ملف نووي جديد فوق الطاولة

ملف نووي جديد فوق الطاولة

الملف-النووي-كو

«نعيش في زمن عجيب، حيث القوي ضعيف جراء تردده، والضعيف قوي جراء جرأته المتهورة». هذا جواب لهنري كيسنجر استعاره من بسمارك رداً على سؤال: هل تتمكن الصين وأمريكا من اجتراح استراتيجية لكوريا منزوعة السلاح النووي؟ هذا السؤال الاستشرافي طرحه في بداية ال2014 أي قبل التفاهم النووي بين إيران وال5+1.

منذ ثلاثين عاماً، استقبلنا الرئيس الكوري كيم إيل سونغ. قدمنا إليه هدية من حرفية جزين اللبنانية. أفهمنا المرافقون، أن الرئيس يرى بعض الضيوف ولا يستقبل هداياهم، بل تودع كلها في معرض خاص شعبي هو كناية عن قصر رائع أدهشنا قرميده الكحلي. اللافت في المعرض أن الأجنحة الأكثر ضخامة وأبهة هي الروسية والإيرانية والسورية، وترفع فيها الصور العملاقة للإمام الخميني والرئيس حافظ الأسد وزعماء الاتحاد السوفييتي قبل البيروسترويكا. يومها همست في أذن زوجتي: لا أفهم شيئاً. نحن في القلعة الغامضة الأخيرة المتوترة بين الشرق والغرب، القائمة في صمت مريب وديكتاتورية مخيفة على وقع الأوبرا والأناشيد الوطنية. وكان جوابها: ليس من الضروري أن تفهم كل شيء.

سأحاول الفهم، بعد عقود ثلاثة، فأضيء الحاضر بالماضي، خصوصاً بعدما راح العالم يتطلع إلى هناك، ولأسباب ثلاثة:
1- خطف تبادل القصف بين الكوريتين الأسبوع الفائت عين العالم توجساً من ملامح حرب عالمية ثالثة، غالى به العرب. وكل ما في الأمر أن لغماً انفجر بجنديين في كوريا الجنوبية التي اتهمت كوريا الشمالية بالأمر، فجاءها رد الفعل سريعاً بقصف مدفعي عنيف طال يون شيون ومكبرات الصوت المزروعة على الحدود.
2- بعدما توصلت إيران في يوليو/تموز الفائت إلى اتفاق مع دول مجموعة ال5+1 عبر مفاوضات طويلة في الملف النووي، خرجت كوريا الشمالية في الشهر عينه لتعلن أنها غير مهتمة بأي علاقة مع العالم على غرار إيران، معتبرة أن النووي لديها هو رادع ضروري ضد عدائية أمريكا ومعلنة «إننا قوة نووية والقوى النووية لها مصالحها الخاصة».
3- ترتفع أصوات كثيرة معارضة لإيران في الغرب والشرق، تتهم طهران وكوريا الشمالية بالتعاون القديم الواسع والمتجدد في مجال السلاح النووي والصواريخ البالستية، وتشير إلى قيام البعثة النووية الكورية بزيارات ثلاث إلى طهران في 2015. وتذهب التحليلات إلى القول بسياسة التكامل والتعويض المتبادل الملغز بين الدولتين.

مهما صدقت الأسباب وتعددت، يفترض بالكتابة عن الكوريتين الشمالية والجنوبية، أن تمر بهدوء في مجريين أساسيين قبل المجاري الإيرانية السورية الفرعية:

مجرى موسكو الإلزامي بالمعاني كلها، في الطريق لزيارة كوريا الشمالية، ومجرى الصين التي تطل على ظلالها «الإمبراطورية» من هناك، فتلامس أطرافها الحدودية مع نهاية الزيارة في بلاد الجد كيم إيل سونغ التي تعميك لشدة خضرتها. فالصين حذرة من مخاطر التورط في حروب لا تتحكم هي في جذورها قبل نتائجها، وهذا يفسر ما يجمع الصين وأمريكا في مجلس الأمن بمطالبة كوريا الشمالية بالتخلي عن برنامجها النووي لا تقليصه. قد تكون أمريكا تجاوزت قمتها في العظمة لكنها ترتاح إلى الصين معتمدة المركزية منذ توحيدها في العام 221 قبل الميلاد، وهي تنحني إقراراً بسلطات الإمبراطور العليا القديم. لم تكن مجتمعاً تبشيرياً ولم تصدر نظامها بل كان يأتي إليها المتطفلون من الغرب فيتوسعون تثاقفاً Acculturationلا غزواً.

وللتذكير، فإن الصين تتأهب للاحتفال في بداية سبتمبر/أيلول المقبل بالذكرى السبعين لإنهاء الحرب العالمية الثانية، وكل كلام عن ثالثتها هو من باب المغالاة والتهويل.

هناك المجرى ال«مقدس» في كوريا بلد الإلحاد حفاز اليابان وكوريا الجنوبية على الشهوة النووية. تصل منبع الزيارة أي الحدود مع كوريا الجنوبية «الشقيقة» للتسرق من هناك بالمناظير الدقيقة على المناورات الأمريكية الكورية الجنوبية المتكررة، والاستماع إلى ضوضاء تركة الانقسام اليومي الحافل بالأغاني الوطنية وتبادل الاتهامات والاستفزازات عبر مكبرات الصوت الضخمة. مظاهر عاطفية ملفوفة بقساوة الهيبة والرعب لكنها ممهورة بالمرارة والشوق، أو الدمع الدفين الذي لا تفصح عنه قسمات الوجوه العسكرية ولا حتى سحن الأقارب حنيناً إلى تاريخ واحد قديم. شجاعة أن ترمي السلام من هناك نحو الأهل في الجنوب:
«هان يونغ ها سيمنيكا» باللغة الكورية. لماذا وصلنا إلى هناك؟

في العام 1986، قام سفير كوريا الشمالية في بيروت، بعد عشاء، بعرض فيلم سياحي عن بلده، وسألني عن الانطباع. أجبت: لا تغري الصور العين بقدر الواقع. بعد أسبوعين وصلنا بيونغ يانغ على متن طائرة روسية غطت وأقلعت على عجل بسبب قصف المطار في بيروت. كانت الزيارة أشبه بمغامرة فكرية وسياسية إلى بيونغ يانغ العاصمة الوحيدة في العالم المسكونة يومذاك بشخص، أو زعيم واحد هو كيم إيل سونغ ومنه تتفرع الأمة. ترتفع ثماثيله وصوره الهائلة في الشوارع والساحات العامة، وإليها أضيف حتماً، في عصر تحطيم التماثيل، تماثيل أخرى مشابهة لوريثه كيم يونغ أون ثم الرئيس الحالي كيم جونغ إيل. قد نتصور حقاً ما يتمتم به الناس عند مرورهم أمامها وحولها مسكونين برهبة التحديق بها.
الناس؟ تراهم هناك عبر السيارة الأوروبية السوداء يشابهون جيوشاً من «النمل البشري» الساعي في الأرض بجلد وعظم ولباس بسيط يجعل الناظر عاجزاً عن التفريق بينهم إذ تختلط عليه الوجوه التي ترافقه أو تعرف إليها للتشابه الفظيع بينهم أفراداً/ شعباً، ساعياً لإبراز وجه كوريا الخضراء المكتفية. قد يفهم المرء ذلك، بكونها ردة فعل قوية على إحراقها وتحويل أمريكا أرضها رماداً في الخمسينات. أحادية قاتلة محشورة وغارقة في المناخ الأوبرالي. حتى الجبال هناك تخالها تغني مسكونة بالأصوات الجميلة والعازفات والعازفين للأناشيد حيةً أو عبر مكبرات الصوت التي تملأ أرضها وتشبع شعبها المصنوع والمنحوت والمهندس. الشعب يغني (هل هو يغني فعلاً؟) طيلة النهار في المصانع والمزارع والقواعد العسكرية. وعلى خرير نهر «تايدونغ»، وتحت لحظ جبال «بكتو» يغني أنه الشعب الأكثر سعادة على وجه الأرض. يغني مقرفصاً عند الأمسيات في انتظار الحافلات البطيئة أناشيد حماسية «للزوتشية»، وهو اسم للعقيدة الرسمية التي أطلقها كيم ايل-سونغ مزاوجاً فيها بين الشيوعية والاكتفاء الذاتي، ومعلناً أن الإنسان المرجع المطلق في بناء الأمم والأوطان.

والمستقبل الكوري؟ دعوات متضافرة لمنح هذا الشعب الكوري حريته وفك قوالبه، والحوار مع المجتمع الدولي، وسهرات في البيت الأبيض منذ كارتر حتى أوباما مع اليابان وكوريا الجنوبية حول مثلث من التوجس.
تنفتح زوايا المثلث لطرق كثيرة تتناقش بمستقبل كيم جونغ أون رئيس بلد السلالة الشيوعية الوحيدة الحاكمة في التاريخ مذ تسلّم مفاتيح اللوحات النووية.

د.نسيم الخوري

صحيفة الخليج الإماراتية