اقتصاد البطالة: الإنسان لم يعد ضروريا

اقتصاد البطالة: الإنسان لم يعد ضروريا

_63737_ta3

وصل باحثون ومحللون كثر إلى الاعتقاد بأن هذا التداخل الهائل للتكنولوجيا والأجهزة المبتكرة في الحياة اليومية للناس سيقود إلى وصول نسبة معدلات البطالة في المستقبل إلى ما بين 50 و75 بالمئة.

ومن بين هؤلاء موشيه فاردي أستاذ علوم الكومبيوتر في جامعة رايس الأميركية الذي قال قبل نحو 25 عاما إن “قيادة السيارات بواسطة البشر ستبدو ضربا من الحماقة، وسينظر إليها في المستقبل كما ننظر الآن إلى الحصان والعربة”.وأثارت تصريحات فاردي حينها الكثير من الاستغراب.

وإذا حدث ذلك، فإن 4 ملايين يعملون كسائقي سيارات في الولايات المتحدة على سبيل المثال سيفقدون وظائفهم، ومعهم هؤلاء الذين يعملون في الصرف الصحي وبائعو السوبرماركت. وشيئا فشيئا ستبدأ الوظائف التي تحتاج إلى مجهود بشري في الاختفاء بعد أن تبتلعها حركة الأتمتة المتسارعة.والأتمتة هي استبدال المجهود البشري في إنجاز الأعمال بالروبوت أو مكينة تستطيع إنجاز هذه الأعمال دون تدخل بشري.

وستختفي الوظائف المرتبطة بعمليات الدفع أو تحويل الأموال أيضا، وهذا يعني أن 7 ملايين من الموظفين في قطاع الأعمال والمصارف الأميركية سيجدون أنفسهم بلا عمل.

وحينما يتم تجميع كل هذه الوظائف معا، فإن التفكير بأن البطالة ستتوقف عند حيز الـ50 بالمئة أمر شديد التفاؤل.

75 بالمئة لا عمل لهم

ويقول مارتن فورد المتخصص في علوم التكنولوجيا إن معدل البطالة في العالم قد يصل إلى 75 بالمئة بحلول نهاية القرن الحالي.

ويرى فورد أن غالبية الناس “يقومون بأعمال روتينية. الاقتصاد البشري دائما ما كان بحاجة إلى الأعمال الروتينية، لكن يبدو أن هذه الأعمال لن يتم إنجازها في المستقبل بواسطة البشر”.

ويقول أندرو مكافي واريك برينجوفلسون إن دائرة الأتمتة تتسع كل يوم بشكل كبير. لم يبق من الوظائف غير المهددة بالفناء غير هذه الوظائف التكنولوجية الجديدة، كهؤلاء الذين يعكفون على ابتكار تطبيقات للهواتف الذكية أو أجهزة الكومبيوتر اللوحي، والوظائف الأخرى التي لا يبدو أن الروبوت قادر على القيام بها بعد، مثل عامل التنظيف في المطعم وبعض الوظائف الخدمية الأخرى.

ولا يؤثر مستوى التعليم على حقيقة أن الوظائف المستقرة التي اعتاد الناس أن يستيقظوا صباح كل يوم للذهاب إليها لم تعد كافية.وبمعنى آخر، فإن الصناعات الحديثة اليوم ليست من نوعية تلك الصناعات التي تتطلب عمالة كثيفة.

ويقول محللون اقتصاديون إنه بالإضافة إلى كل ذلك، فإن هؤلاء الذين يعملون في الوظائف التي تقبع في قاع التراتبية الاجتماعية يعانون أصلا من انخفاض معدلات أجورهم، وحينما يتم استبدالهم في المستقبل بروبوتات تم تطويرها كي تكون قادرة على إنجاز الأعمال التي يقومون بها، فسيؤدي ذلك حتما إلى اتساع الهوة بين الأجور بالتوازي مع الارتفاع الذي تشهده معدلات البطالة في المقابل، وهو ما قد يقود إلى دخول العالم في انكماش اقتصادي غير مسبوق.

وخلال القرن التاسع عشر، أسفر اكتشاف المحرك البخاري عن التخلي عن العديد من الوظائف التقليدية، رغم أن هذا الاكتشاف أدى على الجانب الآخر إلى خلق وظائف جديدة. لكن الأمر يختلف جذريا هذه المرة لأن الكمبيوتر والبرمجيات الذكية والروبوت حلوا محل العديد من الأشخاص، فيما تبقى من الوظائف في مجال الصناعة، ومروا أيضا إلى تهديد الوظائف في قطاع الخدمات.

ولم تعد السيارات بدون سائق والطائرات بدون طيار ضربا من الخيال العلمي، بمرور الوقت، قد تقضي هذه الاكتشافات على الملايين من فرص العمل في مجال النقل.

وناقشت كتب مثل “الجيل الثاني من الأتمتة” لبرينجوفلسون ومكافي، وكتاب “انتهت النسبية” لتيلر كاون، العديد من النماذج الأخرى من الوظائف التي باتت تنجز عن طريق الأجهزة التكنولوجية. وكشفت النتيجة أن هذه الأجهزة غالبا ما تعوض أدمغة البشر وليس عضلاتهم فحسب، ومن المرجح أن يتنامى هذا الاتجاه.

وإلى جانب القطارات التي لن تحتاج إلى سائق وكذلك السيارات والمصانع والسوبر ماركت، بات الناس قادرين على حجز رحلة لمدة أسبوع أو أكثر إلى دولة أخرى ودفع فاتورتها عبر الإنترنت من دون الحاجة إلى الذهاب إلى وكالة السفر والسياحة لقضاء نصف ساعة للحديث مع مندوب يساعدهم على حجز الرحلة.

وباتت العمليات المصرفية والتحويلات المالية تنجز عن طريق موقع المصرف أو تطبيق يتم تحميله في دقائق قليلة على الهاتف الذكي، ومن ثم اختفت الحاجة للانتظار في صفوف طويلة من أجل طلب المساعدة في إجراء عملية تحويل أموال.

حتى المؤسسات الحكومية لم تعد بحاجة إلى أعداد هائلة من الموظفين الذين كانت تعتمد عليهم في السابق، وبدلا من ذلك باتت مستعدة لتقليص أعدادهم والاعتماد في المقابل على الإنترنت في إنجاز المعاملات الحكومية.

ركود اقتصادي

لكن ما لا يبدو أن مؤيدي التوسع التكنولوجي غير مدركين لتبعاته، هو حجم الركود في الاقتصاد الذي سينتج عن عزوف الكثير من البشر عن شراء احتياجاتهم غير الضرورية بمجرد فقدهم لوظائفهم.وارتفاع معدلات البطالة وانخفاض الأجور بالتبعية سيؤديان بالضرورة إلى انخفاض حاد في معدلات الإنفاق والثقة الشرائية.ورغم ذلك ستبقى أسعار الخدمات كإيجار المسكن والتأمين الصحي والفائدة على الدين والطعام والطاقة ثابتة ولن تتراجع رغم انخفاض الأجور.

وستكون الأسر العادية أقل استعدادا للإنفاق على السلع التي تراها غير ضرورية، ومن ثم سيفتح ذلك الباب أمام غلق الكثير من الشركات والمصانع التي تعتمد على هذه السلع غير الضرورية.

ويقول مراقبون اننا اذا ما القينا نظرة أوسع على هذه السلع غير الضرورية، فسنجد أنها تشغل حيزا كبيرا في حركة الاقتصاد بشكل عام.

وتقوم الفكرة في جوهرها على أن العامل هو في النهاية مستهلك أيضا، وهو من يقود من خلال إنفاقه على شراء السلع الدورة الاقتصادية بأكملها.

وإذا ما تم استبدال هذا العامل بروبوت فلن يكون هذا الروبوت قادرا على الخروج من المصنع أو المؤسسة من أجل التسوق.

وقد يحتاج الروبوت إلى تغيير بعض الأجزاء بداخله أو شراء قطع غيار لإصلاحه، لكن هذه العملية لا تدخل في صميم الدورة الاقتصادية في نهاية المطاف، لأنه إن لم يكن هناك أحد يستطيع شراء ما ينتجه الروبوت فسيكون مجبرا على التوقف عن العمل.

ويقول مارتن فورد صاحب كتاب “ضوء في نهاية النفق” إن العالم بات أمام خيار محدد، و”إننا لو قررنا أتمتة جميع الوظائف أو غالبيتها، أو إذا قمنا بخفض الأجور للدرجة التي يصبح الناس معها قادرين على شراء احتياجاتهم الاساسية فقط، فسيكون من الصعب توقع كيف سيصبح الحال الذي سيكون اقتصاد السوق عليه في المستقبل”. ومع ذلك، مازال بعض المحللين يشككون في أن المستقبل سيكون بهذه القتامة التي يبدو عليها من بعيد.

ويعتمد أنصار هذه النظرية على العديد من موجات الابتكار والأتمتة التي شهدها التاريخ، ويقولون إنه في وقت قريب في عام 2000، استقر معدل البطالة في حدود 4 بالمئة.

ويؤكد هؤلاء أن الإرادة الإنسانية غير مقيدة، لذلك فالبشر يعتقدون طوال الوقت أن هناك دائما المزيد من العمل الذي يتعين القيام به.ولا تعتبر أسواق العمل في هذه الأيام مرنة بالقدر الكافي، خصوصا بالنسبة للرجال الذين يرزحون في أسفل سلم الوظائف.

وخلال فترة طويلة من القرن العشرين، انتقل العمال من الزراعة إلى العمل في المجال الصناعي، عندها كانت شهادة التعليم الثانوية والاستعداد للعمل كفيلين في كثير من الأحيان، لأن التكنولوجيا في هذه الأيام كانت غالبا ما تعتمد على العمل اليدوي.

لكن العديد من الوظائف الجديدة تتركز في مجالات الرعاية الصحية والتعليم، حيث يعتبر التدريب المتخصص والدراسة أمرين مطلوبين.

وفي مختلف القطاعات الاقتصادية عادة ما تكون الشهادة الجامعية كافية. لكن لكي يترقى الموظف في السلم الوظيفي حتى يصبح مديرا فقد أصبح لزاما عليه الحصول على شهادة الماجستير، وأن يتولى مجموعة واسعة من المهام التجارية التي تقريبا لم تصل إلى مسامع الأجيال السابقة.

كل هذه التطورات وغيرها تعني أن وضع الأشخاص الذين لم يحصلوا على شهادات عليا في مجتمعات اليوم أصبح غير ملائم، حتى وإن كانوا موهوبين جدا. لذلك ليس غريبا، أن ترتفع نسبة البطالة في صفوف هؤلاء.

وبجانب ذلك، فإن العديد من القطاعات الاقتصادية لم تتوسع بالقدر الكافي في مجال التوظيف، سواء اعتمدت كثيرا على التكنولوجيا مثل تجارة التجزئة عبر الإنترنت أو بقدر أقل مثل صناعات التعدين.

صحيفة العرب اللندنية