تركيا والتدخل الروسي في سوريا

تركيا والتدخل الروسي في سوريا

580

تشعر تركيا بمرارة شديدة من التدخل العسكري الروسي في سوريا، فقد باتت تحس بأنها في مواجهة مباشرة مع روسيا وإيران في سوريا، ولعل ما يزيد من شعورها بالمرارة هو إحساسها بالطعن من قبل حلفائها الغربيين إزاء الأزمة السورية، خاصة وأن اقتراحها بإقامة منطقة أمنية عازلة لم يلق التجاوب من قبل الغرب.

وقد كان جل التعاطي الأميركي مع هذا الاقتراح على شكل مراوغة سياسية فاقمت من تعقيدات الأزمة السورية وشجعت فلاديمير بوتين على الانتقال من إستراتيجية مد النظام السوري بالمعونات العسكرية إلى المشاركة المباشرة في العمليات الحربية، لتنتقل بذلك الأزمة السورية إلى مرحلة جديدة على صعيد التوازنات والحسابات وعوامل القوة والحسم.

نظرة تركيا
ترى تركيا أن التدخل العسكري الروسي في سوريا نقل العلاقات التركية الروسية إلى مرحلة حساسة بات فيها الاقتصاد -الذي كان ركيزة لهذه العلاقة- جزءا من البعد السياسي الأمني للمعركة الجارية خاصة بعد أن أوقف بوتين خط ما يسمى الدفق الجنوبي للغاز.

“تركيا تشعر بأن أحد أهم أهداف التدخل العسكري الروسي هو منع إقامة منطقة أمنية عازلة طالبت بها مرارا، ولعل نوعية بعض الأسلحة والمعدات تشير إلى هذا الأمر، فنشر نظام الدفاع الصاروخي SA22 هدفه يتجاوز محاربة داعش أو استهداف الفصائل المسلحة أو حتى حماية المنشآت الروسية “

ولعل من الأهمية هنا الإشارة إلى أن هذا التدخل جاء بعد أيام قليلة من زيارة قام بها الرئيس رجب طيب أردوغان إلى موسكو وتصريحاته من هناك حول إمكانية القبول بالأسد لفترة انتقالية قبل أن يقلب بوتين ظهر المجن للجميع، ويعلن أردوغان أن تصريحاته فهمت بطريقة خاطئة، وأنه لا يمكن القبول بالأسد.

وهذا ما يؤكد التناقض الإستراتيجي في سياسة البلدين تجاه الأزمة السورية واحتمال انتقالها إلى مرحلة الاشتباك السياسي والدبلوماسي والصدام غير المباشر في الشمال السوري بعد أن افتقد الحرص الدبلوماسي والسياسي دوره.

تعتقد أنقرة أن التدخل الروسي يحمل جملة من الأهداف والمخاطر معا، ولعل من أهم هذه الأهداف:
1- إنقاذ النظام السوري من الانهيار خاصة بعد النجاحات التي حققتها المعارضة السورية المسلحة في الشمال السوري خلال الأشهر الأخيرة، وسيطرة داعش (تنظيم الدولة الإسلامية) على مناطق واسعة في الشمال والشرق والوسط، وبالتالي فإن التدخل الروسي جاء لقلب موازين القوة وفرض معادلة جديدة في الداخل تحت عنوان مكافحة الإرهاب، هدفها القبول بالنظام في إطار تسوية سياسة محتملة.

والهدف الروسي من ذلك يتجاوز المعادلة الداخلية السورية إلى التمسك بموقع إستراتيجي حيوي يشكل قضية حياة أو موت للإستراتيجية الروسية في الشرق الأوسط والبحر المتوسط.

2- حسم قضية معركة حلب التي راهنت عليها تركيا بأنها ستكون منعطفا لجهة إسقاط النظام، ولعل الأهداف التي تقصفها الطائرات الروسية والتي طالت مختلف الفصائل السورية المسلحة والحديث عن معركة برية واسعة في الشمال للجيش السوري بمشاركة إيران وحزب الله وتغطية جوية روسية تؤكد أن الهدف الروسي هو تحقيق انتصار ميداني كبير، وإذا ما حصل مثل هذا الأمر فإنه سيشكل ضربة كبيرة لتركيا وحلفائها من المجموعات المسلحة في الشمال السوري.

3- ربطا بمعركة الشمال السوري، فإن تركيا تشعر بأن أحد أهم أهداف التدخل العسكري الروسي هو منع إقامة منطقة أمنية عازلة طالبت بها مرارا، ولعل نوعية بعض الأسلحة والمعدات تشير إلى هذا الأمر، فنشر نظام الدفاع الصاروخي SA22 -كما تشير التقارير- هدفه يتجاوز محاربة داعش أو استهداف الفصائل المسلحة أو حتى حماية المنشآت الروسية التي أقيمت في سوريا، وإنما له أهداف لها علاقة بمنع إقامة منطقة أمنية عازلة وربما باحتمال تطور المواجهة العسكرية لاحقا إذا ما اتخذت الدول المعارضة للتدخل الروسي موقفا عمليا من هذا التدخل.

بموازاة هذه الأهداف، ترى تركيا أن ثمة مخاطر حقيقية ستترتب على أمنها الداخلي من التدخل الروسي، ولعل في مقدمة هذه المخاطر أن هذا التدخل قد يشكل ضوءا أخضر لتقدم وحدات حماية الشعب الكردية باتجاه جرابلس ومارع وصولا إلى عفرين على شكل اكتمال للإقليم الكردي في شمال سوريا وشرقها، وهو ما يعني انتقال إستراتيجية حزب العمال الكردستاني إلى مرحلة جديدة في ظل تصاعد وتيرة المواجهة بين الجانبين وعلى أبواب الانتخابات البرلمانية المبكرة.

“ترى تركيا أن ثمة مخاطر حقيقية ستترتب على أمنها الداخلي من التدخل الروسي، ولعل في مقدمة هذه المخاطر أن هذا التدخل قد يشكل ضوءا أخضر لتقدم وحدات حماية الشعب الكردية باتجاه جرابلس ومارع وصولا إلى عفرين”

إستراتيجية الاشتباك
لسان حال أردوغان يقول إن بلاده لن تقبل بفرض سياسة الأمر الواقع الروسية كما صرح بذلك أكثر من مرة، وقد كشف خلال مقابلة مع قناة الجزيرة قبل أيام أن بلاده ستقوم بعدة خطوات وعلى مستويات عدة أسماها بدبلوماسية الهاتف، وفي خطواته طرح موضوع إقامة منطقة أمنية خلال جولته الأوروبية والتشاور مع الدول الغربية والإقليمية التي تقف نفس الموقف من الأزمة السورية، والتواصل مع القيادة الروسية لمحاجتها في موضوع التدخل، لكن إلى جانب هذه الجهود، من الواضح، أن ثمة مسارين ستعمل تركيا عليهما.

الأول: دعم الفصائل السورية المسلحة في الشمال السوري لمنع حصول تطورات ميدانية كبيرة لصالح النظام وحلفائه، ويبدو أن الأمر الجوهري هنا يتعلق بنوعية هذا الدعم، وتحديدا تقديم أسلحة مضادة للطائرات والتي طالبت بها الفصائل المعارضة مرارا، إذ إن تقديم مثل هذه الأسلحة يعني تصعيب المهمة الروسية في تحقيق أهدافها، وربما إغراق روسيا في حرب طويلة تذكر البعض بالسيناريو الأفغاني، ولعل القرار بتقديم مثل هذا الدعم النوعي لا يتوقف على تركيا فحسب بل على حلفائها الإقليميين والدوليين ولا سيما السعودية وقطر والولايات المتحدة.

الثاني: إستراتيجية بناء القواعد العسكرية المتقابلة، فمقابل بناء روسيا قاعدة عسكرية ضخمة في جنوب اللاذقية إلى جانب القاعدة العسكرية الموجودة في ميناء طرطوس وافقت تركيا على فتح قاعدة ديار بكر أمام الطائرات الأميركية بعد فترة من السماح للطائرات الأميركية باستخدام قاعدة إنجرليك في الحرب الجارية ضد داعش.

كما أن التأكيد الأميركي على إعادة نشر صواريخ باتريوت في تركيا بعد سحبها وتحديثها يشكل مؤشرا قويا على احتمال اندلاع سباق من نوع جديد في المنطقة عنوانه إقامة المزيد من القواعد العسكرية المتقابلة بين روسيا والغرب على الأراضي السورية والتركية، بما يعني احتمال المواجهة العسكرية.

ولعل ذلك يتوقف على مسار العمليات العسكرية الروسية في الفترة المقبلة وأهدافها، على نحو هل ستؤسس هذه العمليات لتسوية سياسية أو الانفتاح على خيارات أخرى، تتراوح بين احتمال المواجهة الأمنية والاشتباك المخطط على الأرض ولو عبر الفصائل السورية المسلحة وخيار اتباع إستراتيجية إغراق روسيا في الوحل السوري كما جرى في أفغانستان؟

استحقاقات التدخل الروسي
من الواضح أن التدخل العسكري الروسي في سوريا صعب من الموقف التركي للغاية ووضعه في مأزق، إذ من شأنه ليس فقط زيادة الأعباء والتحديات الأمنية على الحدود وإنما وضع إستراتيجية تركيا لإسقاط النظام أمام امتحان حقيقي، ولعل ما يزيد من صعوبة الموقف هو عدم ثقة تركيا بجدية الإدارة الأميركية تجاه الأزمة السورية.

ولعل أولى الاستحقاقات هنا هي كيف ستحضر تركيا نفسها للهدف الروسي المتمثل بإنقاذ النظام السوري؟ من الثابت أن تركيا أعلنت أنها لا تقبل بهذا النظام كجزء من الحل، ولكن ماذا لو تقدمت سياسة الأمر الواقع الروسية على الأرض واتضح لتركيا أن الإدارة الأميركية المنكفئة على نفسها تقبل بذلك خاصة وأنها أعلنت أنها تقبل بالنظام كجزء من الحل في المرحلة الانتقالية؟

“ثمة من يتحدث بأن الموقف التركي قد لا ينتظر موقف الإدارة الأميركية إلى ما لا نهاية، فتركيا لا تتحمل خسارة كبيرة في الداخل حتى لو اقتضى الأمر تقديم أسلحة نوعية للفصائل السورية المسلحة لمواجهة الصواريخ والطائرات الروسية”

سؤال يضع تركيا بين حدي السكين، فالقبول بالنظام كجزء من الحل يعني خسارة حكومة حزب العدالة والتنمية كامل المصداقية وهي أمام انتخابات تشريعية مبكرة ومصيرية، والذهاب إلى المواجهة لرفض سياسة الأمر الواقع الروسية دون وجود قرار أميركي يضع تركيا أمام مخاطر كثيرة ولا سيما في ظل تفجر الحرب مع حزب العمال الكردستاني وجغرافيتها المجاورة لدول مناوئة لها، من سوريا إلى إيران وأرمينيا.

التحدي الثاني هنا، ماذا لو أصبحت القوات الكردية التابعة لوحدات حماية الشعب جزءا من العملية العسكرية الروسية كما أبدت هذه القوات استعدادها والحديث عن موافقة موسكو بل والقبول بإقامة مكتب تمثيل للإدارة الذاتية في روسيا؟

دون شك، من شأن هذا الأمر تعظيم خطر الصعود الكردي الذي يتطلع إلى ربط المناطق الكردية من أقصى الشمال إلى أقصى الشرق وصولا إلى جبال قنديل التي ترى تركيا أنها تقف وراء هذا المشروع تطلعا إلى إقامة إقليم كردي في تركيا يحكمه حزب العمال الكردستاني.

ثمة من لا يستبعد مثل هذا الأمر طالما خرجت الأزمة السورية عن إطارها السوري إلى صراع إقليمي ودولي قد ينتج خرائط سياسية وجغرافية جديدة، تركيا قد تجد هنا أن سياستها تجاه الأزمة السورية لم تعد تتعلق بالنظام السوري وإنما هي سياسة حياة أو موت.

وعند هذه النقطة، ثمة من يتحدث بأن الموقف التركي قد لا ينتظر موقف الإدارة الأميركية إلى ما لا نهاية، فتركيا لا تتحمل خسارة كبيرة في الداخل حتى لو اقتضى الأمر تقديم أسلحة نوعية للفصائل السورية المسلحة لمواجهة الصواريخ والطائرات الروسية.

خورشيد دلي

المصدر : الجزيرة