المغامرة الروسية والورطة الأمريكية

المغامرة الروسية والورطة الأمريكية

اوباما-وبوتين

لا نستطيع أن ننكر أن دخول روسيا الاتحادية مباشرة، وبشكل سافر في العمليات العسكرية، هو تحول نوعي في السياسة الدولية والإقليمية، وتعبير عن الرغبة الدائمة في التواجد بالمنطقة، وإن كان البعض يعقد مقارنة غير دقيقة بين احتمالات المغامرة الروسية القادمة في سوريا، والمغامرة التاريخية للاتحاد السوفييتي السابق في أفغانستان، وإذ يشكك الأمريكيون وبعض القوى الغربية، وعدد من الدول العربية، في صدق النوايا الروسية، ويصورون الموقف على أنه محاولة من «بوتين» لبناء مجده الشخصي، لكن الأمر- في ظني – يتجاوز ذلك، إذ إن الصراع الحالي في الشرق الأوسط يعكس المواجهة المحتملة في نظر بعض المراقبين وخبراء العلاقات الدولية، وإن اختلفنا معهم للأسباب الآتية:

*أولًا: إن روسيا الاتحادية هي أكثر الدول الأوروبية والآسيوية احتكاكاً بما يسمى ب«الظاهرة الإرهابية»، خصوصاً بعد أن جرى تصنيف حركات الاستقلال الوطني والكفاح المسلح على أنها نوع من «الإرهاب»، والتي برعت في ذلك هي دولة «إسرائيل»، ثم نقل عنها غيرها، وقد عانى الاتحاد السوفييتي السابق مما جرى له في أفغانستان منذ عقود عدة، وها هي روسيا اليوم تعيد ما فعله، ولكن ب«سيناريو» مختلف، وإن كان الهدف واحداً وهو تأكيد سيادة روسيا الاتحادية وسيطرتها على مجال حيوي يمتد من «البلقان» إلى «الشرق الأوسط»، ثم إلى «شرق آسيا»، إنه صراع الكبار وقديماً قال الحكماء (إذا تصارعت الفيلة تكسرت الحشائش). فالدول الصغيرة هي دافعة الضريبة في كل ما جرى، وما يجري، كما أن مسرح العمليات هذه المرة جاء في منطقة شديدة الحساسية تقع على ساحل البحر الأبيض ذي المياه الدافئة، والمشرق العربي ذي الأهمية الاستراتيجية، ولا يمكن على الإطلاق تبرئة القوى الكبرى من أهدافها الاستراتيجية طويلة المدى، ف«الروس» لا يفعلون ما يقومون به من أجل الاحتفاظ بسوريا الموحدة، ولكن للإبقاء على نظم سياسية تكون هي، أو امتداداتها حليفاً جديداً لموسكو، وينسحب الأمر نفسه على الولايات المتحدة الأمريكية بالطبع، التي تسعى دائماً للاحتفاظ بعصر الهيمنة على المراكز الحساسة وذات الأهمية العسكرية والاقتصادية في مفاصل العالم المختلفة.
* ثانياً: إن صراع نظام فلاديمير بوتين مع مسلمي «الشيشان» وحركة المقاومة التي واجهها بضراوة واستخدم ضدها سلاح «البراميل المتفجرة» التي نصح حلفاءه باستخدامها بعد ذلك في سوريا، وهي ذات قوة تدميرية عشوائية بأرخص التكاليف، فقد تأكدت روسيا أن نسبة من عناصر تنظيم «داعش» الإرهابي المتطرف هي من قيادات «المقاومة الشيشانية» وبالتالي فإن «الروس» يصطادون طيوراً ثلاثة بحجر واحد، أولاً: هم يواجهون «الإرهاب» أمام المجتمع الدولي كله، وثانياً: هم يحافظون على الحليف في «دمشق»، وثالثاً: هم يتعقبون قيادات حركة «الشيشان» في ساحات المواجهة شرقي «البحر المتوسط»، فضلاً عن الأهداف بعيدة المدى التي يصعب تبرئة القوى الكبرى منها. وقد استفادت «موسكو» من أخطاء «واشنطن» وترددها وازدواج المعايير لديها، والكيل بمكيالين في منطقة الشرق الأوسط. إذ إن واشنطن ليست جادة في مواجهة التطرف الديني في المنطقة، ولكنها تتصرف بطريقة انتقائية تحكمية قد تؤدي إلى دعم الإرهاب وليس إلى تصفيته، وقد استفاد الروس من الوجه القبيح للولايات المتحدة الأمريكية بين شعوب المنطقة، وسياساتها المتخبطة لدى حكوماتها. ولعل علاقات القاهرة بواشنطن في العامين الأخيرين هي خير دليل على ذلك.
*ثالثاً: تواجه مصر، بجسارة وشجاعة، الجماعات الإرهابية في سيناء ويقوم جيشها بعمل بطولي ضد امتدادات الإرهاب «الداعشي» في المنطقة، والبعض يكتفي بأن يكون مراقباً، لذلك لم نندهش عندما أوضحت بعض المصادر أن تنسيقاً تم بين بوتين ونتنياهو في زيارة الأخير لموسكو ووضع تصور عام لترتيبات مستقبل المنطقة، إذ لا شك في أن «الإسرائيليين» على دراية يومية دقيقة بمواعيد الضربات الروسية وأهدافها المحددة.
وهنا يجب أن نتذكر دائماً أن السياسة تحكمها المصالح ولا تحكمها المبادئ التي يجري استخدامها كقشرة خارجية فقط، أمام الأمم والشعوب، ولا شك في أن «الدولة العبرية» هي أكثر المستفيدين مما يجري على الساحة الإقليمية، فهم الذين يحصدون نتائج ضعف الآخرين وتردي الأحوال في «دول الجوار» ويتابعون عن كثب ما جرى، وما يجري في المنطقة.
* رابعاً: إن المشهد المرتبك في المنطقة يدعونا إلى تأمل أطرافه ف«الدولة الإيرانية»، حليفة نظام الأسد، تريد الاحتفاظ بولاء سياسي وطائفي لها في «سوريا المستقبل»، و«تركيا» تتطلع إلى استقطاع أجزاء من شمال سوريا كمنطقة عازلة في مواجهة التمرد الكردي الدائم، وتبقى الدول العربية، منها دول ترى ضرورة التخلص من نظام الأسد كشرط لتسوية الأوضاع في سوريا وأخرى ترى عكس ذلك.
*خامساً: إن احتمالات المواجهة العالمية بين القوى الكبرى التي ارتبطت بفترة «الحرب الباردة» ليست واردة حالياً، فالدنيا قد تغيرت والمخاطر ازدادت، كما أنه لا يخالجني شك في أن هناك تنسيقاً صامتاً، بل وعلنياً بين«موسكو» و«واشنطن» فيما يجري على أرض المنطقة، ونحن في النهاية ندفع «الفاتورة» مرات عدة، وليس مرة واحدة، فالضحايا البشرية منا، والأرض المدمرة أرضنا، والتكلفة المالية أيضاً نتحملها، فنحن الضحايا في كل الأحوال، وينتهي كل يوم دائماً بالعرب وهم ك«الأيتام على مائدة اللئام». إن حلفاء «أمريكا» وأصدقاء «روسيا» وكلاهما من المنطقة، يتصورون أحياناً أن ما يجري في كواليس الدبلوماسية والإعلانات الرسمية هو تفكير صحيح وكلام أمين، ولكن السياسة علمتنا دائماً أن المعلم الكبير «ميكافيلي» عندما كان يوجه وصاياه ل«الأمير» فقد كان يتحدث إلى كل أصحاب القرار السياسي وولاة الأمور، من ملوك ورؤساء وحكام الدول في كل العصور، فالسياسة لا تنطوي على أزمة مصالح فقط، ولكنها تنطوي بالدرجة الأولى على أزمة أخلاق.
هذا طواف سريع بمكونات المشهد العام بعد التدخل الروسي والتردد الأمريكي في منطقة تهمنا مباشرة، فالعرب – خصوصاً «مصر»- هم أشد الخاسرين من تقسيم «سوريا»، وانهيار وحدتها، وشيوع الفوضى في المشرق العربي، وغيره من بقاع وطننا الكبير الذي هو مجالنا الحيوي عبر عصور التاريخ.

مصطفى الفقي

صحيفة الخليج