تفجيرات برج البراجنة وباريس تفرض انتاج تسويات جديدة

تفجيرات برج البراجنة وباريس تفرض انتاج تسويات جديدة

_66640_nasrallahg

خرج مساعد الأمين العام لحزب الله حسين الخليل بعد التفجير الانتحاري في برج البراجنة بتصريح قال فيه، “إن هذه الجريمة ليست موجهة ضد حزب أو ضد منطقة أو ضد فئة، إنما هي جريمة ضد الإنسانية جمعاء، ومن قاموا بهذه الجريمة هم وحوش لا ينتمون إلى البشرية”. الرئيس الأميركي باراك أوباما اعتبر أن تفجيرات باريس “ليست فقط اعتداء ضد باريس بل اعتداء ضد الإنسانية جمعاء وضد قيمنا العالمية”. عبارة استهداف الإنسانية جمعاء جرت على لسان القادة الفرنسيين وقادة العالم كوصف مجمع عليه لما جرى في فرنسا.

تفجيرات البرج أنتجت أجواء تسوية استقبلتها جميع الأطراف السياسية في لبنان، وخصوصا بعد صدور إشارات تسوية غير مسبوقة على لسان الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله، لناحية تأكيده على التمسك باتفاق الطائف، وإعلانه الشروع في تسهيل حل كافة الملفات العالقة مثل ملف رئاسة الجمهورية وقانون الانتخابات وغيرها.

الوضع في فرنسا لم يكن كذلك فقد بدا أن لحظة التفجير تصب في صالح التيارات اليمينية الأكثر تطرفا، وتضع علاقات فرنسا مع جيرانها الأوروبيين موضع شك، وكذلك علاقة فرنسا بعلمانيتها وديمقراطيتها، حيث ظهرت مقالات ومواقف تدعو إلى استخدام القوة كأسلوب في التعاطي مع هذه الاعتداءات.

خطاب الإنسانية برج البراجنة وباريس

الجديد في تصريحات حزب الله التي وصفت ما جرى في البرج بأنه يمس الإنسانية جمعاء، يكمن في أن هذه الإنسانية جمعاء لم تكن قابلة للوجود في وعي الحزب، إلا من خلال تكالبها ضدها وإجماعها على قيادة الحرب عليها. سعت التصريحات غير المسبوقة للحزب إلى رسم خطوط وصل بين الألم الناتج عن تفجيرات البرج وبين العالم كله، وصار استهداف الضاحية بمثابة استهداف للعالم الذي كان سابقا يتخذ على الدوام صفة القاتل والعدو. وبدا الحزب محتاجا إلى العالم كي يستطيع أن يدفن ضحاياه، وأن يدافع عن نفسه تحت وطأة مجزرة مفتوحة كانت مشاركته في سوريا قد أسست لها.

بعد ذلك برز خطاب الأمين العام للحزب الذي وصف بأنه الخطاب الأكثر هدوءا في كل تاريخ حسن نصر الله. كان الأبرز فيه إضافة إلى دعوته لتسوية شاملة تطال كل الملفات اللبنانية الداخلية العالقة هو كلامه عن اتفاق الطائف كناظم للعلاقات بين القوى في لبنان.

الكشف عن الجنسيات الأوروبية لسفاحي داعش، يقول إن تلك البلاد لم تنجح في جعل هؤلاء الذين ولدوا فيها، مواطنين

لا يمكن توقع أن خطاب التهديد الذي طالما شكل البنية المؤسسة لمنطق الحزب سوف ينقلب إلى عكسه دون بروز تحولات كبيرة، تجعل هذا الخطاب ضرورة تمليها وقائع يعلم الحزب أنه لا يستطيع السيطرة عليها.

ربما يمكن تلمس طبيعة هذه المستجدات في أن تفجيرات الضاحية أبرزت استحالة تجنب مثل هذه العمليات، كما أن الأجواء الإيرانية وضعت التدخل الروسي في خانة إنهاء دورها في سوريا، فضلا عن الواقع الميداني السوري الذي يشهد سقوط خسائر كبيرة للحرس الثوري الإيراني وحزب الله بشكل يومي. يضاف إلى ذلك ما خرج به مؤتمر فيينا لناحية الإجماع على فرض وقف عام لإطلاق النار في سوريا.

تلمس الحزب بشكل واضح أن ما يهدده هذه المرة لا ينحصر في عمليات أمنية محدودة، ولكنه تهديد بالإبادة قياسا لما كان قد زرعه في سوريا. وبات واضحا بالنسبة إليه أن نزعة الانتقام منه لا يمكن ضبطها بالمواصلة في استعداء السنة في لبنان والمنطقة.

التركيز على اتفاق الطائف ليس أقل من طلب حماية وضمانات سعودية. هذا الانقلاب الذي يأتي بعد صعود موجة “الموت لآل سعود” كشعار سياسي للحزب وجمهوره في هذه المرحلة هو نتيجة لعمق التهديد وجديته.

وبعد تفجيرات باريس التي تلت تفجيرات الضاحية بفارق زمني وجيز، تطابقت الخطابات بين حزب الله وما ورد على لسان أوباما وغيره من قادة فرنسا والعالم حول كون هذه التفجيرات تطال الإنسانية جمعاء، في مشهد بدا فيه حزب الله وكأنه يريد أن يحول الضاحية في وعي العالم إلى باريس بحيث أن يجري عليها ما يجري على باريس.

نقاش التعاطف بين المحلي والعالمي

عمدت إدارة الفيسبوك إثر تفجيرات باريس إلى تصميم تطبيق يتيح لأصحاب الحساب على الموقع إعلان تعاطفهم مع باريس من خلال وضع ألوان العلم الفرنسي على صورتهم الشخصية. انتشر هذا التطبيق بقوة في لبنان والعالم. تلقيه في لبنان سبب نقاشا حادا تحت دعوى أنه يجب التعاطف مع الضاحية ومع المآسي المشتعلة في المنطقة قبل إبداء التعاطف مع فرنسا. دعا البعض إلى رفع العلم اللبناني للتأكيد على التعاطف مع ضحايا تفجيرات الضاحية.

صار استهداف الضاحية بمثابة استهداف للعالم الذي كان سابقا يتخذ على الدوام صفة القاتل والعدو

اللافت أن جل الداعين إلى تبني مثل هذه المقاربة ينتمون إلى محور الممانعة، وينطلقون من مواقفهم وقراءاتهم من سياق مألوف في سلوكيات الممانعة وخطابها دون أن ينتبهوا أن التطورات المتسارعة قد وضعت موقفهم هذا في سياق يناقض خطاب حزب الله ويشوش عليه. لكن الحزب يريد حاليا تصدر واجهة من يرفعون علم فرنسا. والعلم اللبناني لا يستطيع حتى أن يكون محليا في هذه اللحظة. فعلاقة الحزب وجمهوره به ملتبسة إن لم نقل معادية، لذا لا يمكن لرفعه عمليا أن يكون تعبيرا عن تعاطف واضح مع مصاب أهل البرج.

من ناحية أخرى لا يريد الحزب حاليا التعاطي مع المحلي ولا مع الإقليمي، بل يريد الدخول في العالمي والكوني، وأن يركّب لمأساة البرج سياقات كونية تصلها بالإنسانية، لأنه لم يعد قادرا على تركيب خطاب محلي أو إقليمي أو شيعي لمثل هذه المآسي التي بدت مصنعة ذاتيا.

ما كشفته التحقيقات عن علاقة عدنان سعد سرور المرتبط بعلاقات أمنية مع المخابرات السورية بالتورط في تسهيل تفجيرات البرج مقابل مبالغ مالية كبيرة، قد تكون دافعا للحزب للخروج باستنتاج أن النظام السوري لا يبالي بمصالحه. هذا الارتباط يبين أن العلاقة بين الأسد وداعش لم تعد مجرد اتهامات سياسية وخطابية لا محل لها في أرض الواقع، ولكنها باتت مع تراكم المعلومات وانكشاف الحقائق وقائع صلبة لا يمكن تجاهلها.

ردة الفعل الفرنسية على التفجيرات أبرزت إلى حد كبير هشاشة الاتحاد الأوروبي، وتحول الحدود المفتوحة بين الدول من ميزة إلى تهديد، وخصوصا بعد أن تبين أن الانتحاريين قد تمرنوا وتدربوا وجهزوا وخططوا لعملياتهم في دول تابعة للاتحاد الأوروبي من قبيل بلجيكا. وإلغاء فرنسا للعمل بتأشيرة الشنغن كان تعبيرا صريحا عن اعتبار التسهيلات الناتجة عن الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، سببا رئيسيا لضعف الإجراءات الأمنية. وبدت فرنسا وكأنها بصدد التخلي عن علمانيتها، حيث بدا اليمين الداعي إلى طرد المهاجرين واتخاذ إجراءات قاسية ضد كل من يبدي خروجا على الدستور العلماني لفرنسا، وكأن ذلك دعوة لفرنسا للدخول في فاشية مباشرة تفقد معها هويتها وخصوصيتها.

إعلان قانون الطوارئ في فرنسا بما يتيحه من خروقات واسعة لحقوق اللاجئين والمجنسين والمواطنين الفرنسيين مرشح للتحول من حالة استثنائية محدودة زمنيا إلى دستور عام

كما أن خطاب القوة الذي برز في الواجهة بوصفه المنطق الوحيد المقبول للتعامل مع تهديدات داعش الذي اعتبر الخطر الأول، في حين تراجع تصنيف خطر الأسد إلى المركز الثاني خفف الفجوة بين اليمين واليسار الفرنسي. حيث أعلنت مرشحة اليمين المتطرف للانتخابات مارين لوبن في تصريحات أن الأسد ديكتاتور ولكنه ليس بربريا، وهو ما يماثل عمليا الموقف الرسمي للقيادة الفرنسية الحالية التي أعلنت أن محاربة الأسد ليست أولوية. تلك المسافة بين تعريف وتقييم الدكتاتورية والبربرية هي ما يصنع هوية فرنسا اليوم، وهي هوية مهددة بالتحول إلى حالة تطرف وانغلاق على الذات، تنتج حربا على داعش بقيم داعش نفسها.

الدكتاتورية العادية

وصف الأسد بالديكتاتور يجعل من الـ300 ألف ضحية الذين سقطوا بسببه خارج وصف الضحايا وتعريفهم، وتاليا فإن الشعب السوري غير موجود عمليا وداعش هو الموجود الوحيد في سوريا، وآية وجوده نابعة من بربريته التي لا تحتمل والتي لا بد أن يستنفر العالم كله لمواجهتها. وداعش وحده يمكنه إذن النطق باسم الضحايا السوريين، ولعل ما ورد من أخبار تفيد أن منفذي الهجمات في باريس هتفوا باسم سوريا خلال قيامهم بعمليات تصفية المواطنين الفرنسيين المحتجزين في مسرح باتاكلان يؤكد هذا السياق.

منفذو الهجمات في فرنسا عادوا من سوريا كما قالت التقارير الأمنية، هم لم يبنوا عقيدتهم وأيديولوجيتهم هناك بل كانوا في فرنسا وفي غيرها من الدول الأوروبية. ولعل الكشف عن الجنسيات الأوروبية لأبرز سفاحي داعش، يقول إن تلك البلاد لم تنجح في أن تجعل من هولاء الذين تقول أعمارهم الصغيرة إنهم ولدوا وتربوا فيها مواطنين، بل أدخلتهم في بنية إهدار لكياناتهم وهوياتهم فجاء داعش ليمنحهم المفاهيم والهويات.

إعلان قانون الطوارئ في فرنسا بما يتيحه من خروقات واسعة لحقوق اللاجئين والمجنسين والمواطنين الفرنسيين مرشح للتحول من حالة استثنائية محدودة زمنيا إلى دستور عام، ما من شأنه نقل فرنسا والعالم إلى لحظة البربرية التي لا تطاق والتي تشكل روح داعش وكامل نظام قيمه.

شادي علاء الدين

صحيفة العرب اللندنية