هل سيغير الغرب موقفه من الثورات بعد هجمات باريس؟

هل سيغير الغرب موقفه من الثورات بعد هجمات باريس؟

580

تعيد الهجمات الدامية التي ضربت أماكن في باريس النقاش مجددا حول موقف الغرب من ثورات الربيع العربي وما آلت إليه بلدانها، حيث عاد العسكر من جديد إلى حكم مصر، وعادت البورقيبية بلباس جديد إلى حكم تونس، وضربت فوضى السلاح والمسلحين الوضع في ليبيا، ودخل اليمنفي حرب داخلية وإقليمية.

والأخطر من ذلك كله هو تحويل الثورة السورية، التي بدأت ثورة سلمية، إلى حرب مفتوحة، متعددة الأطراف والفاعلين، إضافة إلى بروز محاولات قوى إقليمية ودولية، لإعادة تثبيت نظام الاستبداد في سوريا، وتلميعه وتسويقه في إطار “الحرب على الإرهاب”، بالرغم من الثمن الباهظ الذي دفعه غالبية السوريين.

ما بعد الهجمات
لا شك أن ما حصل في العاصمة الفرنسية، مساء الثالث عشر من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الجاري، سيكون له ما بعده، إذ ستتبعه إرهاصات أمنية وسياسية واجتماعية، وستخاض نقاشات حول علاقات دول الغرب بالنظم الحاكمة في بلداننا العربية والإسلامية، واطمئنانها إلى عودة نظم الاستبداد، التي تقوم بتأمين مصالحها ومصالح قوى المال والأعمال المتنفذة فيها، وضربها لطموحات الشعوب العربية في الحرية والكرامة، التي باتت تحت مرمى نيران إرهاب مزدوج، إرهاب الأنظمة الحاكمة، وإرهاب الجماعات المتشددة.

“لم يكترث الغرب وساسته إلى تحذيرات عديدة، أطلقها مفكرون وباحثون كثر، وكانت تقول علنا إن تحت كل قذيفة أو صاروخ أو برميل متفجر، يطلقه نظام الأسد على المدنيين وأماكن سكناهم، سيُولَدُ متطرف أو ناقم على كل المتسلطين والمتخاذلين”

وقبل ذلك، فإن السؤال الذي يجتاح مساحات من الفكر السياسي في زمننا الراهن، يتمحور حول الكيفية التي أفضت إلى إجهاض ثورات عربية واعدة، رفعت شعارات كونية، يتشارك فيها الناس جميعا، وشكلت إضافات هامة إلى عمليات التأسيس الاحتجاجي العالمية.

ولعل ما حدث في باريس يعبر عن “نهاية عالم ما”، انتكست فيها مطالب الشباب العربي، وانتهت بشائر الربيع العربي بالشكل المفجع الذي انتهت إليه، مقابل ظهور تنظيمات متشددة، مثل تنظيم الدولة الإسلامية، وسواه.

إنها أسئلة برسم الفكر السياسي، الذي غاب عن مشهده كتابات تستخدم مفاهيم وتجارب تاريخية أكثر عمقا لشرح انتكاسات ثورات وانتفاضات الربيع العربي، وإعاقتها في تحقيق التغيير المنشود.

مواقف الغرب
غير أن أسئلة كثيرة تطرح حول مواقف الدول الغربية من ثورات الربيع العربي، وتمتد تلك الأسئلة، لتطال حقيقة وجدية المواقف السياسية المعلنة التي بدت في الظاهر داعمة لمطالب الشعوب في الحرية، والخلاص من الاستبداد المقيم في التربة العربية.

وقد افترقت تلك المواقف حين أجهضت الثورات في أكثر من بلد عربي، الأمر الذي أثار شكوكا، حول أسباب إحجام دول الغرب عن اتخاذ مواقف حازمة، كتلك التي اتخذتها حيال ثورات شعوب أخرى، وخاصة في دولة المنظومة الاشتراكية، والثورات الملونة، الأمر الذي يطرح مسألة اختلاف المعيارية في المواقف حول القيم والقضايا الدولية، وخصوصا في جانبها الأخلاقي والإنساني
وكذا أيضا عن أسباب عدم تفعيل دور ومهام الأمم المتحدة وهيئتها، ومنها مجلس الأمن الدولي، في حفظ السلام العالمي، والدفاع عن حقوق الإنسان، خاصة في الحالة السورية، حيث تتعرض غالبية الشعب السوري، أمام مرأى العالم كله وسمعه، لجرائم ومجازر متنقلة وممنهجة، منذ أكثر من أربع سنوات.

ولم يكترث الغرب وساسته إلى تحذيرات عديدة، أطلقها مفكرون وباحثون كثر، وكانت تقول علنا إن تحت كل قذيفة أو صاروخ أو برميل متفجر، يطلقه نظام الأسد على المدنيين وأماكن سكناهم، سيُولَدُ متطرف، أو ناقم على كل المتسلطين والمتخاذلين.

كما لم يجد الغرب ذريعة لمواقفه سوى إلقاء اللوم على بروز الجماعات المتطرفة، حيث راح ساسة الولايات المتحدة الأميركية يسوقون مقولة تبريرية، تفيد بأولوية الاستقرار على العمل لتحقيق مطالب الناس في الحرية والديمقراطية، وسواهما، وانصب جل تركيزهم وجهودهم على أولوية محارب الإرهاب، بل وحشدوا له تحالفا دوليا، قادته الولايات المتحدة.

وجرت عمليات تسويق كثيرة للحرب على الإرهاب، بينما هو في حقيقة الأمر ظاهرة سياسية، خضعت لتشويه وتحريف كبيرين، وتغايرت عمليات توظيفه واستثماره تاريخيا بتغاير المراحل والأقاليم المعرفية والسياسية.

وفي نفس الدائرة، التي ركزت على أولوية محاربة الإرهاب ومركزيتها، ذهبت مواقف دول الاتحاد الأوروبي، مع اقترانها بكثير من التردد والتبعية بالرغم من أن الثورات العربية رفعت القيم الفرنسية، وسائر ثورات العالم الحديث.

وشجعت مواقف الولايات المتحدة، ودول أوروبا الغربية، الساسة الروس وملالي إيران والصينيين وغيرهم على اتخاذ مواقفهم المتشددة، والمناهضة لمطالب الشعوب العربية، في الحرية والتعددية والدولة المدنية وسواها، بل أظهرت الأحداث أن الغربيين مرتاحون لدور الإعاقة والممانعة الروسية في مختلف المحافل الدولية، والسبب هو أن حسابات الدول الغربية تأخذ بعين الاعتبار حسابات المصالح، ومدى تأثير أي أزمة دولية على أوضاعهم الداخلية، وخاصة الحسابات المتعلقة بالانتخابات واستطلاعات الرأي وسواها، وتحسب حكوماتهم ألف حساب لأمن ومصالح إسرائيل، قبل كل شيء، في منطقة الشرق الأوسط.

هذا إضافة إلى أن مصالح الدول الغربية لم تكن مهددة بشكل حقيقي، والضاغط الأخلاقي لا يدفع وحده الساسة الأوروبيين إلى اتخاذ مواقف حازمة وحاسمة، كما فعلوا حيال العراق وأفغانستان ويوغسلافيا السابقة وسائر دول البلقان.

“جربت حكومات الغرب طوال عقود مديدة الوقوف إلى جانب الطغاة والمستبدين من أجل الحفاظ على مصالحها وأطماعها، وآن لها أن تنحاز إلى جانب الشعوب العربية، وحقها في العيش الكريم، وتدرك بأن الإنسان العربي من حقه التطلع إلى الخلاص من الاستبداد”

الانعكاسات
ليس من المبكر القول إن هجمات باريس ستكون لها تأثيرات عميقة على فرنسا، والمجتمع الفرنسي بشكل خاص، وعلى دول أوروبا بشكل عام، بوصفها نقطة تحول في التطور السياسي والاجتماعي، حيث ستنتج ردات فعل أولية، تذهب في اتجاه تنمية الحس العنصري، والنزعات التميزية الشوفينية، والتي تجد مولداتها لدى مختلف حركات اليمين المتطرف وممارساته.

وسيكون اللاجئون السوريون، على وجه الخصوص، أول ضحاياها، إضافة إلى المهاجرين والمسلمين الأوروبيين، ذوي الأصول العربية، لكن ذلك لن يسود طويلا، ولن يعفي العقل الأوروبي من القيام بالمراجعات المطلوبة، وأولها ضرورة العمل على وقف المذابح والحروب في المنطقة العربية، والاعتراف بأن من حق الإنسان العربي: أن يتشارك بالقيم الإنسانية الكونية، وأولها الحرية والمواطنة والتعددية وسائر حقوق الإنسان، بوصفه إنسانا.

وقد جربت حكومات الغرب طوال عقود مديدة الوقوف إلى جانب الطغاة والمستبدين من أجل الحفاظ على مصالحها وأطماعها، وآن لها أن تنحاز إلى جانب الشعوب العربية، وحقها في العيش الكريم، وأن تدرك بأن الإنسان العربي، مثله مثل غيره من الناس، من حقه التطلع إلى الخلاص من الاستبداد والقمع والعسف والمهانة، والتطلع إلى حياة حرة وكريمة.

وسيكون من الخطأ اعتماد لغة الحرب وسيلة لحماية أمن الدول، خاصة بعد الفشل الأميركي والأوروبي في هزيمة تنظيم الدولة، وقبله القاعدة، ذلك أن أي مقاربة أمنية أو سياسوية سيكون مصيرها الفشل.

ولعل الأجدى هو الالتفات إلى عمق المسألة وجذورها، خاصة وأن الثورات العربية طرحت عددا هائلا من الأسئلة ذات البعد المعرفي بل الفلسفي الذي يتطلب العمل عليها جهدا مديدا، كالعلاقة بين الدين والسلطة، وبين جماعات الإسلام السياسي واستخدامها الدين كرافعة للظفر بالسلطة، إلى جانب مسائل الأقليات والأكثرية والمذاهب والأديان والأعراق.

ولعلها المرة الأولى في تاريخنا، التي شهدت انتفاضات وثورات شعبية، طرحت وعود ربيع عربي لم يكتمل، بل تحول إلى خريف مبكر، وكان لسياسات الغرب ومواقفه دور هام في ذلك التحول.

عمر كوش

الجزيرة نت