

21

تتفاعل في العراق الآن عدة تطورات مهمة في آن واحد من شأنها أن تحسم مستقبل العراق، وبالتحديد إلى أين يتجه العراق، وهي بالمناسبة تطورات ليست معزولة عما يحدث حول العراق وبالذات التفاعلات التي لها صلة مباشرة بما يمكن اعتباره تداعيات للاتفاق النووي الإيراني ومسارات التحول المحتملة في أداء الدبلوماسية الإيرانية عموماً على مستوى الإقليم ونحو العراق بشكل خاص، إضافة إلى التطورات المتلاحقة التي تحدث على صعيد الأزمة السورية سواء على المستوى السياسي أو المستوى العسكري.

أول هذه التطورات يتعلق بالإجراءات الإصلاحية التي أقدم عليها رئيس الحكومة حيدر العبادي والتي يعتزم إجراءها بضغوط شعبية وبضوء أخضر من المرجعية العليا للسيد علي السيستاني، وهي الإجراءات التي يتوقع أن تواجه تحديات وضغوطاً من شأنها أن تضع الحكومة ورئيسها وربما البرلمان أيضاً على المحك، فمطلب استقالة الحكومة وإجراء تغيير وزاري أخذ يتردد، وكان أول من أثار هذا المطلب هو نوري المالكي نائب رئيس الجمهورية الذي فقد منصبه هذا مع زملائه من نواب رئيس الجمهورية ونواب رئيس الحكومة ضمن حزمة الإصلاحات الأولى التي صوت عليها مجلس النواب بالإجماع يوم 11 أغسطس/ آب الجاري، كما أخذ مطلب حل البرلمان يتردد أيضاً في أوساط المظاهرات الشعبية بساحة التحرير وسط بغداد ضمن مطالب أخرى منها إقالة الحكومات المحلية، الأمر الذي أثار مخاوف حيدر العبادي الذي حذر من «محاولة خلط الأوراق بزج مطالب غير واقعية متناقضة مع مطالب المتظاهرين»، وزاد بقوله إن «هدم المؤسسات لن يخدم البلاد».
اللافت بهذا الخصوص أن مطالب الإصلاح تتصاعد ورئيس الحكومة يحاول التجاوب معها، لكن الضغوط تتفاقم أيضاً لعرقلتها. فإلى جانب الإصلاحات التي تم التصويت عليها، عرض سليم الجبوري رئيس مجلس النواب هو الآخر حزمة إصلاحات تطابقت مع إصلاحات العبادي لكنها زادت عليها مطالب دمج بعض الوزارات وتقديم الوزراء «المقصرين والفاسدين» لسحب الثقة عنهم، و«تفعيل النصوص» المتعلقة بإقالة النواب الذين يتغيبون عن الجلسات، وتحديد ولاية الرئاسات الثلاث بدورتين فقط.
العبادي لم يكتف بمطالبة «هيئة النزاهة الحكومية» بعد ساعات من تصويت مجلس النواب على إصلاحاته «رفع أسماء المتهمين بقضايا تتعلق بسرقة المال العام والتجاوز على ممتلكات الدولة والشعب لمنعهم من السفر وإحالتهم إلى القضاء»، ولكنه شرع في تنفيذ الحزمة الثانية من إصلاحاته استجابة لمطالب المتظاهرين ودعوة السيستاني وبالذات ما يتعلق ب «تطهير القضاء». فقد تزامنت دعوة السيستاني مع دعوة المتظاهرين إلى «شمول القضاء بالإصلاح، وإعادة النظر في القوانين التي فتحت الطريق للفساد». وعلى إثر ذلك دعا العبادي السلطة القضائية إلى اتخاذ سلسلة إجراءات جذرية لتأكيد هيبة القضاء واستقلاله، وتمكينه من محاربة الفساد، كما بادر إلى دمج بعض الوزارات والهيئات لرفع الكفاءة في العمل الحكومي، واتخذ قراراً يقضي بمنع المسؤولين المتهمين بملفات فساد من السفر خارج البلاد.
هل سيتمكن العبادي من مواصلة مشوار الإصلاح في ظل هشاشة قوته الحزبية والبرلمانية، والعداء الشديد الذي سيواجهه من الكتل السياسية ومن أصحاب المصالح وشركائه في السلطة؟
العبادي أجاب عن هذا السؤال بإعلانه أن «مسيرة مكافحة الفساد لن تكون سهلة، والفاسدون لن يجلسوا، بل إن بعضهم سيقاتل» مؤكداً أن الحكومة «في حاجة إلى قرارات صعبة وستتخذها من أجل مصلحة البلاد». لكن هناك معضلات حكومية حقيقية تواجه قرارات العبادي الأخيرة ومنها مسألة صعوبة المحافظة على نسب المحاصصة الحزبية والطائفية التي تشكلت حكومته على أساسها عند إجراء عملية تقليص ودمج الوزارات، الأمر الذي من شأنه أن يفجر التحالف الحاكم ويضع الحكومة أمام خيار الاستقالة ومن ثم إجهاض موجة الإصلاحات، والدخول في دوامة تشكيل حكومي جديد في ظل افتقاد التوافق والانقسام الحاد بين الكتل السياسية وهذا ما يخشاه العبادي الذي يحرص على تجنب خوض غمار خيارات صعبة مثل استقالة الحكومة أو حل البرلمان.
ثاني هذه التطورات هو التداعيات المحتملة للقرار الذي اتخذه مجلس النواب العراقي يوم الاثنين 17 أغسطس/ آب الجاري بإحالة ملف سقوط مدينة الموصل بيد تنظيم «داعش» إلى القضاء، بما فيه تقرير لجنة التحقيق التي حمَّلت المسؤولية لرئيس الوزراء السابق نوري المالكي و35 آخرين بحسب بيان سليم الجبوري رئيس مجلس النواب.
بيان الجبوري لم يكشف مدى الخلافات الداخلية في اللجنة المختصة بالتقرير، وأن التوصيات المتضمنة في التقرير لم يتم التصويت عليها بسبب الانقسام الحاد داخلها، والرفض القاطع من جانب بعض أعضائها تحميل المالكي وبعض المتهمين الموالين مسؤولية سقوط الموصل، الأمر الذي أدى إلى رفع توصيات اللجنة مباشرة إلى رئيس المجلس دون التصويت عليها، والذي بادر بدوره بإحالتها إلى القضاء وإلى الادعاء العام، وكان هذا بدوره سبباً في تفجير موجة أخرى من الصراعات السياسية سوف تنعكس حتماً على الحكومة والبرلمان.
رد الفعل الأول جاء من المالكي الذي شن من طهران حيث يقوم بزيارة إلى إيران هجوماً حاداً على لجنة التحقيق التي وجهت له تهمة التورط في سقوط الموصل، واعتبر تقرير لجنة التحقيق مجرد «تقرير سياسي لا قيمة له»، واتهم تركيا وإقليم كردستان بالتورط في المؤامرة على المدينة، وقال، عبر موقعه على فيس بوك إن «سقوط الموصل كان مؤامرة ومخططاً وضع في أربيل بالتعاون مع الأتراك وأجهزة الاستخبارات في أنقرة»، وقال : «لا قيمة للنتيجة التي خرجت بها لجنة التحقيق، فقد سيطرت الخلافات السياسية عليها، وخرجت عن موضوعيتها».
إذا أخذنا في الاعتبار المطالبة التي تقدم بها مجلس القضاء الأعلى للبرلمان العراقي بالإسراع في تشريع القوانين المتعلقة بالسلطة القضائية الاتحادية، وتفعيل أوامر القبض على المتهمين بالفساد ومنعهم من السفر وحجز أموالهم بالتنسيق مع الادعاء العام ووزارة الداخلية، فإن موقف نوري المالكي يزداد حرجاً وكذلك موقف الدولة والقضاء في ظل وجود المالكي خارج البلاد وبالتحديد في إيران، هل سيسارع المالكي بالعودة إلى العراق والتصدي للاتهامات، أو المثول أمام القضاء، أم سيختار الهروب واللجوء للخارج، وهل يمكن أن تقبل إيران بمنحه هذا اللجوء إذا قدم طلباً رسمياً، وتدخل نفسها في صراع مع الحليف العراقي؟
أما ثالث التطورات فله علاقة مباشرة بالتطورين السابقين ويتعلق بتجديد الدعوة الأمريكية لتقسيم العراق باعتبار أن ذلك هو الحل الأمثل للأزمات الداخلية العراقية، ما يعني أن التقسيم نابع من خصوصيات عراقية وليس محصلة للجرائم التي ارتكبها الأمريكيون بالعراق ابتداءً من غزوه وتدمير قدراته الاستراتيجية وجعله مهيأ للاختراق والسيطرة الإيرانية، وامتداداً للعملية السياسية التي كرّست قاعدة المحاصصة الحزبية والطائفية والعرقية كأساس لحكم العراق، إضافة إلى تمكين طبقة حاكمة طائفية جديدة من السيطرة على القرار العراقي.
الدعوة إلى تقسيم العراق جاءت على لسان رئيس الأركان الأمريكي المنتهية ولايته الجنرال ريموند أودييرنو، فهل يريد هذا الجنرال استباق الأحداث وإنفاذ «الحل التقسيمي» الذي هو جوهر المشروع الأمريكي في العراق؟
أسئلة كثيرة سوف تحسم إجاباتها مستقبل العراق، بقدر ما سوف تكشف مخطط «داعش» وأهدافه، ومن وراءه، وعلاقته بدعوة «تقسيم العراق».

د.محمد السعيد إدريس

صحيفة الخليج