التحوّط الاستراتيجي: سياسة القوى الصغرى في الخليج.. احتواء إيران نموذجاً

التحوّط الاستراتيجي: سياسة القوى الصغرى في الخليج.. احتواء إيران نموذجاً

إيران-والخليج

لطالما حظيت منطقة الخليج العربي باهتمام الكثير من الباحثين والدارسين في كافة أنحاء العالم، نظرًا لما تتمتع به هذه المنطقة من أهمية استراتيجية كبيرة بسبب الوفرة النفطية التي تتمتع بها من ناحية، وتعقد تفاعلاتها وتشابكها وتعدد الفاعلين بها من ناحية أخرى. في هذا الإطار، نشر الباحث “يوئيل جوزانسكي”، الباحث بمعهد دراسات الأمن القومي (INSS) في جامعة تل أبيب، مقالا بعنوان “أدوات السياسة الخارجية للقوى الصغرى: التحوط الاستراتيجي في الخليج”، وذلك في دورية “سياسة الشرق الأوسط” في العدد الصادر في ربيع 2015، محللا فيه الأدوات التي تستخدمها دول الكويت وقطر والبحرين والإمارات وعمان في إطار تعاطيها مع إيران.

مفهوم التحوط الاستراتيجي:
يُشير جوزانسكي إلى اعتماد عدد من دول الخليج على استراتيجية التحوط الاستراتيجي؛ بحيث تبَّنت مبدأ مسايرة السلوك الإيراني وفي الوقت نفسه العمل على تطوير قوتها بما يوازن هذا السلوك، الأمر الذي يقلل من خطورة الصراع مع إيران على المدى القصير، ويتيح الفرصة لدول الخليج الصغيرة للحفاظ على خططها الطارئة لمواجهة التهديد الإيراني على المدى البعيد.
وتعمل هذه الاستراتيجية في إطار بيئة فوضوية تسعى فيها الدول الصغيرة إلى الوصول لحلول وسطى لمشكلاتها، بما يحقق لها مكاسب آجلة، ويعزز موقفها مع الدول الكبرى، وفي الوقت نفسه يجنبها المواجهة المباشرة مع الدول الكبرى التي تهددها. بمعنى آخر تسمح استراتيجية التحوط للدول الصغرى بالحفاظ على الروابط الهامة مع الدولة التي تهددها، وفي الوقت نفسه، تشكيل تحالفات لمواجهة ذلك التهديد.
وتختلف استراتيجية التحوط عن الحياد؛ حيث إن الحياد يجبر الدولة على عدم التدخل في أي صراع، والتزام موقف واحد تجاه كافة أطراف الصراع، وعلى النقيض من هذا يتيح التحوط التعاون مع الدولة الخصم وفي الوقت نفسه التعاون مع الدولة الحليفة ضدها.
لذا، فإن التحوط يعد استراتيجية منهجية تُعنى بالأساس ببقاء الدولة، لا بحجم التأثير والنفوذ الذي يأتي في مرتبة ثانية بعد البقاء، وكما يشير الباحث فإن هذا يظهر بشكل واضح في حالة دول الخليج الصغرى في إطار علاقتها مع إيران، والتي بدت أنها اتبعت -وما زالت تتبع- هذه الاستراتيجية في الوقت الحالي.
الخليج وإيران.. تخوفات مشتركة:
على الرغم من التخوفات المشتركة لدول الخليج من التهديد الإيراني والتي دفعتها لتأسيس مجلس التعاون، فإنها اختلفت في طبيعة إدراكها لحجم ومدى التهديد نفسه، مما أدى إلى صعوبة تأسيس استراتيجية أمنية مشتركة، وأَضْعَفَ من قدرة الدول على التصرف ككتلة واحدة حيال إيران، وحتى برغم اتفاقهم على إدراكهم للتهديد الإيراني من حيث القدرات العسكرية والطموحات النووية والإرهاب، فإن كل دولة اختارت أن تحتاط في علاقتها مع إيران طبقًا لطبيعة إدراكها الخاص لمستوى وحجم التهديد نفسه، وذلك كالتالي:
1- الكويت: تعتمد الكويت في توجهها نحو إيران على “الاقتراب الحذر” نظرًا لقربها الجغرافي من إيران من ناحية، والأنشطة التخريبية التي تقوم بها إيران من ناحية أخرى، مع اعتبارات وجود أقلية شيعية في الكويت.
ويُشير جوزانسكي إلى أن بعض الأحداث قد ساهمت في إحداث توتر في العلاقات بين البلدين، مثل الحرب العراقية الإيرانية التي جعلت إيران تدخل المجال الجوي الكويتي أكثر من مرة، إلا أن الكويت عملت دومًا على احتوائها تجنبًا لحدوث أضرار كبيرة في علاقتها مع إيران، وهو ما ساعدها فيما بعد للتقارب مع إيران كقوة مضادة لعراق صدام حسين أثناء الغزو العراقي للكويت.
وبرغم بعض الأنشطة التخريبية التي تقوم بها إيران، استمرت الكويت في إبقاء العلاقات معها على نحو جيد؛ إذ استقبلت الرئيس الإيراني في 2006، ودعَّمت الطموح الإيراني المتعلق بتطوير القدرات النووية السلمية، كما أعلنت أيضًا أنها لن تسمح باستخدام أراضيها كقاعدة للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية. علاوةً على ذلك، زار الأمير الكويتي “صباح الأحمد” في يونيو 2014 طهران في أول زيارة رسمية منذ الثورة الإسلامية، وهي الزيارة التي اعتبرتها الكويت فرصة للوساطة بين السعودية وإيران من ناحية، ولتقليل التوترات بينها وبين إيران، وتعزيز صادرات الغاز الإيرانية لها من ناحية أخرى.
وبرغم كل محاولات التقارب تلك فإن بعض التوتر قد شاب هذه العلاقة، خاصةً مع اشتراك الكويت في العقوبات المفروضة على إيران، بل إنها طردت الدبلوماسيين الإيرانيين من أراضيها بعد اتهام “قوة القدس”، وهي وحدة خاصة تتبع جيش الحرس الثوري الإيراني، بالقيام ببعض الأنشطة التخريبية في الكويت.
2- قطر: احتفظت بعلاقات متقاربة مع إيران لفترات طويلة، خاصة بعد انقلاب القصر في 1995 والذي أحدث صدعًا وتوترًا في العلاقة بين الدوحة والرياض، بما شجَّع الشيخ “حمد بن خليفة الثاني” على التقارب مع إيران لضمان التطوير السلمي لحقول الغاز القطرية المجاورة للمياه الإقليمية الإيرانية.
ويمكن القول إن سياسة التحوط القطرية نحو إيران هي أيضًا محاولة لموازنة القوة والنفوذ ضد السعودية. أما من ناحية إيران فتعتبر علاقتها مع قطر بمثابة جسر للوصول لدول الخليج الأخرى، وإحداث الوقيعة بينها وبين السعودية، وكذلك إضعاف النفوذ الأمريكي في منطقة الخليج.
ويعتقد جوزانسكي أن التوتر السعودي القطري خاصة فيما يتعلق بدعم قطر للإسلام السياسي وجماعة الإخوان المسلمين، قد أدى إلى ضعف مشاركة قطر في العديد من الترتيبات الأمنية المختلفة داخل مجلس التعاون الخليجي، كما دفع قطر في الوقت نفسه إلى اتباع سياسة مختلفة عن دول الخليج في العديد من الموضوعات، وخاصةً في طبيعة تعاطيها مع إيران؛ حيث تعتمد قطر في سياستها على زيادة نفوذها الإقليمي، وحماية مواردها الطبيعية، وكذلك ألا تكون هدفًا لإيران، لذا دعت الرئيس الإيراني في 2007 لحضور قمة مجلس التعاون الخليجي في الدوحة للمرة الأولى منذ تأسيسه، بالإضافة إلى أن قطر تجنبت انتقاد إيران علانية وعملت على تطوير علاقتها معها، بما يشمل اتفاقيات التعاون الأمني بين البلدين والزيارات الدبلوماسية المتبادلة.
3- الإمارات: ساهمت بعض العوامل في تحديد علاقة الإمارات بإيران، منها القرب الجغرافي، والعلاقات التجارية الكبيرة بين البلدين، وفوق كل ذلك انتهاك إيران للسيادة الإماراتية فوق الجزر الثلاث. وتعتمد الإمارات في استراتيجيتها تجاه إيران على الاتجاه الدبلوماسي بهدف تحقيق المصالح المشتركة واحتواء الصراعات؛ إذ تعد الإمارات أكبر شريك تجاري لإيران، وتسعى لتعزيز ذلك الأمر كنوع من سياسة الطمأنة.
وبرغم العلاقات الاقتصادية القوية بين البلدين، فإن الإمارات شاركت في العقوبات المفروضة على إيران، ودعمت القوات الأمريكية سياسيًّا وعسكريًّا ضد برنامج إيران النووي، ومن ناحية أخرى زادت من إنتاجها للنفط في أراضيها من أجل منافسة وإزاحة النفط الإيراني من السوق، وهو ما يؤكد التوازن في سياستها تجاه إيران.
4- البحرين: تَعتبر البحرين إيران تهديدًا أوليًّا لأمنها القومي، وأنها المحرك الأساسي للمعارضة الشيعية داخل أراضيها، خاصة في ظل وجود أقلية سنية حاكمة على أغلبية شيعية، وهو ما دفعها لتقوية وتعزيز التعاون مع القوى الخارجية كالولايات المتحدة، أو مع حلفائها من دول مجلس التعاون، وهو ما بدا جليًّا في إرسال قوات “درع الجزيرة” للبحرين في 2011 لدعم القوات البحرينية ضد التمرد الشيعي في أراضيها، وإرسال رسالة لإيران بأن البحرين تقع في نطاق النفوذ السعودي.
وبرغم كافة هذه الاتهامات لإيران، فإنها حاولت الحفاظ على علاقاتها معها، ودعَّمت علانية حق إيران في تطوير برنامجها النووي السلمي، بل ورفضت استخدام أراضيها كقاعدة للهجوم على المنشآت النووية الإيرانية، كذلك وقّعت عقودًا استثمارية مع الإيرانيين وصلت قيمتها ما يقرب من 4 مليارات دولار خلال الـ25 سنة القادمة.
5- سلطنة عمان: حاولت الاحتفاظ بعلاقات ودية ومثمرة مع جميع الدول داخل الإقليم، ومن ثم احتفظت بعلاقات تجارية واسعة وروابط أمنية قوية مع إيران. وثمة محددات تجعل السياسة الخارجية للسلطان قابوس متفردة عن جميع دول الخليج خاصة تجاه إيران، أهمها موقعها الاستراتيجي الذي يجعلها تشترك مع إيران في مضيق هرمز، وكذلك القدرات الاقتصادية والعسكرية المتواضعة لعمان، بالإضافة إلى الثقافة المحافظة والمتسامحة التي لا تفرق بين سنة وشيعة.
وتستغل عمان علاقاتها الاقتصادية والأمنية والسياسية القوية مع إيران كوسيلة لمواجهة النفوذ السعودي السياسي والديني في أراضيها والذي تريد عمان أن تُحجمه. من جهة أخرى تسمح تلك العلاقات لعمان بلعب دور وسيط بين إيران وبين القوى الإقليمية والدولية، وهو ما يساهم، في وجهة نظرها، في تحقيق أمنها القومي، وتعزيز دورها ونفوذها الإقليمي، برغم أنه أغضب السعودية في بعض الأحيان، خاصةً فيما يتعلق بوساطة عمان في المفاوضات الأخيرة بين إيران والدول الكبرى حول البرنامج النووي.
تقييم استراتيجية التحوط الاستراتيجي:
يُشير جوزانسكي إلى أن أمن مجلس التعاون الخليجي يعتمد بشكل رئيسي على وجود قوة خارجية كالولايات المتحدة، وبعد ثورات الربيع العربي وزيادة التنافس بين السعودية وإيران اتجهت العديد من دول الخليج الصغيرة إلى العمل بكافة السبل للتحوط وتجنب المواجهة المباشرة مع إيران، والحفاظ على مصالحها الاستراتيجية من ناحية أخرى.
وتُفيد هذه السياسة الدول الصغرى لكونها تسمح لهم بخلق الانطباع العام بإمكانية تغيير سياستهم تجاه الحلفاء، لأنهم لم ينخرطوا بشكل تعاوني كامل مع أيٍّ منهم، وهو ما يعد كافيًا لمثل هذه الدول لتحسين موقفها وقت الحاجة.
ومع ذلك فإن عيوب هذه الاستراتيجية كبيرة؛ أولا لأنها تعوق فعالية التوازن ومن ثم إدارة التحالف، وهو ما حدث بالفعل في مجلس التعاون الخليجي، حيث عظَّمت الدول من أمنها الشخصي، بما أعاق تأسيس استراتيجية أمنية مشتركة لمواجهة التهديدات الإقليمية. وثانيًا أنه في وقت الأزمات قد تُصبح الدول الصغرى مجبرةً على إعلان نواياها صراحة وتحديد مع أي جانبٍ تقف، وهو ما قد يحرج الدولة ويؤثر على مصالحها. وثالثًا أن الاستمرار في هذه الاستراتيجية يُعد مكلفًا للغاية، ويتطلب موارد يمكن أن تُستخدم في الاتجاهين المتعارضين، كالتعاون مع إيران وفي الوقت نفسه موازنة قوتها.
وبرغم أن هذه الاستراتيجية تحقق على المدى القصير الأهداف المطلوب منها، غير أن حالة اللا يقين المصاحبة لسلوكيات الحلفاء قد تؤثر على طبيعة الأمن القومي لهذه الدول الصغيرة على المدى الطويل، خاصةً في ظل عدم تطوير استراتيجية واحدة متماسكة لتلك الدول لمواجهة التهديدات، فضلا عن عدم اتفاقها بالأساس على تحديد طبيعة وحجم التهديد الإيراني نفسه.

باسم راشد

المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية