الأفكار ضد السلاح: موقع “تيد” .. نموذج التحركات الناعمة في التغيير السياسي

الأفكار ضد السلاح: موقع “تيد” .. نموذج التحركات الناعمة في التغيير السياسي

2762

تُعد الثورة التكنولوجية وما أفرزته من تكنولوجيا رقمية من أهم مسببات سرعة التواصل بين أرجاء العالم، بعيدًا عن حاجز الزمان والمكان، كما أنها ساهمت وبشكل كبير في إحداث تلاقح ثقافي وفكري عبر عمليات تدفق الأفكار والثقافات من خلال الشبكة الدولية للمعلومات التي أتاحت تواصلا أكبر بين الشعوب على المستويات غير الرسمية بعيدًا عن الدوائر الحكومية الرسمية. وقد زادت في هذا السياق مبادرات المجتمع المدني والمنظمات غير الحكومية في مجال نشر الأفكار والإبداع والحوارات المتبادلة العابرة للحدود القومية اعتمادًا على التكنولوجيا الحديثة، والمواقع الإلكترونية لتسهيل التواصل، ومن تلك المبادرات “موقع تيد TED”.

التعريف بمبادرة تيد

تسعى مبادرة تيد (TED)، التي هي اختصار: تكنولوجيا وترفيه وتصميم (Technology, Entertainment and Design)، إلى نشر أفكار إيجابية بين الشعوب من خلال مؤتمرات دولية في مجالات العلوم والأعمال والفنون والقضايا العالمية المشتركة بين الشعوب. وتمتلك تلك المبادرة مؤسسة سابلنج Sapling Foundation، وهي مؤسسة أمريكية لا تهدف للربح. وترفع المبادرة شعار “أفكار تستحق الانتشار”.

وتهدف “تيد” إلى وصول الأفكار لأكبر عدد من المتابعين؛ حيث تعقد مؤتمراتها مصحوبة ببث حي بلغات مختلفة، كما يعتمد العرض على سرد القصص لمتحدثين من بلدان مختلفة في مجالات العلم والثقافة المختلفة، يقدمها المتحدثون بطرق شيقة ومبتكرة لجذب انتباه المتابعين.

وتتنوع مجالات تحرك مبادرة تيد بين مؤتمرها (Ted conference) الذي يعقد في الربيع بالولايات المتحدة. وتتنوع اهتماماته بين العلوم والفنون والأعمال التجارية والقضايا العالمية على مدار أربعة أيام، يتحدث فيه حوالي 50 محاضرًا لمدة 18 دقيقة لكل منهم، وتتخلل ذلك عروض موسيقية وفنية مختلفة.

وهناك أيضًا (Ted active)؛ حيث يَعرض عددٌ ممن يحضرون مؤتمر تيد العالمي تجاربهم، واستفادتهم، وخبراتهم من أجل إثراء نقاشات فكرية وحوارية تدعم تطوير الأفكار وتلاقحها، وأحيانًا كيفية تطبيقها على أرض الواقع.

وأخيرًا مؤتمر تيد العالمي (Ted global) الذي يعقد في أماكن مختلفة من العالم كل عام، يحاضر فيه عدد من المحاضرين الدوليين بهدف تبادل الخبرات والمعارف مع بعضهم بعضًا. وتتنوع أماكن عقد المؤتمر وأهدافه، فقد عُقد مؤتمر تيد العالمي في أكسفورد في المملكة المتحدة في عام 2005 و2009 و2010، ثم في أروشا في تنزانيا عام 2007، وفي أسكتلندا عام 2011 و2012 و2013، وفي ريو دي جانيرو في البرازيل عام 2014.

وبجانب ذلك تسعى تيد لعقد أحداث دولية مختلفة منها: تيد العالمية في الهند Globe TED India الذي عقد في 2009 لإعداد واستكشاف قادة آسيا. وتيد للمرأة TED Women الذي عُقد في ديسمبر 2010 في واشنطن، وفي 2014 في سان فرانسيسكو لمناقشة دور المرأة في تشكيل المستقبل. وتيد للشباب TED Youth الذي عُقد في نيويورك عامي 2011 و2012 لإلقاء محاضرات تحفيزية للشباب. كما يعقد تيد أحداثًا محلية مثل “صالونات تيد” و”أمسيات تيد” و”أحداث تيد”.

ويشمل موقع تيد كافة الخطب والكلمات التي تم إلقاؤها في أحداث ومؤتمرات تيد. وقد بلغ عدد المتحدثين في فاعليات تيد المتنوعة ما يقرب من 1579 متحدثًا حتى أكتوبر 2014، وبلغ عدد الأحداث التي أقيمت برعاية تيد والتي أتيحت على موقع تيد على الشبكة الدولية للمعلومات في أكتوبر 2014 ما يقرب من ألفٍ وسبعمائة وستين محاضرة. ويصل عدد مشاهدي هذه المحاضرات إلى الملايين، وقد وصلت أعلى نسبة مشاهدة إلى تسعة ملايين لمحاضرة في شهر يونيو 2006 عن “كيف تقل المدارس الإبداع How schools kill creativity”.

أهداف تيد وأفكارها

يستهل موقع تيد أهدافه بكونه “نحن نؤمن بحماس في قوة الأفكار لتغيير المواقف والحياة، وفي النهاية تغيير العالم؛ حيث نسعى لبناء تبادل معرفي اعتمادًا على أفكار وآراء مفكري العالم الأكثر شهرة والساعين للمعرفة ولديهم الفضول في ذلك..”. تؤمن تيد بقوة الفكرة في تغيير الواقع، وقد كان ذلك من مهامها الرئيسية، حيث تقوم على نشر الأفكار الثقافية والعلمية، وبناء مساحات مختلفة من الرؤى والآراء المختلفة، حيث تتلاقح الأفكار في ظل تبادلها وعرضها من رؤى مختلفة من العالم في ظل تلاقي ثقافات مختلفة يعكسها المتحدثون.

ومن أجل الوصول إلى أكبر عدد من المتابعين والمشاركين إيمانًا بدور الفكرة في التغيير أطلقت تيد مشروع الترجمة المفتوحة لمختلف المتطوعين من أرجاء العالم، حيث بدأ المشروع بـ300 ترجمة و30 لغة و200 مترجم متطوع من أنحاء العالم. بعد مرور عام، أصبح عدد الترجمات 21 ألف ترجمة من آلاف المتطوعين من مجتمع تيد.

ومن منطلق السعي للترويج للأفكار الخلاقة، وخلق مساحات نقاشية وحوارية متبادلة، وخبرات النجاح المختلفة على مستوى العالم؛ فقد كان متحدثو تيد العالمية من أكثر الأفراد نجاحًا وشهرة على مستوى العالم؛ حيث كان من ضمن متحدثي TED رئيس شركة مايكروسوفت العملاقة بيل جيتس، ونائب الرئيس الأمريكي الأسبق آل جور، والباحثة البريطانية في علم الإنسان وسفيرة الأمم المتحدة للسلام جين جودال، والروائية الأمريكية الشهيرة إليزابيث جيلبرت، ورئيس شركة فيرجن العملاقة للسمعيات والبصريات السير ريتشارد برانسن، والسياسي ورجل الأعمال الهندي ناندان نايلكاني، ومصمم السلع الفرنسي فيليب ستارك، ووزيرة المالية والخارجية النيجيرية السابقة نكوزا أوكونجو أيويلا، والكاتبة التشيلية إيزابيلا اللندي، ورئيس الوزراء البريطاني الأسبق جوردن براون.

ولا تتوقف أهداف تيد عند حد النقاش وتبادل الأفكار، بل وضعت تيد جائزة سنوية TED Prize للاستفادة من الأفكار والمواهب والموارد الإنسانية المتاحة في المجتمعات تُمنح لأحد المشاركين لتحقيق “أمنية تسعى لتغيير العالم”، وقد نتج عن هذا التحفيز مبادرات تعاونية مفيدة للتغيير بدأت في البداية بمجال الصحة العالمية، ثم اتسعت لتشمل مبادرات التغيير حول العالم، ومن المشاريع الفائزة في تيد على سبيل المثال:

– مشروع “Once Upon A School” لداف إيجرز Dave Eggers، وهدفت المبادرة لعلاج تكدس الطلاب في المدارس المحلية، وعدم تلقي الاهتمام والرعاية الكافية، فجاء المشروع يحمل فكرة أن يكون هناك مدرس لكل طالب، جمع فيه صاحب المبادرة متطوعين لتعليم الأطفال، وأنشأ مركزًا للمتطوعين لتعليم الأطفال في بلده، ويمكن للفكرة أن تنتشر في بلدان العالم لحل مشاكل التعليم في المدارس المحلية.

– مشروع “Next Einstein” لنيل تورك الذي هدف إلى رعاية المواهب العلمية في جميع أنحاء إفريقيا، وبالتالي أسس المعهد الإفريقي للعلوم الرياضية (AIMS: African Institute for Mathematical Sciences) في كيب تاون في عام 2003، وهدف المركز لرعاية الموهوبين من جميع أنحاء القارة الإفريقية بعد التخرج والمساعدة في توفير إمكانيات البحوث المتقدمة والحديثة، خاصة تنمية المهارات الرياضية للطلاب الأفارقة، لا سيما القابلة للتطبيق منها. وقد أحدث المعهد فرقًا كبيرًا، فمنذ عام 2003 تخرج في المعهد الإفريقي للعلوم الرياضية 305 طلاب من 30 بلدًا إفريقيًّا منهم 30٪ من النساء، وأكثر من 95٪ سعوا للحصول على درجة الماجستير أو الدكتوراه في جامعات متميزة في إفريقيا وخارجها. وأصبح خريجو ذلك المعهد الآن يدعمون الجامعات الإفريقية، ومراكز البحوث والحكومة والصناعة.

– مبادرة “One.Org” لبونو Bono وتعد one هي منظمة تهدف لتحسين الأوضاع العامة في إفريقيا، وسياسات التنمية، ومحاربة الفقر، والأمراض، ووضع برامج وسياسات لرفع الوعي العام، والضغط من أجل حياة أفضل، وتحسين مستويات التعليم في إفريقيا عبر حملات شعبية لتحسين المستقبل. وتقوم المنظمة بحملات من أجل سياسات أفضل للتنمية، ومساعدات أكثر فعالية، وإصلاح التجارة. وهي تؤيد المزيد من الديمقراطية والمساءلة والشفافية.

ولاقت تجربة تيد رواجًا على المستويات المحلية وفي بلدان العالم المختلفة؛ حيث تم إنشاء Tedx تيدكس على المستوى المحلي، وقد ظهر تيدكس لتحفيز الأفراد على الحوار والمشاركة على خطى تيد العالمية، حيث أعطى تيد المجتمعات والمنظمات والأفراد فرصة لتنشيط الحوار من خلال التجارب الشبيهة على المستوى المحلي، وهو امتداد لتيد العالمية أقيم في 2010، حيث تم عقد أكثر من 750 مؤتمرًا في أكثر من 70 دولة. ولاقت فكرة تيد رواجًا غير عادي في البلدان العربية، في مصر والسعودية والعراق والبحرين وغيرها. وأصبحت تيدكس مجالا لتبادل خبرات النجاح والطموح.

تيد والأفكار السياسية

على المستوى السياسي، ظهرت اتجاهات اهتمت بتأثير انتشار الأفكار على السياسة بوجه عام، سواء على المستوى الداخلي والخارجي، حيث تحدث البعض عن أن الأفكار لها تأثير على السياسة في ظل وجود معتقدات ذات قيمة كبرى يتم تضمينها في مؤسسات تسعى لنشر هذه الأفكار، لذلك ظهر اتجاه مأسسة الأفكار الذي يعبر عن أفكار تتبناها مؤسسات يستمر تأثيرها على المدى الطويل، ويأتي ذلك في إطار سياسات التحكم في تكوين الصورة المتبادلة، حيث إن الدول التي تحمل قيمًا عالمية وتدافع عنها مثل الحرية والديمقراطية ومحاربة الفقر تكون لديها قدرة أكبر على ممارسة القوة الناعمة، وذلك في إطار القيام بعملية تأثير شبكية، ويهدف ذلك لتكوين بيئة خارجية في صالح الدولة وشركائها في إطار حفظ المصالح المشتركة. وبالتالي ظهرت اتجاهات تتحدث عن دور الأفكار والتحركات الناعمة في التغيير السياسي، وقوة الكلمة في مواجهة قوة الأسلحة، ويمكن تضمين جهود تيد في إطار تلك المراجعات التي تنبع من مبادرات غير رسمية تستهدف التغيير.

تناولت مبادرات تيد العديد من الأفكار السياسية القابلة للنقاش، ونماذج التغيير السياسي المختلفة، وتناولت محاضرات تيد قضايا وأفكارًا سياسية عدة، منها:

أولا- نظم الحكم المختلفة. ساهم ارتباط تيد بالإطار الثقافي الغربي في الترويج لأفكار الديمقراطية والحرية التي تتبناها تلك البلدان؛ إلا أن محاضرات تيد امتدت لتشمل وجهات نظر مختلفة حول الديمقراطية، فقد قدم أستاذ العلوم السياسية الصيني “إريك لي” محاضرة عن عيوب الديمقراطية الغربية، وخلل النظام الرأسمالي الغربي، وعدَّد من فوائد نظام الحزب الواحد في الصين، ولذلك تُعتبر تيد مجالا لتلاقح الأفكار السياسية حول نظم الحكم والتجارب التاريخية السياسية المختلفة.

ثانيًا- محاربةُ الفساد ودعم الشفافية والمحاسبية. فقد قدم “بيتر آيجن” المدير السابق للبنك الدولي في نيروبي ومؤسس منظمة الشفافية الدولية، محاضرةً عن طرق محاربة الفساد، وتبادل الخبرات العالمية في هذا الشأن من واقع العمل في دوائر سياسية واقتصادية عدة، وكيفية تأثير الفساد على حياة الأفراد ومستوياتهم المعيشية، وبالتالي مستقبل النظم السياسية واستقرارها الذي غالبًا ما يرتبط بتوفير تلك الحاجات الأساسية.

ثالثًا- العلاقة بين السياسة والمال والاقتصاد مع ظهور قضايا أمنية غير عسكرية مرتبطة بأمن الإنسان الذي تتهدده قضايا الفقر والجوع والبيئة والمناخ. فقد اشتملت كلمات محاضري تيد على مناقشة تلك القضايا الجديدة في السياسة بعيدًا عن القضايا العسكرية التقليدية التي لم تعد وحدها من مهددات أمن البشرية، وكيف أن العالم أصبح أكثر ارتباطًا، وعليه مواجهة تلك القضايا في أطر تعاونية أكثر منها صراعية؛ حيث إن أدوات مواجهة التهديدات الجديدة لم تعد فقط أدوات عسكرية، وإنما أصبحت الجهود المالية والاقتصادية والتوعية الثقافية عوامل هامة لمواجهة التحديات الجديدة التي تواجه العالم.

رابعًا- تحولات القوة في العالم، ومراجعة مفهوم القوة في التحركات الخارجية للدول، وتغير طبيعة القوة، وظهور القوة الناعمة، وارتباطها بالثقافة والفنون والعلوم والتكنولوجيا. فقد قدم الوزير الهندي “شاسي ثارور” في إحدى محاضراته في تيد نموذج تغير القوة الهندية، ونموذج تغيير صورة الهند في العالم عبر القوة الناعمة والاقتصاد والتكنولوجيا والثقافة.

خامسًا- قضية التغيير السياسي في المجتمعات، وارتباطها بأطر ثقافية مختلفة، وتبادل الخبرات حول تجارب التغيير السياسي، وعلاقة الدين بالسياسة وقضية التغيير، ودور القيادة السياسية في التغيير وسمات القائد وتأثيرها.

ملاحظات حول تيد ودورها في تبادل الأفكار

لاقت فكرة تيد رواجًا على مستوى العالم، وقد ارتبط ذلك بقوة جذب الأفكار التي تبنتها تيد، ودور الأفكار في التغيير؛ حيث إن مسار التطور الإنساني يعتمد على ذلك التأثير والتأثر في ظل عالم أصبح يتميز بتأثير شبكي متعدد المستويات بين الشعوب في مجالات الحياة المختلفة. وانتشرت فكرة تيد في البلدان العربية ولاقت انتشارًا بين أوساط الشبان؛ حيث أقيمت العديد من المؤتمرات في البلدان العربية محاكاة لنموذج تيد العالمي لنشر الأفكار الخلاقة والمواهب المختلفة.

ومما لا شك فيه أن التبادل الفكري وقوة الكلمة والفكرة في مواجهة قوة الأسلحة يُلقي بمزيد من السلام على الشعوب، حيث تقلل النقاشات الفكرية والحوارية من حدة الاختلافات والتناقض، في ظل أن تكوين الفكرة ذاته تُساهم فيه حضارات وثقافات مختلفة قد تحد من فكرة سيطرة ثقافة على أخرى، أو تقديم نموذج ثقافي أوحد جدير بالتقليد دون غيره؛ حيث إن اختلاف مصادر تكوين الفكرة يجعلها أكثر قبولا في ظل تعدد مساهمات تطوير الأفكار من أطر ثقافية مختلفة.

وتعد الأفكار والحوارات والنقاشات على المستوى السياسي من أهم ملامح تقريب العالم، وتخفيف حدة الصراعات والاختلافات الفكرية والأيديولوجية من جانب، وتقديم مساهمات حضارية مختلفة لحل مشاكل سياسية مشتركة بين شعوب العالم من جانب آخر، مثل مشاكل الفقر والمناخ والبيئة والتنمية، وهي مشكلات تحتاج إلى تعاون أكثر منه خلافًا وصراعًا.

سماح عبد الصبور: مدرس مساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية

http://goo.gl/LVScF7