ما هكذا يكون الدعم: مسؤولية الثقافة العربية في استمرار المأساة الفلسطينية

ما هكذا يكون الدعم: مسؤولية الثقافة العربية في استمرار المأساة الفلسطينية

PalestinianProtestGazaBerlinRTR3AHGB-198x132

الاحتلال إذلال، والأسر قهر، ومنع الإنسان حريته تحت أي مسمّى ظلم سافر. والحق قائم لمن يرزح تحت الاحتلال أن يقاوم كي يكسر القيد ويستعيد حريته، فلا ينكر ذلك إلا متعنّت. لكن هذه الثوابت لا تنفي واقعاً متحققاً اليوم في الأراضي الفلسطينية، وهو أن ما يرتكبه بعض الشباب الفلسطيني تحت مسمّى المقاومة ليس إحقاقاً للعدل بل هو بدوره ظلم بواح. فطعن عابر السبيل لا يعيد الحقوق الضائعة، والاجتهاد في السعي إلى قتل الآمنين ليس انتصاراً للمظلوم، والاعتداء على الأبرياء، رجالهم ونسائهم، أطفالهم ومسنيهم، لا يشرّف فاعله ولا مؤيده ولا الثقافة التي تجعل منه موضع ثناء.

نعم، السلطات الإسرائيلية قد أفرطت في استعمال القوة لمنع انتفاضة ثالثة في أكثر من موضع. ونعم، المجتمع الإسرائيلي معبّأ في العديد من أوساطه للقبول بهذا الإفراط بل والمطالبة بالمزيد من الحزم والحسم. ولكن، بأي دافع ووفق أي معيار؟ فالإعلام العربي يحفل بالأصوات التي تهدد وتتوعد، وتعلن جهاراً أن النية هي القضاء على إسرائيل ككيان ودولة ومجتمع، وترحّب بمقتل كل إسرائيلي، أي إسرائيلي. فهل المطلوب أن يقابل هذا الإصرار على الأذى، لأنه لم يكتب له كامل التوفيق، بغير الريبة والتشدد مِن مَن يستهدفه؟ وبالمقابل، تصدح عبر الإعلام العربي أصوات الاستنكار لجرائم إسرائيل. أن يصدر الاعتراض على الشدة الإسرائيلية من جهات تحترم حقوق الأفراد والجماعات بأقوالها وأفعالها هو أمر مفهوم، لا بل مرغوب ومطلوب. أما أن تخرج عبارات الإدانة والاستنكار من أفواهٍ أيادي أصحابها ما تزال منهمكة بالقمع والقتل، بمقادير يومية تتجاوز أضعاف ما ارتكبته إسرائيل، فحالة تتجاوز النفاق لتكشف عن الخلل العميق في ثقافة عربية متورطة في مسؤولية استمرار المأساة الفلسطينية وغير قادرة في ما يبدو على نقد ذاتي يمنعها من الإمعان بالأذى الذي تتسبب به.

والثقافة العربية مدعوة إلى مراجعة صادقة لاعتباراتها في القضية الفلسطينية من منطلق مبدئي ومصلحي وسياسي. والسؤال الأساسي الذي لا بد لهذه الثقافة من الإجابة عليه بصدق هو: هل لإسرائيل مكان في المنطقة العربية والمستقبل العربي؟ والموضوع هنا ليس فقط هل أن الدول العربية مستعدة للاعتراف بإسرائيل مقابل خطوات ما منها. فقد أفادت هذه الدول، من خلال مبادرة بيروت للسلام، والتي صدرت عن مؤتمر القمّة العربية والمنعقد في بيروت عام ٢٠٠٢، أنها مستعدة للعيش «بسلام جنباً إلى جنب» مع إسرائيل. ولكن تأكيدها هذا جاء مشوباً ببعض ما يدعو للريبة من وجهة نظر إسرائيلية، إذ المبادرة نفسها نصّت على وجوب «التوصل إلى حل عادل لمشكلة اللاجئين الفلسطينيين يُتّفق عليه وفقاً لقرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم ١٩٤». فهي بذلك لامست عصباً وجودياً في الوعي الإسرائيلي. فالحديث في إسرائيل عن عودة إلى ما يقارب حدود الـ ١٩٦٧ يجد بالتأكيد من يعترض عليه من القوميين والمتدينين المتشددين، ولكنه موضوع قابل للطرح في عموم المجتمع الإسرائيلي والثقافة الإسرائيلية. فالتخلي عن الأراضي المحتلة، رغم القناعة المنتشرة بأحقية لإسرائيل أو لليهود فيها، لا يثير مخاوف وجودية. أما فتح باب ١٩٤٨، فهو بالنسبة لمعظم الإسرائيليين مساءلة لحق إسرائيل بالوجود.

والرد الرسمي العربي على هذه الريبة جاء بالإشارة إلى ما تضمنته المبادرة عامة من إيجابيات بدعوة إسرائيل إلى السلام والتطبيع، واعتبار الكلام عن القرار ١٩٤ ضرورة يقتضيها التدرج في الاستيعاب العام لتأهيل إسرائيل ضمن إطار المبادرة. فالضامن للمبادرة هو المنظومة السياسية العربية التي تقدمت بها.

غير أن هذه المنظومة، وهي اليوم قد زال بعضها واهترأ البعض الآخر، لم تبدُ يوماً قادرة على تطويع الثقافة العربية باتجاه القبول بإسرائيل كحقيقة وواقع، بل لم تُظهر يوماً رغبة بذلك. فالثقافة العربية تظهر منقسمة إلى صفين رئيسيين في موقفها من إسرائيل، صف «معتدل»، وصف «ممانع أو مقاوم».

والممانعة أو المقاومة واضحة في طرحها: إسرائيل جسم طارئ غريب معتدٍ يجب استئصاله كي تعود فلسطين كاملة من النهر إلى البحر. وفي حين كان الخطاب المقاوم في زمن مضى يعارض بين العنصرية الصهيونية التي ترفض الآخر وتقصيه، وبين البديل السمح الجامع والذي سوف يدعو الكل من عرب ويهود إلى العيش المشترك على أساس المساواة، فإن المرحلة التوفيقية قد اندثرت، ولم يعد في ثقافة الممانعة ثناء على التعددية وذم للعنصرية، بل انتقل الحديث إلى القدح بقتلة الأنبياء والتشهير بأحفاد القردة والخنازير، ليُتأكد دون أدنى شك أن الهدف هو الاجتثاث.

وفي مقابل الطرح الممانع، تشكلت مقولة الاعتدال والتي تخلو من التعبئة باتجاه السعي إلى إزالة إسرائيل من الوجود، وتدعو إلى الواقعية في تبيّن موازين القوى. فلا جدوى من الدخول بمواجهات منهكة مع غياب التمكين، ولا سيما أن إسرائيل، وفق الطرح الشائع في أوساط الاعتدال، سائرة إلى زوال تلقائي بحكم اختلال التوازن السكاني بينها وبين الفلسطينيين، سواءاً أبقت ضمن حدودها أراضي الـ ١٩٦٧ وأسرعت في الانقراض، أو تراجعت إلى حدود الـ ١٩٤٨ وأخرّت قليلاً من نهايتها المقرّرة.

أي أن الثقافة العربية إزاء إسرائيل هي إذن ثقافة إزالة لدى الممانعة، وثقافة زوال لدى الاعتدال.

وإذا كان ثمة تطور شهدته الأوساط المحسوبة على الاعتدال في الأعوام الماضية فهي الانتقال في استشفاف عوامل الزوال من التسطيح التاريخي إلى التعسف الغيبي الذي يسقط حتمية الزوال في إطار ما يرتقبه من الملاحم والفتن.

وإن أظهرت الثقافة العربية اختلافاً بين الممانعة والاعتدال، فإنها بقيت في كلا الصفين منسجمة في شخصنة الكيانات الجماعية، وفي تغليب هذه الكيانات المشخصنة على الأفراد الحقيقيين عند اعتبار المصالح. فكل من فلسطين وإسرائيل تخاطب وتوجه إليها المشاعر والأهواء كشخصية قائمة. وإذ اعتدت إسرائيل على فلسطين، فالرغبة هي بعقوبة وثأر، وإن كان ذلك بفعل شهادة يُقتل فاعلها بعد أن يؤلم إسرائيل الشريرة. فإيلام إسرائيل أعلى قيمة وأكثر أهمية من حياة الفرد الفلسطيني إذ يرمي بنفسه إلى التهلكة، ولا اعتبار طبعاً لحياة ضحاياه، إلا كرقم تعلو الغبطة كلما علا. وليست الشخصنة وملحقاتها حكراً على الثقافة العربية طبعاً، غير أن تفاعل هذه الثقافة مع مقاومة الفلسطينيين للاحتلال قد دفع شخصنة الجماعي باتجاه تنتفي معه قيمة الإنسان الفرد صراحة.

فحين يقتل المقاوم الفلسطيني الأبرياء من الإسرائيليين، تعفي شخصنة الجماعي الثقافة العربية من التزام الشجاعة في تسمية الأمور بأسمائها: فالمقاوم هو صاحب حق ولكنه مرتكب جريمة في آن واحد. إنما خلف غطاء إسرائيل المشخصنة، يفقد الإسرائيلي الضحية حقّه في الحياة، بل حقّه بأن يكون له اسم، وأحباء، وأحلام. وللثقافة العربية رد تلقائي على هذا التوصيف، إذ تسارع في التذكير بأن الفلسطيني بدوره فاقد لهذه الحقوق، وأن الفلسطينيين كمّ أحادي لا يلقى إلا البغض والإهانة والقمع من إسرائيل. وهو، وإن انضوى على زخم مبالغة خطابية، قول في جوهره حق.

والاعتراض هنا هو على الدعم الذي تزعم الثقافة العربية تقديمه للوسط الفلسطيني أمام الإسقاط المتبادل للإنسانية بينه وبين الوسط الإسرائيلي.

فالشرق الأوسط يشهد مطاحنتين، في كل منها انعدام تكافؤ. الأولى بين المجتمعين الإسرائيلي والفلسطيني، حيث القوة والغلبة للإسرائيلي، وحيث الفلسطيني هو المقهور والمحاصر. أما الثانية فهي بين العالم العربي والمجتمع الإسرائيلي، والأقوى هنا، في قدرته على تهديد وجود الآخر وتاريخه، هو المجتمع العربي. والأقوى، في كلتا الحالتي مطالب بأن يمسك بالمبادرة في إنصاف الأضعف وطمأنته وصولاً إلى الاستقرار وتحقيق الصلح الذي يتيح للإنسان، سواء كان فلسطينياً أو إسرائيلياً، أن يحصل على حقه بالحرية والكرامة.

ولكن بدلاً من معالجة المفارقة بين حالة الضحية المفروضة على الإنسان الفلسطيني وحالة الجلّاد التي يختارها بعض الشباب الفلسطيني، من خلال تفنيد التناقض بين الحالتين، فإن الثقافة العربية قد أمعنت في العقود الماضية في تمجيد الجريمة لتتنقل من الحرام إلى المباح ثم المحمود، بل لتصبح اليوم فرضاً.

فنحن اليوم أمام ثقافة عربية تدعو إلى القتل وتفاخر به حين يطال الآخر، وتستنكر القتل وتشتكي منه حين يطال الذات. ليست هكذا المقاومة، وليس هكذا دعمها. بل نصرة الأخ لأخيه هي بدعوته إلى الكف عن الظلم حين يظلم برهة، وإن كان مظلوماً لطول زمن، حقناً للدماء، كل الدماء.

حسن منينمة

معهد واشنطن