إيران.. استحضار التاريخ ووهم القوة

إيران.. استحضار التاريخ ووهم القوة

170246_0-700x450

على إيران أن تتحلى بالواقعية وتنسى التاريخ الإمبراطوري، ويقدم نظامها ما فيه خدمة للشعوب الإيرانية الباحثة عن الاستقرار والأمن والتنمية
العرب .
يبدو أن التاريخ لم يسعف كلا من إيران والعراق على بناء الاستقرار والسلام، فقد ظل العراق هو المصدر الأول لمواجهة صراع “العروبة والإسلام” مقابل أكبر إمبراطورية تأثرت به (الإمبراطورية الفارسية) وضعف العراق قابله، دائما، تدفق فارسي إيراني نحو سهل السواد.

ومنذ فجر تاريخ الصراع اجتمع أولئك الأغراب للنيل من العراقيين وحضارتهم، تحركهم نزعات الثأر ونشوات الانتصار، مثل انتصار الفرس على العرب وسحق دولتهم البابلية عام 536 قبل الميلاد، حين ثأر كورش الفارسي من إمبراطورية نبوخذ نصر بعد السبي البابلي فأنقذ اليهود وأعادهم إلى “أورشليم” وبنوا هيكلهم حسب ما جاء بالأسفار اليهودية القديمة. والمثال الثاني هو هزيمة كسرى على يد عمر بن الخطاب في معركة القادسية بقيادة سعد بن أبي وقاص. ولهذا فالحقد على الخليفة الثاني هو حقد قومي على العرب الأوائل تم تغليفه بقصص مذهبية معروفة.

ودخل الفرس في شرايين الدولة العباسية وتآمروا عليها من الداخل عبر البرامكة فأكلوا قلبها وقتلوها. وظهر بابك الخرمي زعيم إحدى الفرق المنحرفة ضد الإسلام (الخرمية) وتحالف مع إمبراطور الروم في عهدي المأمون والمعتصم وقاتل العرب لعشرين عاما مستغلا وهن وضعف الدولة، ومعروفة صيحة الأسيرة العربية “وامعتصماه” فانتصر لها وتم سحق بابك.

المفكر الإيراني المعروف صادق زيبا يؤكد عنصرية الفرس بقوله “إن الحقد والضغينة تجاه السنة ورموزهم لدى الكثير من الإيرانيين هو في واقع الأمر الوجه الآخر للحقد على العرب”، ويضيف “إننا كإيرانيين لم ننس بعد هزيمتنا التاريخية أمام العرب ولم ننس القادسية بعد مرور 1400 عام عليها، فنخفي في أعماقنا ضغينة وحقد دفينين تجاه العرب وكأنها نار تحت الرماد قد تتحول إلى لهيب كلما سنحت الفرصة”.

وظلت تلك الحلقات المدمية من تاريخ الدولة العربية الإسلامية وعلاقتها بالفرس وسيلة لتمزيق الحاضر، بدلا من طيّ صفحات الصراع والبحث عن قواسم مشتركة للحياة المدنية العصرية، وتعايش الشعوب خصوصا الشعبين العراقي والإيراني، ظلت إيران القومية تبحث عن طرق ومسارات لاستغلال فرص الضعف العربي في العصر الحديث لصالح مشروعها التاريخي، ففي عهد الشاه لم تكن اللعبة متقنة لأنه لم يجد استخدام الغطاء المذهبي مثلما أصبح عليه نظام ولاية الفقيه بعد عام 1979. حيث استثمر الحكام الجدد لعبة “الثورية” لتركيز سلطتهم الجديدة وسط مناخ عربي واهن تتصدره الشعارات العنترية من زعماء مستبدين بمواجهة إسرائيل فتحالف معهم معمر القذافي وأمدهم بالسلاح ولكن ليس لمحاربة عدو العرب الأول إسرائيل، وإنما ضد العراق في الأيام الأولى للحرب 1980-1988، وهكذا فعل حافظ الأسد في حلفه المعروف الذي ما زال لحد اليوم، وحكام الجزائر الذين رعوا اتفاقية شاه إيران مع صدام عام 1975.

وحاول صدام حسين استحضار التاريخ بعد قراءة مغلوطة له: توهم في فترة لعبة الحرب الباردة إن ما يملكه من جيش مدرب وشعب لا فرق فيه بين السنة والشيعة في تمسكهم بعروبتهم، قادر على سحق نظام جديد حاول بعد أشهر قليلة من الحكم في طهران البدء بمعركة التبشير الطائفي الأولى في العراق ضد نظام استلمه صدام حسين من الرئيس العراقي الأسبق أحمد حسن البكر عام 1979 وأراد منذ الأيام الأولى تجديد لعبة “الزعامة العربية الناصرية” لكن في ظل مناخ عربي واهن تظلله النكسة القومية ومشاريع تفتيت الاتحاد السوفييتي. ولم تكن حرب الثماني سنوات ميدانا لاستعراض القوة الوهمية. فلكل من إيران والعراق خصوصياتهما الجيوسياسية والجغرافية والتماهي الثيوقراطي المذهبي الذي كان علامة القوة الإيرانية الأولى التي كانت نائمة في بطون التاريخ وأيقظتها الخمينية الجديدة.

إيران كانت ضعيفة، وكذلك العراق، كلاهما استحضر التاريخ. إيران وجدت فرصتها في تثبيت معالم نظام الحكم المذهبي، وصدام في شعوره بالانتصار على هذا المشروع والتحول إلى بطل قومي. إيران دفعت بعشرات الألوف من الشباب الإيراني نحو الانتحار في حقول الألغام داخل الأراضي العراقية وكان رجال الدين في الجبهات يلقنونهم بأن كربلاء خلف التلال التي تقفون عليها في الأراضي الإيرانية، وبإعلامهم يقولون “الطريق إلى القدس يمر عبر كربلاء”، وصدام كان يقول للمقاتلين “هذه هي معركة القادسية تنبعث من جديد”.

وفي حقيقة الواقع لم يسعف التاريخ كلا طرفي الصراع، وكانت وقائعها تستند على الإمكانات البشرية والمالية والعسكرية على الأرض، عرب الخليج ساندوا صدام حسين بالمال وبينهم الكويت التي طالبته باسترداد ديونها بعد نهاية الحرب بأيام وقد خرج مستنزفا وكانت مفتاحا لمغامرة سقوطه التي استدرج إليها بعناية. وإسرائيل قدمت العون العسكري لإيران، فقد قال رونتي برجمان “إسرائيل باعت إيران أسلحة بقيمة 75 مليون دولار في عمليات سيشل 1981”. وكانت الأموال تدفع بواسطة النفط الإيراني وفقا لتاجر الأسلحة الإيراني أحمد حيدي، وما فضحته “إيران كونترا” حيث شحنت إسرائيل أسلحة أميركية إلى إيران.

وقال غراهام فولر عام 1985 “إنه ينبغي أن تبيع أميركا الأسلحة لإيران لتقييد النفوذ السوفييتي هناك”، وصرح آريل شارون “إن الباب لابدّ أن يكون مفتوحا مع إيران”، ولا ننسى أن إسرائيل حطمت المفاعل النووي العراقي في العام الأول لحربه مع إيران 1981، ولم تضرب مفاعلات إيران لا في ذلك التاريخ ولا بعده.

مع كل هذه المعطيات التاريخية التي تحرك الواقع الحالي لنفوذ إيران في العراق الواهن المحطم بعد هذه الحروب والاحتلال الأميركي، تقول إيران إنها قوية لدرجة الاصطفاف مع الكبار في تقرير مصير أهم بلدين عربيين مستنزفين (سوريا والعراق). قوة إيران هي بما تمتلكه من أدوات ميليشياوية داخل العراق، وهذه قوة مفتعلة ومؤقتة، والاعتماد على الميليشيات لا يقدم انتصارات إستراتيجية، بل يساهم في تعميم الفوضى والعنف والتفكيك الاجتماعي والصراع الطائفي، والعراق سيكون وبالا على الإيرانيين إذا ما استمروا في الإيغال فيه، وقبلهم هزيمة الجيش الأميركي أصبحت أكبر معوق لباراك أوباما لكي لا يتورط بالدم مرة أخرى.

مثال الصين شاهد على أنها تصنع مجدها بالعمل المنتج والاقتصاد المتقدم وليس بقنبلتها النووية، فردع القوة النووية أصبح وسيلة متخلفة. والاتحاد السوفييتي حينما انهار لم تردع ذلك قوته العسكرية الكبرى التي كانت قادرة على محو الكرة الأرضية لعدة مرات.

على إيران أن تتحلى بالواقعية وتنسى التاريخ الإمبراطوري، ويقدم نظامها ما فيه خدمة للشعوب الإيرانية الباحثة عن الاستقرار والأمن والتنمية. وألا تستثمر ضعف العراق المؤقت وهيمنة نظام طائفي لا ضمان فيه، ووضع عربي مهين.

د. ماجد السامرائي

نقلا عن العرب اللندنية