الإرهاب المتوحش في أوروبا

الإرهاب المتوحش في أوروبا

666

من جديد يضرب الإرهاب في فرنسا وفي عاصمتها باريس تحديداً، وذلك بعمليات منسقة ومتزامنة تم تنفيذها مساء يوم الجمعة 13 نوفمبر/تشرين أول 2015 في ستة أماكن حساسة بينها استاد دو فرانس في شمال باريس الذي كانت تجري فيه مباراة ودية في كرة القدم بين منتخبي فرنسا وألمانيا بحضور الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وقاعة احتفالات «باتاكلان» التي كانت لحظتها مكتظة بالجمهور الذي كان يحضر حفلاً موسيقياً، وعدد من مقاهي الأرصفة التي تعج بها العاصمة الفرنسية. وبحسب الشرطة الفرنسية فإن 129 شخصاً قتلوا وأُصيب 180 شخصاً بجراح، ثمانون منهم جراحهم خطرة، قبل أن ترتفع الحصيلة إلى نحو 350 جريحاً جراح مئة منهم خطرة.

الصدمة والذهول والاضطراب عناوين سمات الساعات الأربع والعشرين الأولى لما بعد الاعتداءات الإرهابية الجديدة التي طبعت سلوك الفرنسيين، حكومةً وشعباً. بدا الجميع غير مصدق لما حصل لعاصمتهم العالمية الجميلة. وما إن انبلج صباح اليوم التالي حتى تحولت الصدمة إلى غضب عارم، منفلت العقال في بعض تمظهراته. فقد أعلن تنظيم «داعش» الإرهابي بتباهي وخيلاء مسؤوليته عن هذه المذبحة البربرية الأكبر في أوروبا منذ الاعتداءات الإرهابية التي شنتها خلية مناصرة لتنظيم القاعدة بالقنابل على محطات المترو في إسبانيا في 11 مارس/آذار 2004 والتي راح ضحيتها 191 قتيلاً و1800 جريح. فاندفعت بعض الحشود الفرنسية الغاضبة في بعض الأمكنة للانتقام من كل ما يمت بصلة للعرب والمسلمين، فيما أعلن رئيس البلاد فرانسوا هولاند «إنها الحرب، ما قام به الإرهابيون عمل حربي، يستوجب الرد المناسب». وهو ما يضع البلاد، برسم كلمات رأس السلطة فيها، في موقف شن حرب لا هوادة فيها على ميليشيات تنظيم «داعش» أينما وجدت.
وتحت ضغط المعارضة والشارع، فقد وجهت الحكومة الفرنسية وزير دفاعها جان ايفل ودريان لسرعة الرد الانتقامي ضد «داعش»، فهاتف الأخير نظيره الأمريكي آشتون كارتر، وبعد ساعات من ذلك انطلقت 10 طائرات حربية فرنسية في ساعة مبكرة من يوم الاثنين وأغارت على مدينة الرقة السورية، معقل تنظيم داعش، ألقت خلالها 20 صاروخاً أحدثت انفجارات هائلة أدت إلى انقطاع التيار الكهربائي وإمدادات المياه في كل أنحاء المدينة، وطالت الغارات بحسب ما نقله ناشطون على مواقع التواصل الاجتماعي، الملعب البلدي، ومبنى السياسية، والفروسية، والهجانة، والعيادات الشاملة، والمتحف، ومدخل المدينة الجنوبي، والفرقة 17، والمداجن، ومعسكر الطلائع. فيما زعمت مواقع متعاطفة مع التنظيم الإرهابي بأن الغازات طالت معسكرات خالية.
ومع ذلك، ورغم أن فرنسا الرسمية أصبحت بعد الغارات في وضع معنوي أفضل، على الأقل من وجهة نظرها، إذ ربما وجدت بعض العزاء في شفاء بعض غليلها انتقاماً من التنظيم الذي تباهى بفعلته الإجرامية – إلا أن حقيقة أن ثمانية إرهابيين مسلحين ببنادق كلاشنكوف وأحزمة ناسفة قلبوا كيان فرنسا وأجبروها على إعلان حالة الطوارئ (حددها رئيس البلاد فرانسوا هولاند في خطابه الاثنين 16 من الجاري أمام الجلسة الطارئة المشتركة لمجلسي النواب والشيوخ بثلاثة أشهر)، وإعلان الحداد لمدة ثلاثة أيام، وإغلاق الحدود وإقفال المدارس والجامعات والمتاحف والمتنزهات ونحوها. ما يعني بعبارة أخرى، مؤلمة، أن وضعها الأمني بدا في تلك اللحظة هشاً للغاية وأن جميع أجهزتها الأمنية لم تكن على أهبة الاستعداد لمثل هذا الطارئ. وإنها لم تتعظ من الضربات الارهابية المتلاحقة التي تعرضت لها، وآخرها تلك الجريمة التي هزت فرنسا والمتمثلة في اقتحام اثنين من الملثمين بأسلحتهما الرشاشة من نوع كلاشنكوف مقر الصحيفة الساخرة «شارلي إيبدو» في باريس في 7 يناير/ كانون الثاني 2015 بحدود الساعة 11 صباحاً، وشروعهما بإطلاق النار على أعضاء هيئة تحرير الصحيفة وكل من تصادف وجوده داخل مقر الصحيفة، حيث أسفر ذلك الهجوم عن مقتل 12 شخصاً وإصابة 11 آخرين. ولم ينته الأمر عند هذا الحد فقد تلت هذا الهجوم هجمات أخرى متفرقة أسفرت عن مقتل 4 في احتجاز رهائن في بورت دو فانسان، وقتيل في حادثة إطلاق نار في مونروج. أي أن الحصيلة النهائية للضحايا بلغت 17 قتيلاً في باريس وضواحيها، إضافة إلى منفذي تلك الهجمات الارهابية الثلاثة سعيد كواشي وشريف كواشي وأميدي كوليبالي. وبعد اسبوع من الحادثة، أي في 14 يناير/كانون الثاني ظهر تسجيل مصور تبنى فيه تنظيم القاعدة في جزيرة العرب العملية، وقال فيه المتحدث باسم التنظيم إن العملية تمت بأمر من زعيم التنظيم أيمن الظواهري. يومها انطلقت في فرنسا مسيرات تحت اسم مسيرة الجمهورية مدعومة بمسيرات في مدن أخرى في العالم هي الأضخم في تاريخ البلاد حيث ناهزت 3.700.000 مشارك، منهم حوالي مليونين في مسيرة باريس وحدها وبضمنهم نحو 50 من قادة العالم.
والحال أن معظم الدول الأوروبية وكندا وأستراليا أعلنت بتصميم انضمامها إلى الحلف الدولي الذي شكلته واشنطن لشن حرب جوية ضد مواقع تواجد مليشيات داعش في العراق وفي سوريا. ومع ذلك فإن الإرهابيين دائماً ما يختارون فرنسا للثأر، ربما لأنها الموقع الأكثر رخاوة والناجم عن سنوات من التساهل الحكومي مع التطرف الإسلامي في المدن والضواحي وصولاً إلى العاصمة باريس.
إنها لكارثة هذه التي حلت بفرنسا وبأسر ضحايا الهجمات الإرهابية، وهي نكبة أخرى تضاف إلى نكبات الإنسانية في هذا الزمن الرديء. إنما المؤسف حقاً أن السلطات الفرنسية لا بد أنها كانت على علم بأعداد وأسماء الذين خرجوا من المنافذ الجوية والبرية والبحرية الفرنسية متوجهين إلى سوريا، «أرض الجهاد» الجديدة، للمساهمة في إسقاط النظام السوري، أي للمشاركة في تحقيق ذات الهدف الذي عملت من أجله فرنسا الرسمية بكل ما أوتيت من قوة طوال الأعوام الخمسة الأخيرة. تماماً على غرار تعاون الولايات المتحدة مع القاعدة إبان مرحلة «الجهاد الأفغاني» ضد السوفييت، وما جنته بعدها على نفسها «براقش». ليتكرر المشهد من جديد بغض الطرف عن تنظيم النصرة الذي هو فرع لتنظيم القاعدة في سوريا (حتى إنه خلع على نفسه اسم «قاعدة» الجهاد في بلاد الشام)، وتعاوُن «إسرائيل» الصريح معه في ظل سكوت ومباركة الرعاة من خلف الستار، وذلك رغم قرار مجلس الأمن الدولي الصادر بإجماع أعضائه ال 15 يوم الجمعة 31 مايو/أيار والذي قضى بإدراج جبهة النصرة على لائحة الإرهاب بسبب ارتباطها بتنظيم القاعدة، وفرض عقوبات عليها تشمل تجميد أموالها على الصعيد الدولي وفرض حظر على إمدادها بالأسلحة.
مختصر القول أنه إذا لم تتفق الدول فيما بينها على التنازل المتبادل بالكف عن استخدام الإرهاب كورقة في الصراع الدولي، فإن العالم سيبقى رهينة هذه السياسات المدمرة.

د.محمد الصياد

صحيفة الخليج