روسيا في الراهن السوري.. ميدانياً وإقليمياً

روسيا في الراهن السوري.. ميدانياً وإقليمياً

349

أصبح الوجود العسكري الروسي في سورية أمراً واقعاً، باعتراف روسي وسوري ودولي، وهدفه المعلن مواجهة مسلحي تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، والقضاء عليه نهائيًا، حسبما تقول موسكو. وبات على المشاهد والمواطن الروسي الاستماع إلى أسماء لم تكن ترد في وسائل الإعلام الروسية حتى اللحظة، مثل طرطوس واللاذقية وإدلب وغيرها من أسماء المدن والمواقع السورية، وكان ممكناً خلال حقبة حكم حافظ الأسد شراء العطور السورية من على رفوف المحلات التجارية الروسية.
ومع التدخل العسكري الروسي الواضح في سورية، لم تتوقف الدبلوماسية الروسية عن خوض المحادثات مع الولايات المتحدة وأوروبا، سعيًا إلى تحقيق المصالحة مع الغرب والحرب بالنيابة ضدّ داعش. لكن، وكما نشرت مواقع إلكترونية روسية، رفض ضباط متعاقدون مع وزارة الدفاع الروسية المشاركة في عمليات القتال في سورية ورفعوا مظالمهم للادّعاء العام. ولم يكن تمردهم هذا بسبب الطلب منهم الذهاب إلى سورية، بقدر الغموض الذي يحيط بهذا الملف، ورفض القيادة العليا شرح تفاصيل التدخل العسكري الروسي هناك. ويرفض الضباط معاملتهم كالبهائم، وتحميلهم على متن القوارب العسكرية، من دون شرح مهماتهم وطبيعة العمليات التي سيقومون بها. ووعد الادّعاء الروسي بالنظر في هذه المطالب، والبتّ بها للتوصل إلى اتفاق ما بين الطرفين.

السيناريو الأفغاني
أخذ السخط الشعبي الذي ظهر في مواقع إعلامية عديدة، وعلى صفحات المدوّنين في روسيا، بالحسبان السيناريو الأفغاني، وتحديدًا أحداث ما بعد العام 1979 ومقتل الرئيس الأفغاني في حينه، حفيظ الله أمين، الأمر الذي وضع نقطة البداية لصراع امتدّ نحو عشر سنوات، عرف بالحرب الخفية، وخسر الاتحاد السوفييتي في أثناء تلك المواجهات قرابة 15 ألف مقاتل. وثمة من يرى أن الخسارة السياسية والعسكرية التي مني بها الاتحاد السوفييتي في أفغانستان كانت سبب انهياره لاحقًا. ويذكر أنّ الكرملين قد أوعز بقتل أمين، بعد فترة قصيرة من توليه الرئاسة، لمعاداته الصريحة الشيوعية في أفغانستان التي أدّى الغزو العسكري السوفييتي فيها إلى ظهور تنظيم القاعدة، بدعم أميركي بداية، لدحر الروس من أفغانستان. وقد يؤدّي التدخل العسكري الروسي في سورية إلى ردود فعل مفاجئة، من قبيل توحيد صفوف الجهاديين وانضمام مزيد من المؤيدين لهم لمقاتلة الروس. وستتغير المعادلة، حال بدء شحن جثامين المقاتلين الروس إلى موسكو، إذا كانت روسيا تنوي حقيقةً المشاركة في الأعمال القتالية ميدانيًا.
ويرى خبراء روس عديدون أنّ روسيا لا تسعى إلى زجّ قواتها العسكرية في حروب سورية، لكنّها مناسبة لتحسين العلاقة مع الغرب الذي يخشى مسلحي داعش وقدرات تنظيمهم المتنامية، وهناك مكسب آخر يتمثّل بتناسي الملف الأوكراني، والترحّم على شبه جزيرة القرم التي باتت جزءًا من الكيان الروسي، في مقابل وعود بالتهام الدبّ الروسي شبح الدولة الإسلامية في الإقليم، وعدم السماح له بالوصول إلى العمق الأوروبي.
من المبكّر الحديث عن تحالف أميركي روسي عسكري في سورية، فعدا عن الخلاف السياسي

والأهداف المرتجاة من الطرفين، هناك خلاف أصولي بشأن الأوضاع في أوكرانيا، وما زالت قوات حلف الناتو تجري مناوراتها القتالية في شرق أوروبا ودول البلطيق. لكن، ليس من المستبعد ظهور نوع من التنسيق بين واشنطن وموسكو بشأن الصراع في سورية، كما اتضح في الاتصال الهاتفي بين وزيري الدفاع، الروسي سيرغي شويغو والأميركي آشتن كارتر، عشية اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. لكن، كيف ستتطور الأمور في سورية في ضوء التحالفات الجديدة؟
في قراءة عاجلة، قد يعتقد بعضهم أنّ الموقفين، الروسي والأميركي، متباينان، فموسكو تدعم بشار الأسد ومتسمكة به، باعتبار أن الجيش السوري وحده القادر على خوض المعارك وكسبها، في وقت ترفض فيه أميركا هذا التحالف، وإن أبدت مرونةً، أخيراً، بشأن قبول الأسد خياراً مؤقتاً، حتى التوصل إلى قرار نهائي للأزمة، وطالبت أميركا، أخيراً، بوساطة إيرانية وروسية في محادثاتها مع الأسد. في الوقت نفسه، لا يمكن تأكيد أنّ موسكو متمسكة بالأسد بأيّ ثمن، إذ يصرح الكرملين بأنّه يدعم الرئيس السوري المنتخب، ولم يذكر الأسد تحديدًا. كما نرى، المواقف متشابكة وشديدة التعقيد ومرتبطة بالمصالح الآنية والبعيدة لواشنطن وموسكو وإسرائيل أيضًا، المستفيد الأكبر من التيه الذي تعيشه المنطقة.

دولة علوية
يدرك الكرملين والبيت الأبيض أنّ سورية التي بناها حافظ الأسد بيد من حديد أصبحت في عداد الماضي، وهدف موسكو من تدخلها الحالي الحفاظ على ما تبقّى من سورية تلك، كما صرّح رئيس تحرير صحيفة روسيا والسياسة العالمية، فيودور لوكيانوف. وذكر، في أحد نصوصه في صحيفة غازيتا، أنّ بوتين يسعى إلى تقديم المساعدة لتأسيس دولة علوية في ما تبقّى من مناطق نفوذ الأسد، وأطلق على الدولة تسمية “علوية إسرائيلية”، من دون ذكر أسباب هذه المقاربة، وعلى الأرجح، يعني الكاتب تقديم وطن قومي للعلويين، مبشّرًا بتقسيم سورية إلى دويلات صغيرة. الدولة العلوية بزعامة الأسد ومركزها طرطوس حيث توجد القاعدة العسكرية

الروسية، والتي يمكن تطويرها لتصبح قادرة على التدخل السريع وفرض القرار، ودويلة كردية وأخرى سنية وشيعية، وغير ذلك من الكانتونات والتقسيمات الإدارية. كما يأمل الكرملين بمواجهة داعش والجهاديين في عقر دارهم، لتجنب انتقالهم، في ما بعد، إلى ضرب المصالح الروسية داخل البلاد، بعد أن أعرب التنظيم عن أمله في الوصول إلى مكة المنورة والمدينة المنورة والقدس الشريف في حروبه المقبلة. ويمكن للقاعدة الروسية في طرطوس أن تفي بالغرض، والحيلولة دون طموحات داعش الاستراتيجية، حسب الخطاب الروسي. تجدر الإشارة كذلك إلى تصريحات خبراء روس عديدين، يرون إنّ الوجود العسكري لبلادهم في سورية سياسيّ أكثر منه عسكريًا وميدانيًا، بهدف استعادة النفوذ الروسي في إقليم الشرق الأوسط، بالتزامن مع اقتراب رفع الحظر الاقتصادي عن إيران، الدولة الحليف لموسكو ودمشق.
لا يرضي تحالف “موسكو – طهران – دمشق” أميركا وحلفاءها في الشرق الأوسط. لكنه، من المتوقع أن يبقى قائماً حتى قبول اللاعبين الجدد في المنطقة، ومنهم “داعش” وجبهة النصرة، عندها ستظهر معالم الحدود السابقة في مواقف كل من روسيا وأميركا وحلفائهما. حالياً، يمكن القول إنّ موسكو استفادت من الموقف السلبي للرئيس الأميركي، باراك أوباما، بعدم المخاطرة ولو بجنديّ أميركي واحد في الصراع المتواصل في الشرق الأوسط، وسارعت إلى نشر قواتها في المنطقة، والقيام بعمليات جوية استعراضية في المناطق التي تسيطر عليها المعارضة السورية، بعيدًا عن مناطق نفوذ داعش.

انعدام آفاق حلّ الأزمة
أوجد الصراع والاقتتال في سورية، في سنوات معدودة، أوضاعاً جديدة، وحقائق ميدانية تبدو كأنّها قد ترسّخت ويصعب التغلّب عليها. تنظيم الدولة يصدر قسائم مالية، ويجبي رسوماً جمركية من الشاحنات العابرة في مناطق نفوذه، مدموغة بشعار الدولة الإسلامية. وقريبًا سيسعى إلى تحسين صورته، ليصبح مقبولاً على الصعيدين، الإقليمي والدولي، حال فشل التدخّل الروسي والإبقاء على الخيار الأميركي والتحالف بعدم الهبوط إلى أرض المعركة، والاكتفاء بالقصف الجوي. الحقيقة الأخرى التي لا يمكن تجاهلها انحسار مناطق نفوذ الأسد، واستحالة عودة سورية إلى ما كانت عليه قبل اندلاع الحرب الأهلية. لذا، سيأخذ الحلّ المتوقع بالاعتبار كلّ هذه العوامل، إذا شاء المعنيون التوصّل إلى اتفاق يرضي الأطراف كافة. وبالتالي، أصبح التقسيم هو الخلاص المنتظر، وغابت شعارات الوحدة وسيادة الدولة على كامل الأراضي، بعد أن غابت، جملة وتفصيلاً، من أجل الدفاع عن كرسي السلطة، واستمرار سلطة عائلة الأسد. لكن اتفاقاً مشتهى يحتاج إلى مزيد من الوقت، لإنهاك كل القوى المتقاتلة في المنطقة، وتثبيت الأطر والرؤية الجديدة وترسيم الحدود التي يراها بعضهم، في الوقت الراهن، وهمية، لكنّها سرعان ما ستصبح واقعاً يستحيل تجاوزه، وسينهمك رجال السياسة، في المرحلة المقبلة، بشرح التفاصيل المتعلقة بنظام التأشيرات، وربّما اعتماد السفارات والممثليات الدبلوماسية بين الدويلات الجديدة.
في الأثناء، تستمر موجات الهجرة إلى الغرب، وكما صرح الجنرال جون ألن الممثل الخاص لقوات التحالف التي تقودها أميركا ضدّ داعش، “الهجرة الهائلة التي تشهدها أوروبا نتيجة حالة الفقر واليأس التي يعيشها الملايين، وليست بالضرورة هرباً من الموت، ومن الضغوط التي يمارسها الجهاديون ضدّهم”. الحرب السورية بعيدة كلّ البعد عن الحلّ النهائي، لأنّها ما تزال قادرة على إيجاد الفوضى “غير الخلاقة”، ومزيد من العنف وتغيير الطبيعة الديمغرافية في كامل الإقليم، بما يضمن تفتيت الكيان العربي، والإبقاء على حالة القلق بين الأطراف كافة، وإمكانية إشعال فتيل الفتنة عند الضرورة، وفي أقرب فرصة ممكنة.

روسيا مستمرة بدعم الأزمات المجمدة
لم تتوقف روسيا عن دعم الدول التي تسير في مدارها، كأبخازيا وأوسيتيا الجنوبية، وهي جمهوريات ذات مساحات صغيرة وعدد سكان محدود واقتصاد محاصر، ويعود الفضل في بقائها للمساعدات المالية السخية التي تتلقاها من روسيا، مقابل الوجود العسكري الروسي فوق أراضيها. وهو وجود يعدّ بمثابة الفخّ، ولن يجرؤ اللاعبون الكبار على الاقتراب منها، للدفاع عن سيادة جورجيا أو مولدوفيا أو أوكرانيا، وهذا هو الثمن الحقيقي في مقابل الحقن المالية التي تتلقاها هذه الدول التي ستبقى ملتزمة وتابعة لمدارات روسيا، وحامية لمصالحها.
يفيد خبراء بأنّ روسيا تقدّم قرابة 300 مليون دولار لأبخازيا، وقرابة 100 مليون دولار

لأوسيتيا الجنوبية، وقدّم الكرملين لشبه جزيرة القرم قرابة 2.42 مليار دولار وقرابة ملياري دولار للمنشقين الأوكرانيين في إقليم دونباس، اقتطعت من الموازنة الفدرالية العامة للعام 2015. على أيّة حال، لا تتجاوز قيمة هذه الأموال والمساعدات 3% من حجم الموازنة العامة للفدرالية الروسية.
يتوقع خبراء ومحللون إضافة الدويلة العلوية إلى هذه القائمة ومركزها اللاذقية، ويمثل العلويون قرابة 12% من تعداد سكان سورية، ويلعبون دوراً حاسماً بالدفاع عن النظام السوري في الوقت الراهن. ومن المتوقع أن تقلب روسيا المعادلة في إقليم غورني كاراباخ لصالح أذربيجان على حساب أرمينيا التي ستجد نفسها مضطرة لقبول التفاوض لحلّ أزمة الإقليم، في الأشهر القليلة المقبلة، وحال مشاركة القوات العسكرية الروسية لصالح باكو، بعد أن توطّدت العلاقات بين البلدين. ويعتبر إقليم كاراباخ من البؤر المجمّدة في الوقت الراهن، ولكن إلى أجل مسمّى. بهذا، تسعى روسيا إلى الدفاع عن أمنها القومي، بدعم الحواجز الجغرافية الطبيعية على البحر الأسود “القرم” والبحر الأبيض المتوسط “اللاذقية” ونهر “دنيبر” إلى الغرب والذي يمر في الأراضي الروسية وروسيا البيضاء وأوكرانيا، والنهر في غاية الأهمية لنقل السلع والفحم الحجري.
قد تبدو الاستثمارات الروسية في هذه البؤر رخيصة، لكنّها فاعلة نسبيًا، وتلجأ روسيا إلى تنشيطها، حين تجد نفسها محاصرةً، كما هو الحال في الوقت الراهن، للضغط على الطرف الأميركي، وضمان مشاركتها في الاتفاقيات والمفاوضات المقبلة، للحصول على نصيبها.
وتدرك روسيا جيّدًا حجم المخاوف الأوروبية والأميركية نتيجة تنامي قدرات داعش. لذا، لجأت إلى استخدام هذه الورقة الرابحة، ومحاولة الظهور بدور المخلّص، مع أنّها فضلت مهاجمة مواقع المعارضة السورية بداية. وقد اعترف حلف الناتو، أخيراً، بضرورة توجيه قدراته، للحيلولة دون قيام داعش والتنظيمات الجهادية بعمليات إرهابية في أوروبا، كما صرّح سورين دوكارو نائب السكرتير العام للحلف. كذلك اعترف الناتو بعحزه عن مواجهة أزمة تدفق الوافدين واللاجئين إلى أوروبا. لذا، قبل بتقديم الفرصة المتاحة لروسيا لمهاجمة داعش، وقد بات وجودها العسكري في سورية أمرًا واقعاً يصعب تجاوزه.

   خيري حمدان

صحيفة العربي الجديد