المحادثات الأمريكية الروسية وحلول الأزمة السورية.. الشياطين عادت من جديد

المحادثات الأمريكية الروسية وحلول الأزمة السورية.. الشياطين عادت من جديد

177712177

في بداية شهر نوفمبر المقبل، ستبدأ المحادثات الرسمية بشأن مستقبل سوريا تحت رعاية الأمم المتحدة، وسيتم وضع شاشتين أمام كل واحد منا؛ الشاشة الأولى ستبُث مباشرة عمل اللجان الأربع بقيادة ستيفان دي ميستورا: الأمن والحماية المدنية ومكافحة الإرهاب والقضايا السياسية والقانونية وإعادة الإعمار. والشاشة الثانية ستكون مظلمة، ومن المفترض أن تبث شبكة الاتصالات غير المرئية حيث تُصنع الضغوط ومحاولات الإقناع والمقايضات والصفقات. ولأنّ كل شيء يحدث سرًا؛ فإنّ الشاشة الثانية ليس لديها ما تُظهره لنا.

ومثل البدوي المحنّك الذي فكّك تشفير جهاز التلفاز ليرى المرأة الجميلة على الشاشة، دعونا نلقي نظرة خلف الشاشة المظلمة.

لا توجد أي امرأة جميلة هناك، فقط رجال متجهمون يتحدثون جميعًا في وقت واحد. ولكن كل الكلمات الكبيرة المتبادلة تتلخّص في مجموعة من الحقائق البسيطة التي يمكن تبريرها أمام الجمهور. الجميع يعرف أنّ الأسد لا يمكن أن يحكم سوريا بعد الآن، حتى الذين يؤيدون هذا الرجل يدركون ذلك. الجميع يعرف أنّ تنظيم داعش هو الشر المطلق الذي يقتل المسلمين أكثر من قتله لأي شخص آخر. لماذا كل هذه الضجة إذن؟

الإجابة “المنطقية” على جميع الأسئلة تكمن في “كلمة مفتاحية واحدة”: التخلص من الأسد وتشكيل حكومة وحدة وطنية حتى يحارب الجميع ما يراه الجميع بأنه الشر المطلق: داعش.

ومع ذلك، أكره الاعتراف بأننا لا يمكننا استخدام كلمة “منطقية” في الشرق الأوسط بعد الآن؛ حيث تسكن الشياطين بشكل دائم في التفاصيل، حتى أبسط المشاكل والحلول الأكثر منطقية تتشرذم بين أصابعنا إلى مئات من التفاصيل الصغيرة، والشياطين يستمتعون بتعقيد كل ما هو بسيط في هذا العالم.

ورغم ذلك، ثمة شيء خلف الشاشة المظلمة، انتشرت تقارير بأن الولايات المتحدة قد بدأت بالفعل مفاوضات إقليمية سرية. وقد نوقشت فكرة وجود مثل هذه المحادثات بالفعل بين وزير الخارجية الأمريكي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني جواد ظريف بشأن مسارات المحادثات النووية. ومع ذلك، قال الإيرانيون إنّهم يركزون على الانتهاء من المحادثات النووية أولًا قبل الشروع في أي مسار آخر، كأنهم يقولون: “نحن لن تتخلى عن أي من أوراقنا قبل أن نحصل على الجائزة الكبرى، الاتفاق النووي“. والآن، ومع التوقيع على الاتفاق النووي، وخلال الأسابيع القليلة من التقاط الأنفاس، بدأت محادثات إقليمية في المكان نفسه الذي بدأت فيه المحادثات النووية في السر وراء شاشة مشابهة.

ولكن ما هي العلاقة بين محادثات دي ميستورا، المرئية على الشاشة الأولى، والمحادثات السرية العمانية غير المرئية في الشاشة الثانية؟ ليس ثمة علاقة، حتى الآن. يحاول دي ميستورا إحياء الأمل من جديد لربما يحدد مكان قطعة الذهب. ومحادثات مسقط تتجه إلى المنجم مباشرة؛ لأنه إذا تم التوصل إلى اتفاق إقليمي، فإنّ فروع الأزمة الإقليمية يمكن أن تتقلص نسبيًا.

ويبدو من خلال وضع كل تلك التفاصيل معًا، أنّ كيري قد توصل إلى نوع من تقسيم العمل مع وزير الخارجية الروسي سيرجي لافروف. ما قد تراه هو أنّ تترك الولايات المتحدة المسار الدبلوماسي العام للروس والأمم المتحدة بينما تذهب واشنطن مباشرة خلف الشاشة المظلمة.

تدرك الولايات المتحدة الشكوك العربية من الميل نحو إيران؛ ولذا يفضل اليسار الدبلوماسية الأمريكية. إذا اقترح السيد كيري أنّ يبقى الأسد في السلطة لبعض الوقت، فلا يمكن توجيه اللوم له في العواصم العربية لتملقه الإيرانيين؛ لأنّ هذا سيبدو وكأنه “انحياز إلى الجانب العربي”، في حين أنّ “هؤلاء الروس” هم من يلعبون تلك اللعبة. ومن ثم؛ ألمحت الولايات المتحدة للعرب والمعارضة السورية بأنّه ليس لها أي علاقة بـ”الألعاب الروسية” في المنطقة.

على كل حال، ليس ثمة فرق كبير إذا ما كانت هناك خطوات روسية أمريكية مخطط لها مسبقًا، أو أنّ هذه الخطوات تحدث على مسارين مختلفين؛ بسبب تباين التقييمات. لذلك؛ فإنّ كلا الدورين، الروسي والأمريكي، يكملان بعضهما البعض بطرق عديدة.

يعطي مسار روسيا-دي ميستورا الإدارة الأمريكية بعض المساحة لتلتقط أنفاسها (كما لو أنّ 5 سنوات لم تكن فترة كافية). إنها تمكّنها لفعل ذلك من خلال قراءة تفاصيل هذا المسار لقياس مدى قدرة الجهات المعنية على الذهاب بعيدًا في هذه القضية.

ولكن هل يعني ذلك أنّ روسيا ستفقد مصالحها مع العرب؟ يبدو أنّ السعوديين قد تخلوا عن موسكو؛ حيث ألغى الملك سلمان أي خطط لزيارة موسكو وسيأتي بدلًا من ذلك إلى واشنطن. ومع ذلك، ليس لدى الروس شيء ليخسروه في الرياض على أي حال بخلاف بعض الوعود السطحية بإبرام صفقات في المستقبل في حال تغيير السياسة الروسية، لا سيما تجاه سوريا. ولكنّ الروس يعرفون أنه إذا غيّروا سياساتهم، فإنهم سيفقدوا بعض المكاسب الملموسة الأخرى. لقد عادت إيران إلى المسرح العالمي بمساعدة كبيرة من موسكو، وتمتلك الكثير من الأشياء التي يريدها الروس.

لا يتعلق الأمر فقط بأنّ روسيا لم تخسر شيئًا تمتلكه بالفعل في علاقاتها مع السعوديين؛ بل إنها تربح من علاقاتها مع لاعبين عرب آخرين، من بينهم الملك عبد الله الثاني ملك الأردن، وعبد الفتاح السيسي، ومحمد بن زايد ولي عهد أبو ظبي، الذين تواجدوا في موسكو الأسبوع الماضي للحديث عن سوريا من بين أمور أخرى. يبدو أنّ موسكو تستفيد شيئًا فشيئًا من عدم وجود استراتيجية إقليمية حيوية للولايات المتحدة. ويبدو أنّ واشنطن قد أعطت السيد لافروف الضوء الأخضر ليفعل كل ما في وسعه، كما هو الحال في الشاشة المرئية. لا يبدو أن الولايات المتحدة ترغب في الالتزام بوعودها ولا تمتلك أي استراتيجية فعّالة. وتعتقد أنّ هذا عمل مكلّف للغاية. ومع ذلك، يفعل الروس ذلك دون تقديم أي شيء في المقابل. وفي النهاية يربحون فحسب.

من خلال لعب أدوار مختلفة، يبدو أن هناك ترابطًا بين خطة الولايات المتحدة وروسيا، إذا كانت هناك خطة بالأساس، عند نقطة واحدة؛ أي ترابط بين ما تمتلكه الولايات المتحدة وما حققه الروس. إذا كان هذا هو الحال على أرض الواقع، فإنّه سيكون جزءًا رئيسًا من الخطة الدبلوماسية، ومن المحتمل أن تنجح.

أخبر دي ميستورا الجميع بأنّ مشروعه المشترك مع الروس “جنيف 3″، يجري إعداده بنشاط، وسيستغرق كل الوقت الذي يحتاجه. كان يفكر المستمعون في شيء واحد أثناء شرح مبعوث الأمم المتحدة لخطته. لقد سمعوا كلمة “عملية” من قبل؛ عملية السلام الشائنة في الشرق الأوسط بين إسرائيل والفلسطينيين التي باتت في عداد المفقودين منذ وقت طويل وما زالت مفقودة حتى الآن.

أربع لجان، ومشروع “جنيف 3”، وعملية على قمة تلك المحادثات، تبدو أشياء كثيرة من الصعب هضمها؛ فما يقدمه لنا السيد دي مستورا لا يمكن أن نسميه فاتح شهية مناسبًا. ومع ذلك، ما يدور في رأس مبعوث الأمم المتحدة هو أنه يجب الحفاظ على مسرح مفتوح ومضاء في انتظار ما سيقدمه كيري في وقت لاحق. فهو سيختبر الممثلين، ويدرب ممثلًا أو اثنين، ويقيس إلى أي مدى يمكنهما الذهاب في هذا الأمر. صحيح أنّ السيد دي مستورا يستخدم كلمات غير جذابة، ولكنه، مع بعض المساعدة من مجلس الأمن، يقوم بالمهمة. وفي النهاية لن تكون الوجبة المقدمة رائعة؛ لذلك لا تتوقع مقبلات شهية.

نحن لا نعرف الكثير عما يوجد وراء الشاشة المظلمة. لقد جربنا كل الحيل، بما في ذلك حيلة البدوي، ولكن دون جدوى. إذا أطلقنا رصاصة في الظلام، فإننا نغامر بتخمين: انفراجة إقليمية بشأن نوع من المساومة الكبرى التي تبدأ من أم كل الأزمات، سوريا. إنه نوع من استكشاف ما وصفه الرئيس روحاني “الطريق الثالث”، على الرغم من أننا لا نعرف الطريقين الآخرين. وإذا كنا غير محظوظين ولم يصرخ أحد في الظلام، سيكون مجرد اتفاق إقليمي ضيق بين الولايات المتحدة وإيران. وسيكون ذلك أمرًا مؤسفًا للغاية؛ لأنك لا يمكن أن تبني علاقة مع أي بلد من خلال أشياء مجرّدة؛ بل يجب أن تنشأ العلاقة حول المشاكل الملموسة التي تعتبر مهمة لكلا الجانبين.

وعدَ دي ميستورا أنّ جميع القضايا ستكون على طاولة المفاوضات. ولكن ماذا عن مصير الأسد؟ لا، ليس هذه القضية. ماذا عن المعارضة المسلحة؟ ليس هذه القضية أيضًا. إذن؛ دعونا نتحدث عن الطقس اليوم. إدخال سوريا في مرحلة انتقالية دون معرفة ملامح تلك المرحلة هو مجرد مضيعة للوقت. ما يمكن استخلاصه من المبعوث هو أنّ الجزار السوري سيرحل “عند مرحلة معينة على الطريق“، إذا سارت الأمور بشكل جيد.

الشياطين عادت من جديد. ماذا يعني “إذا سارت الأمور بشكل جيد“؟ هل يعني ذلك أنّ إيران سيكون لها بعض “الامتيازات” في سوريا، خاصة فيما يتعلق بالوصول إلى حزب الله؟ هل سيقبل مؤيدو المعارضة في العالم العربي ذلك؟ هل يمكن لجماعات المعارضة السورية التوقيع على اتفاق يعطي بلدهم السيادة على أراضيها باستثناء ممر أو شحنات برية أو جوية تعبر دون رادع إلى لبنان؟ هل سيسمح تنظيم داعش بأن “تسير الأمور بشكل جيد”؟ هل سيسمح الأسد بذلك؟ هل ستعلم جبهة النصرة فجأة كيفية غناء أغنية جون لينون “تخيل”. هناك الكثير من الشياطين على أي حال.

توجد كل هذه القضايا الحاسمة وراء الشاشة المظلمة. بالنسبة إلى أولئك الذين يتساءلون لماذا لم يقل دي ميستورا شيئًا عن مستقبل الأسد أو عن بقية هذه القضايا الشائكة، والجواب هو أنه لا ينبغي عليه قول ذلك؛ فهذا ليس عمله في خطة تقسيم العمل الجديدة. هذه الأسئلة سيتم الإجابة عنها في صفقة أخرى خلف الشاشة المظلمة.

وهذا هو السبب في أنّ مشروع دي ميستورا “جنيف 3″ محفوف بالمخاطر؛ إذ يجب أن يشمل المزيد من المحتويات أكثر من مجرد القفز في الهواء من أجل جذب انتباه اللاعبين، وعلى الجانب الآخر، يجب أن يضم محتويات أقل لتجنب الإجابة عن الأسئلة الحقيقية. دي ميستورا هو حارس المسرح والمرشد، وهذا دوره فحسب. وظيفته ليست الإجابة عن أسئلة محددة، ولكن أن يرى أين يقف الجميع. ومن يدري، قد يكون قادرًا على حمل الأطراف على تناول الطعام الذي تم إعداده في مكان آخر عندما يكون جاهزًا.

المشكلة الوحيدة، وهي مشكلة كبيرة، هي توسّع تنظيم داعش وجبهة النصرة في سوريا. هناك بعض الحمقى يقطعون الكهرباء عن كلا الشاشتين الآن. إنهما يتقدمان إلى نقطة حيث سيتحول عندها هذا العرض إلى عرض مبتذل وسخيف.

وإذا ضحكوا في النهاية، فإنّ الضحك سيكون على كل هذه الحيل الدبلوماسية وتقسيم العمل؛ حيث لا تعكس وتيرة التقدم خطورة الوضع على الأرض؛ فالوضع يحتاج إلى مزيد من العمل.

يبدو أن هناك خطرًا آخر يظهر في هذا الضباب. إذا نظرنا عن كثب إلى شاشة دي مستورا والأمم المتحدة سنرى كيف شكّلت ممثلي المعارضة السورية؛ لا يمثل أي من المشاركين أيًا من القوات المقاتلة الرئيسة على الأرض.

والافتراض هو: هل يمكن أن تُعالج القوات المقاتلة على الأرض من خلال القوى الإقليمية؟ المعارضة المدنية هي التي ينبغي أن تشكّل الحكومة الانتقالية بمشاركة ممثلين عن النظام.

حسنًا، دعونا نرى ما إذا كان هذا “الفصام” هو النهج المناسب لمواجهة داعش والضغط العربي، ومقاعد الحكومة للمعارضة المدنية.

في الجنوب، تلقى زهران علوش، زعيم جيش الإسلام، رسالة مفتوحة من مقاتليه يسألونه لماذا يبقى سلبيًا ويؤجل شنّ هجمات على مواقع النظام جنوب دمشق بينما لا يزال الأسد يذبح السكان بلا رحمة في المنطقة ولا سيما في دوما.

دعونا نتخيل السيناريو التالي: تنظيم داعش يكثف الحرب الدعائية ضد الجبهة الجنوبية، ويتهم علوش بخيانة شعب الجنوب والخضوع لرغبات الجهات الراعية الإقليمية له (قيل إنّ علوش يقيّد قواته استجابة لـ”توصيات” من الخارج). وفي مرحلة ما، وتحت دعاية داعش وجبهة النصرة، فمن المرجح أن جزءًا من قوات علوش، فضلًا عن الجماعات الصديقة خارج الجبهة الجنوبية، ستنضم إلى داعش تحت شعار الدفاع عن المدنيين وباسم الولاء لهدف مكافحة الأسد حتى النهاية.

هذا مجرد مثال واحد يعطينا فكرة أنّ القادة الإسلاميين غير الداعشيين ربما يتحولون، عن غير قصد، إلى قوى هامشية في حين تتحرك قواعدهم إلى مخيم النصرة أو داعش، وهذا بالتأكيد سيبدو أكثر اتساقًا خلال فترة المناورة الدبلوماسية.

جماعات المعارضة المدنية هم الطرف الصالح في هذه المعادلة. ولكن أرض المعركة تحولت إلى صفقة كبيرة وغرقت تمامًا في مياه العسكرة. إذا لم يكن لديك بندقية، فأنت لا يعوّل عليك. هل يقبل هؤلاء الرجال أن يُستخدموا كغطاء يخفي وضعًا لم يتغير على أرض الواقع؟

ومن الواضح أنّ عرض دي ميستورا المسلي سيستمر مع اجتماعات لا تنتهي، تهدف إلى القيام بمهمة محددة هي: إعداد منصة لهبوط الطيور كلما كانت جاهزة.

ولكن ماذا لو هبطت الطيور في مكان آخر؟

التقرير