الموقف التركي من قضية اللاجئين السوريين

الموقف التركي من قضية اللاجئين السوريين

211729_0

تركيا هي الدولة الأولى الأكثر تأثراً بأزمة اللاجئين السوريين منذ الأشهر الأولى للاحتجاجات الشعبية في سوريا، وقد أصبحت قضية اللاجئين قضية خلافية بين الرئيس السوري بشار الأسد ورئيس الوزراء التركي رجب طيب أردوغان في الأشهر الأولى من انطلاق الثورة السورية بتاريخ 15 أذار /مارس 2011، لأن تدفق اللاجئين السوريين أول ما بدأ كان إلى تركيا. حاول الأسد أن يستغل صداقته مع أردوغان لمطالبة حكومتها بعدم استقبال اللاجئين السوريين ولا فتح مخيمات اللجوء لهم، وعدم إثارة القضية في وسائل الإعلام التركية، ولا السماح للإعلاميين العالميين بزيارة مخيمات اللجوء السورية في تركيا، وعدم اتخاذها وسيلة لفضح عنف النظام وبطشه للمتظاهرين بدرجة قاسية، حيث كان يقتل في اليوم الواحد أكثر من مئة متظاهر، بهدف أن يدخل الرعب والخوف في قلوب الشعب، الذي ظن الأسد وشبيحته انهم لا يزالون على عهدهم القديم في الخوف منه ومن شبيحته ومعتقلاته وقتله وإرهابه.
وقد كان جواب الحكومة التركية واضحاً وقوياً بانها إن لم تقف إلى جانب الشعب السوري وحمايته من بطش النظام فإنها لن تكون إلى جانب النظام السوري، وانها لن تغلق الحدود ولن تمنع السوريين من الفرار إلى تركيا، وأعلنت انها سوف تستقبلهم وتعاملهم معاملة الضيوف وليس اللاجئين ولا المشردين ولا النازحين. نقول ذلك للتذكير، لأن الحلول التي يتحدث عنها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين اليوم بان الأسد على استعداد لقبول حكومة وطنية منتخبة من الشعب السوري أن تشاركه في الحكم جاء متأخرا جداً، بل جاء بعد أوانه أيضاً، فالعرض الذي يتقدم به الأسد للشعب السوري جاء بعد خمس سنوات من القتل والتشريد، قتل فيها نصف مليون مواطن واعتقل وشرد أكثر من نصف الشعب السوري، ثم يأتي بعد ذلك ليقدم عرضاً تقدمت به الحكومة التركية له في الأشهر الأولى من انطلاق الثورة، لأنه تجاهل أنها ثورة شعب، وتجاهل مطالبها وتجاهل احترامها وتجاهل إرادتها، كما عوده أبوه حافظ الأسد، وكما طالبته الدول الدكتاتورية الايديولوجية التي طالبته بعدم الاستماع إلى النصائح التركية، وطالبته بالأخذ بيد من حديد لقمع الثورة وضرب طلائعها والمقربين منها، فكانت هذه النصائح الروسية هي طريق الدمار لسوريا وشعبها، وقد أيدت هذه النصائح الدولة الأكثر ايديولوجية في قمع شعبها، أقصد الدولة الإيرانية الطائفية. وقد أخذ بشار الأسد بالأوامر الروسية والإيرانية وقام بكل ما يملك من عمليات القتل والإرهاب والمحاربة للشعب السوري، وهو يتوقع أن مجازره وجرائمه سوف تؤتي اوكلها قريباً، حتى انتهت الستة أشهر الأولى من القمع والقتل والإرهاب والمطاردة للمتظاهرين دون ان تحقق نجاحا كان يرجوه، وعندها بلغت القناعة التركية بأن الأسد كذاب ولا أمل منه، ولن يستطيع إيجاد حل سياسي سلمي للمصالحة مع الشعب السوري، أعلن اردوغان فقدان ثقته بالأسد والحكومة السورية التي تتبع لأوامره.
لقد كانت الأشهر الستة الأولى دليلاً كافياً لبشار الأسد وحزبه على ان قمع الثورة الشعبية مستحيلاً، ولكن القيادة الروسية رأت خلاف ذلك وهي التي لا تستسلم أمام الإرادات الشعبية، وتقمع ثوراتها بالحديد والنار، فطالبت بشار الأسد أن يدخل الجيش السوري في قمع الثورة الشعبية، فأدخل بشار الجيش السوري لقمع الثورة وكانت النتائج عكسية مئة في المئة أيضاً، حيث أخذت عناصر الجيش السوري تفر إلى تركيا والأردن مثل باقي الشعب السوري الأعزل، وأخذت تركيا تستقبل ضباط الجيش المنشقين عن الجيش السوري، وسمحت لهم القيام بما يرونه ممكنا لتقديم الدعم إلى شعبهم وحمايته من القتل والتدمير والتعذيب. ولكن البطولة الأكبر ظهرت من شجاعة الشعب السوري في الداخل فقد أوشك أن يأخذ مبادرة المعركة من النظام السوري وشبيحته وجيشه مع نهاية عام 2012، بالرغم من اعداد اللاجئين إلى الدول المجاورة بما فيها تركيا قد بلغ مئات الألوف، وعشرات المخيمات في دول الجوار، مع تحمل تركيا لكل أعباء الإيواء داخل تركيا دون طلب مساعدة من أحد، لأن إمكانيات الدولة التركية تسمح بذلك أولاً، وهي تستقبل اللاجئين السوريين على أساس مفهوم المهاجرين والأنصار الإسلامي كما أكد ذلك رئيس الوزراء التركي أردوغان ذلك في أكثر من مناسبة، وعلى أساس ان تاريخ العودة أصبح قريباً لأن أيام النظام أصبحت قريبة النهاية. مع نهاية عام 2012، بعد الانتصارات التي حققتها فصائل الثورة السورية، ودعم الشعب السوري لها بكل أطيافه وقومياته ومكوناته الفكرية والسياسية. لقد كان مرور عامين من القمع والقتل والتشريد والتدمير كافياً ليصل بشار الأسد لقناعة بان قمع الثورة مستحيل، ولم يبق أمامه شيء إلا ان يبحث عن خلاص له، بالنفي إلى موسكو أو إيران أو غيرها من الدول، ولكنه بدل ذلك خضع للنصائح والأوامر الروسية والإيرانية الجديدة، والتي توصلت إلى ان عجز القوات الأمنية والجيش السوري على قمع الثورة الشعبية لا يعني بالضرورة أنه لا يوجد طرق أخرى لقمع الثورة الشعبية، فالدول التي تنقصها بضائع معينة يمكن استيرادها من الدول الأخرى، وطالما ان النظام السوري فقد الأمن والحرس والجيش السوري الذي يحميه فالحل باستيراد مقاتلين من الخارج، فكان الحل ان يستورد الأسد المقاتلين الإيرانيين المشبعين بالعداء الطائفي للعرب والمسلمين، وتم توريط مقاتلي «حزب الله» اللبناني بأمر من فلاديمير بوتين. لم ينته عام 2014 إلا وكانت أجزاء كبيرة من سوريا تحت سيطرة فصائل الثورة السورية، وأجزاء أخرى تحت سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية بينما كان اللاجئون السوريون قد بلغوا الملايين داخل سوريا وخارجها.
وقد واكبت الدول الأوروبية وأمريكا كل هذه التطورات، وكانت الاستراتيجية الأمريكية ترى بان متطلبات تغيير خرائط الشرق الأوسط تحتاج إلى نشوء فوضى وحروب في هذه الدول، وقد وجدت في قمع بعض الرؤساء العرب مثل القذافي وعلي عبدالله صالح وبشار الأسد فرصة لتطبيق نظرياتها في الفوضى الخلاقة، بل والحروب الأهلية المدمرة، التي تفتح قريحة الذهنية الأمريكية للخرائط السياسية المستقبلية للشرق الأوسط، ولتحريك الاقتصاد الأمريكي الراكد، ولذلك كانت السياسة الأمريكية غير جادة في منع محاربة بشار الأسد لشعبه بالدبابات والطائرات بل والأسلحة الكيميائية حتى فضح أمرها، واتخذت تحذيراتها له بعدم استخدام الأسلحة الكيميائية ذريعة لتدمير هذه الأسلحة وليس لتدمير نظامه. ولم تكن أمريكا تلتفت إلى صرخات أطفال اللاجئين ولا أنين امهاتهم في الليل البارد شتاء، ولا النهار الحار صيفاً، وكانت تماطل بإرسال المبعوثين الدوليين واحدا بعد الآخر وهي تعلم انها تؤخر نهاية الصراع في سوريا، وكذلك تابعت المؤتمرات الدولية، وخلقت العراقيل أمام المعارضة السورية ومجالسها الثورية وائتلافاتها السياسية وهي تعلم انها تكسب الوقت في تفاهماتها النووية مع إيران وتمنيها بالنفوذ السياسي مقابل التنازل عن المشروع النووي، وهو ما تم لها في النهاية في اتفاق فيينا. في كل هذه السنوات لم تقف التنديدات التركية من أهمال أمريكا والغرب بمسألة اللاجئين، بدأت من نقد رئيس الوزراء التركي ومن وزراء الخارجية الأتراك متهمة الغرب الأوروبي والأمريكي بإهمال وتجاهل قضية اللاجئين، ولكن دون التفات من الدول الأوروبية ولا من أمريكا، وكثيرا ما ندد الرئيس التركي بالمواقف السلبية الأوروبية التي تتناقض مع ما تنادي به أوروبا من دفاع عن الحقوق الإنسانية. فخلال السنوات الأربع الأولى لم يكن عدد اللاجئين السوريين الذين دخلوا البلاد الأوروبية يزيد عن مئتي ألف (200000) لاجئ، في حين كانت تركيا تستضيف في بعض الأوقات أكثر من مليوني لاجئ، وكذلك الأردن ولبنان.
ولكن فشل الحرس الثوري وتوابعه الطائفية المتشيعة في قمع الثورة السورية أو القضاء على فصائل المقاتلين الذين جاؤوا من كل أنحاء العالم قد فرض على العالم أزمة لا يمكن مواصلتها. تغيرت معادلات الصراع في سوريا، فأصبحت المعركة داخل سوريا بين فصائل معارضة من الشعب السوري، وأخرى تابعة لتنظيم الدولة الإسلامية، وأخرى تابعة لقوات الحرس الثوري الإيراني وتوابعه من «حزب الله» اللبناني، وأخرى من وحدات حماية الشعب الكردي التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي في سوريا، وقلة قليلة من بقايا نظام بشار الأسد، التي لا تسيطر على أكثر من 20٪ من أراضي الدولة السورية، ولكل قوة عسكرية منها سيطرة على بقعة جغرافية أو أكثر، في شماله أو جنوبه، وفي شرقه أو غربه، وهكذا أصبح نصف الشعب السوري مشردا داخل بلاده وخارجها، وأصبحت الحلول السياسية المقبلة لا بد ان تأخذ بعين الاعتبار توزيعة القوات العسكرية المسلحة على الأراضي السورية، وانسجامها مع التركيبة الطائفية التي تنتمي إليها.
وهكذا وجدت الاستراتيجية الأمريكية ان الوقت قد حان لتقسيم سوريا على أسس طائفية وعرقية، كما فعلت في العراق وصياغة دستوره الطائفي عام 2003، ولكن أمريكا لا تستطيع ان تفرض هذا التقسيم ولا يوجد لها جندي أمريكي واحد على الأرض السورية، وقد فشل الجيش الإيراني في إحكام السيطرة على سوريا مهما قام من جرائم ومجازر خلال سنتين وأكثر، وبالتالي فقد جاء الدور الروسي لتثبيت التقسيم في سوريا على أسس طائفية وعرقية، وروسيا التي خسرت معركتها الأولى على يد بشار الأسد في السنتين الأوليتين 2011 و2012، وخسرت معركتها في سوريا على يد الحرس الثوري الإيراني وحزب الله اللبناني في السنتين التاليتين 2013 و2014، فإنها تامل ان تستطيع من خلال قواتها المسلحة وجيشها وطيرانها العسكري ان تحفظ مصالحها ووجودها في سوريا، من خلال صناعة كيان سياسي لبشار الأسد أو النظام السوري الذي يرثه، والذي يتبع لإيران المتشيعة في تشيعه وطائفيته، بينما يمكن التقارب مع الكيان الكردي والتصالح معه، ليكون صديقاً للكيان السوري العلوي التابع لروسيا سياسياً، أو لا يكون عدوا له على أقل تقدير، وتحاول روسيا تسويق ذلك على دول مجلس التعاون الخليجي وحفظ مصالحها الجزئية، مقابل كف يد إيران في اليمن، وإلا فإن الخيارات الأخرى ستكون أصعب.
وأما باقي السكان السوريين وهم من السنة وهم الأغلبية السكانية فإن معظمهم اليوم في مخيمات اللجوء في تركيا والأردن ولبنان وبعض الدول العربية، وقلة منهم في الدول الأوروبية، وهؤلاء لا يوجد تصور لعودتهم إلى سوريا المقسمة، وبالتالي لا بد من فتح مجال بيعهم للدول التي تحتاجهم لتغذية مجتمعاتها واقتصادها بالشباب الفتي والأسر صغيرة العمر والأيدي العاملة القوية، ولذلك ارتأت بعض الدول الأوروبية أن تستقبل بعضاً منهم، وأعربت عن رغبتها باستقبال أعداد من اللاجئين السوريين على أراضيها، فاعلنت ذلك في إعلامها قبل أسابيع، لرفع الحرج عن نفسها وقد تناقضت مواقفها الإنسانية مع أزمة اللاجئين منذ أربع سنوات.
وهكذا نشأت أزمة اللاجئين بفعل التقصير الدولي في معالجة الصراع في سوريا منذ بدايته، وتم ترك سوريا والشعب السوري فريسة لبشار الأسد وشبيحته لأكثر من سنتين وهو يقتل شعبه دون حسيب ولا رقيب، ثم تم ترك الشعب السوري لأكثر من سنتين أخريين للحرس الثوري الإيراني وميليشيات «حزب الله» اللبناني تقتل به طائفياً، وتشرده إلى خارج بلاده. وأخيرا جاءت الرأفة الدولية عند الدول الأوروبية لاستقبال عشرات الألوف من اللاجئين على أراضيها لذر الرماد في العيون، فأقامت الدنيا بضجة إعلامية كبيرة لتبرير أخذ ضحايا بشار الأسد وضحايا خامنئي وضحايا فلاديمير بوتين إلى سوق النخاسة الأوروبية، وكل دولة تريد ان تمن على الشعب السوري وعلى العرب وعلى المسلمين وعلى الإنسانية بانها تستقبل اللاجئين وتساعدهم في عمليات تزوير للحقيقة، وسرقة للبشر ومتاجرة بهم، وهم الذين يبحثون عن مأوى يلجؤون إليه ولو كان في معتقلات أوروبا وسجونها.
لقد جاء الرد التركي على هذه المشاهد المؤلمة على لسان الرئيس التركي رجب طيب أردوغان فقد انتقد جهود الدول الغربية قائلا «إن إدعاءات سعي الغرب لجلب الحرية إلى كل من العراق وسوريا وليبيا، بدأت تفقد مصداقيتها، حين نرى تلك الدول الغربية لا تحتمل وجود بعض اللاجئين على أبوابها».
ثم جاء التنديد التركي على لسان رئيس الوزراء التركي أحمد داود اوغلو ، فقد انتقد تقصير المجتمع الدولي لحل مشكلة اللاجئين التي لاقت صدا عالميا في الأيام الأخيرة، واصفا جهود تلك الدول بـ «المحدودة والهزلية.
وطوال المرحلة السابقة ولأكثر من أربع سنوات وتركيا تطالب بإيجاد منطقة آمنة في شمال سوريا بهدف تأمين أراض آمنة للاجئين في سوريا نفسها، سواء في شمالها على الحدود التركية السورية، أو في جنوبها على الحدود الأردنية السورية، طالما أن الحدود الشرقية مع العراق والغربية مع لبنان طائفية، فالمنطقة الآمنة تهدف إلى أن يجد الفارون من القتل الطائفي، ومن البراميل المتفجرة مكاناً يأوون إليه داخل بلادهم، وقد كانت أمريكا والدول الأوروبية تستطيع تأمين ذلك المكان لو كانت جادة في معالجة أزمة اللاجئين السوريين، ولكن الأجندة الأمريكية والأوروبية لم تكن تفكر في مساعدة الشعب السوري ونازحيه، وإنما بتأمين مصالح العقلية الاستعمارية وسيطرتها وهيمنتها على منطقة الشرق الأوسط، ولو بحجة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية الذي وجد كنتيجة لفشل الحرس الثوري الإيراني في مهمته القذرة في سوريا.
ولم تستطع الحكومة التركية فرض منطقة آمنة صغيرة في شمال سوريا بمفردها، لأن أمريكا كانت ترفض ذلك، ولكن الحكومة التركية فرضت على أمريكا قبول المنطقة الآمنة عملياً ولو وصفتها بالمصطلح الأمريكي منطقة «خالية من الأخطار»، وقد ذلك للحكومة التركية بعد أن ربطت الحكومة التركية بين استخدام أمريكا لقواعدها العسكرية التركية من قبل قوات التحالف الدولي وأمريكا تحديداً وبالذات قاعدة إنجيرليك بموافقة أمريكا على هذه المنطقة، مهما كان حجمها، فالمهم أن تكون هناك منطقة آمنة يلجأ إليها الشعب السوري هرباً من القتل ومن البراميل المتفجرة والغازات السامة، وهكذا تأخرت أمريكا والمجتمع الدولي أربع سنوات لإقامة المنطقة الآمنة بحسب الرؤية التركية لمساعدة اللاجئين السوريين، بينما كان الحل بين أيديهم لو كانوا صادقين.

محمد زاهد جول

صحيفة القدس العربي