الجغرافيا السياسية الكاثوليكية.. ما الذي يريده بابا الفاتيكان من تركيا ؟

الجغرافيا السياسية الكاثوليكية.. ما الذي يريده بابا الفاتيكان من تركيا ؟

اااااااااااااااااا
لم تختلف أهداف زيارة بابا الفاتيكان “فرانسيس” لتركيا في نهاية نوفمبر 2014، عن زيارة سلفه البابا “بنديكت السادس عشر” قبل ثماني سنوات. فما يزال يسعى إلى توفير أكبر قدرٍ من الحماية لمسيحيي الشرق الأوسط، ومد أواصر الود وتوثيقها بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. لكن تبرز أهمية هذه الزيارة في إطار الظروف الإقليمية والدولية التي جعلت من هذه الزيارة أكثر إلحاحًا في ظل اندلاع الحرب في العراق وسوريا، وعلى وقع الأزمة في أوكرانيا.

حاول “فيكتور غايتان”، المراسل الدولي لـ”ناشيونال كاثوليك ريجستر”، في مقال له على موقع مجلة “Foreign Affairs”، بعنوان “الجغرافيا السياسية الكاثوليكية: البابا، أردوغان، سوريا وأوكرانيا”، إظهار عمق العلاقات التاريخية بين تركيا والفاتيكان، ومدى قدرة البابا على حلحلة الأزمات الموضوعة على أجندة زيارته لتركيا في ضوء التحديات الراهنة.
تركيا والكنيسة الكاثوليكية:
يرى غايتان أنه برغم عدم احتضان الأراضي التركية لعدد كبير من السكان الكاثوليك، فإنها شغلت حيزًا كبيرًا في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية. فالكاثوليك يعتقدون أن “مريم” أم المسيح توفيت في “أفسس” (سلجوق اليوم). كما أن تركيا هي مسقط رأس القديس “بولس” الذي تضم كتب العهد الجديد العديد من رحلاته في آسيا الصغرى، ورسائله إلى الطوائف المسيحية التبشيرية الجديدة. كما أن سِفر “الرؤيا” تمت كتابته في جزيرة “بطمس بحر إيجه” قبالة السواحل التركية. كما تُعد تركيا واحدة من أقدم الدول التي أقامت علاقات ثنائية رسمية مع الفاتيكان 1868، أي قبل المملكة المتحدة بأكثر من مائة عام (1982)، والولايات المتحدة (1984)، والمكسيك (1992).
ويمكن القول إن علاقة تركيا مع الفاتيكان تعقدت مع تولي كمال أتاتورك الحكم في مطلع عشرينيات القرن الماضي، بسبب إصرار أتاتورك على خلق نظام مناهض لكافة مظاهر التدين بشكل جذري، حيث صادرت الدولة ممتلكات الكنيسة، وحظرت الزي الديني، ومنعت العروض العامة للرموز الدينية، وجعلت من الأئمة المسلمين موظفين في القطاع العام.
ولكن استطاع رئيسُ الأساقفة الكاثوليكي “أنجلو جيوزب رونكالي” ممثل الفاتيكان في تركيا بين عامي 1934 و1944، أن يصل بعلاقة تركيا بالفاتيكان إلى مراحل بعيدة من الاستقرار والهدوء من خلال تواضعه واحترامه للثقافة التركية، الأمر الذي جعله دبلوماسيا فعالا، وحظي بشعبية كبيرة. فقد كان يتحدث التركية بطلاقة، كما أنه سمح باستخدام اللغة التركية في احتفالات الكنيسة والوثائق، وراح يستخدم منصبه في مساعدة اليهود الهاربين من هتلر في الوصول إلى فلسطين عبر تركيا. وذلك إلى أن تم انتخابه بابا للفاتيكان عام 1958، ليصبح البابا “يوحنا الثالث والعشرين”.
الملفات المشتركة بين البابا وأردوغان:
بدأ غايتان في هذا الجزء تحليل القضايا والملفات التي وُضعت على أجندة زيارة البابا لتركيا. وذكر أنه رغم دعوات العديد من المهندسين المعماريين وخبراء البيئة في تركيا إلى تجنب زيارة أردوغان في القصر الجديد المثير للجدل والذي بُني بتكلفة تتعدى نصف مليار دولار في الغابات المحمية، فقد وافق البابا فرانسيس على الزيارة ليكون أول رئيس دولة يزور أردوغان في “القصر الأبيض”. ولم يكترث بتلك الدعوات في سبيل إنجاح زيارته. كذلك يبدو أن البابا لم يكن ليستمع لنصيحة بعض المُعلِّقين فيما يتعلق بالحديث مع أردوغان عن أحداث العنف المنظم والموجه ضد المسيحيين في تركيا، والذي يعتقد الكثيرون أن بعض المسئولين الأتراك يقفون خلفها، وما عضّد ذلك الاعتقاد تصريح وزير البيئة والعمران التركي بأن “المسيحية لم تعد دينًا ولكنها ثقافة”، مما يشير إلى أنها لا تستحق الاحترام، ولا الاعتراف المؤسسي.
وبدلا من ذلك، يبدو أن تركيزَ البابا منصبٌّ على إبراز نقاط الاتفاق مع أردوغان، من خلال التأكيد على كون العقيدتين الإسلامية والمسيحية تؤمنان بالتوحيد، كما أن الإسلام يعتبر “يسوع” نبيًّا، وأمه العذراء “مريم” تُعد من أكثر النساء ذكرًا في القرآن الكريم. لذا ركّز البابا على زيارة بيت السيدة مريم في “سلجوق”، باعتباره مزارًا شعبيًّا إسلاميًّا وكاثوليكيًّا في الوقت نفسه.
كما يركز البابا فرانسيس أيضًا على التأكيد على أن “الأصولية الإسلامية” صارت عدوًّا مشتركًا للطرفين. فرغم أن معظم ضحايا تنظيم “داعش” في العراق وسوريا كانوا من المسلمين، فإن التنظيم استهدف الطوائف المسيحية بشكل منهجي في الموصل خلال الصيف الماضي 2014، حيث قام التنظيم بتمييز بيوت المسيحيين، وخيّرهم بين مغادرة المدينة أو دفع الضرائب أو الموت. وفي حلب، تم اختطاف اثنين من الأساقفة الأرثوذكس رفيعي المستوى في إبريل عام 2013، ولم يتم العثور عليهم إلى الآن.
وبطبيعة الحال، يُعد ملف اللاجئين المسيحيين الذين نزحوا من سوريا والعراق في اتجاه تركيا، أحد أهم الملفات المشتركة بين الفاتيكان وتركيا، ففي حين تُقدر أعداد اللاجئين النازحين من سوريا والعراق بحوالي 13.6 مليون شخص، تقدر أعداد المسيحيين منهم بـ1.6 مليون لاجئ، استطاعت تركيا توفير المأوى والغذاء والرعاية الطبية لنحو 1.1 مليون منهم فقط من خلال أكثر من 20 مركزًا للاجئين. لذا جاء اقتراح البابا فرانسيس بطرح خطة لإنقاذ حلب، كبرى المدن السورية، التي تعاني من الحصار في ظل امتلاكها مواقع دينية هامة وعددًا كبيرًا من السكان المسيحيين. ويتمثل ذلك الاقتراح -الذي اجتذب تأييد شخصيات دولية بارزة وزعماء مسلمين عديدين- في خلق ممرات إنسانية إلى حلب تسمح بدخول الإمدادات إلى المدنيين وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة.
رأب الصدع بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية:
ذهب غايتان إلى أن زيارةَ البابا فرانسيس لتركيا في مثل هذا التوقيت (نهاية شهر نوفمبر 2014) الذي يُصادف عيد “سانت أندرو”، جاءت تلبية لدعوة من البطريرك المسكوني “بارثولوميو الأول” الزعيم الروحي للمسيحيين الأرثوذكس في العالم. وهنا نجد أن البابا فرانسيس هدف إلى إظهار الاحترام والمودة بشكل علني تجاه البطريرك المسكوني “بارثولوميو الأول” كجزء من الحوار الجاري بين الكاثوليك والأرثوذكس، وكذلك لتعزيز مكانة البطريرك في ضوء الضغوط التي يواجهها من جانب الحكومة التركية، والكنيسة الأرثوذكسية الروسية.
ورغم وقوف جميع رؤساء الكنائس الأرثوذكسية على قدم المساواة، فإن البطريرك المسكوني يُعتبر تاريخيًّا “الأول بين متساوِين”، وذلك بفضل الأدوار التاريخية التي قدمتها الكنيسة الأرثوذكسية التركية. وقد ساهم ضغط الحكومة التركية في تضاؤل الهيبة الدولية للبطريرك المسكوني، حيث إنها لا تعترف بدور البطريرك العالمي، بل تراه مجرد أسقف محلي مسئول عن 20 ألف مسيحي أرثوذكسي، أي 0.3% من سكان تركيا. كما عمدت الحكومة التركية إلى إغلاق المعهد الديني الوحيد التابع للكنيسة الأرثوذكسية عام 1971، وبالتالي حرمانها من القدرة على إنتاج قادة دينيين جدد.
أما الكنيسة الأرثوذكسية الروسية فهي تعتبر أكبر وأغنى بطريركية أرثوذكسية، حيث ازداد عدد أعضاؤها، وتعززت مكانتها الوطنية منذ سقوط الاتحاد السوفيتي. وهو الأمر الذي رحب به الفاتيكان، نتيجة ما رتبه ذلك من تحسين في العلاقات بين الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية. ولكن جاءت الأزمة الأوكرانية لتهدد هذا التحسن في العلاقات، وتسطّر فصلا جديدًا في تاريخ الصدع بين الكنيستين.حيث ترى الكنيسة الأرثوذكسية الروسية أن الكنيسة الأوكرانية اليونانية الكاثوليكية عمدت إلى إثارة الحرب من خلال تحالفها مع عناصر انشقاقية أوكرانية أرثوذكسية، ودعم مطالب “الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية” في الاستقلال عن الكنيسة الأم في روسيا.
وبذلك أصبح البابا فرانسيس في وضعٍ حرج، في ضوء تفاقم التوترات بين فروع الكنيسة، والتي يمكن أن تصل إلى حد الحرب الأهلية بين الجماعات الدينية. وهي التوترات التي لم يستطع البطريرك المسكوني “بارثولوميو الأول” التخفيف من حدتها، نتيجة رفض الكنيسة الأرثوذكسية الروسية الاعتراف بوجود دور مؤثر له، وهو الأمر الذي جعله قريبًا جدًّا عام 2008 من الاعتراف بالحكم الذاتي للكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية بعيدًا عن الروسية.
وفي الختام، يؤكد غايتان أنه رغم صعوبة مهمة البابا فرانسيس في تركيا، وإصراره على دفع عملية السلام، فإن إحراز أي تقدم في هذا الصدد مرتهن باستعداد أردوغان لاستخدام قوته السياسية بالاشتراك مع البابوية لحلحلة الأزمات الراهنة.الجغرافيا السياسية الكاثوليكية.. ما الذي يريده بابا الفاتيكان من تركيا ؟
 محمد محمود السيد
مجلة السياسة الدولية