ما بعد باريس

ما بعد باريس

580

تأتي الهجمات التي شنها فيباريس أفراد مرتبطون بتنظيم الدولة الإسلامية عقب التفجيرات في بيروت وإسقاط طائرة الركاب الروسية فوق شبه جزيرة سيناء، وهو ما يعزز حقيقة مفادها أن التهديد الإرهابي دخل مرحلة جديدة أشد خطورة.

ولا تخرج محاولات التعرف على الأسباب التي جعلت تنظيم الدولة الإسلامية يقرر شن هجماته الآن عن دائرة الحدس والتخمين؛ فربما لجأ إلى العمل على المستوى العالمي لتعويض خسارته الأخيرة للأراضي في العراق، ولكن الأمر المؤكد -أيا كان المبرر المنطقي- هو أن الاستجابة الواضحة باتت مستحقة الآن.

الواقع أن التحدي الذي يفرضه تنظيم الدولة يدعو إلى استجابات عديدة، ذلك أن أي سياسة منفردة لن تكون كافية، وهناك احتياج واضح إلى جهود متعددة في مجالات متعددة.

“كان مصير المحاولات السابقة لبناء قوة على الأرض الفشل، كما كانت الدول العربية غير قادرة أو غير راغبة في تشكيل مثل هذه القوة، ولم يكن الجيش العراقي أيضا على قدر المهمة، ولا تعمل المليشيات التي تدعمها إيران إلا على زيادة الأمور سوءا”

فأولا، هناك الرد العسكري؛ إذ يشكل تكثيف الهجمات من الجو ضد الأصول العسكرية لتنظيم الدولة الإسلامية، ومنشآت النفط والغاز التي يسيطر عليها، وقادته، أمرا بالغ الأهمية. بيد أن أي قدر من القوة الجوية لن يكون كافيا في حد ذاته لإنجاز المهمة، بل يتطلب الأمر إرسال قوات برية كبيرة على الأرض للاستيلاء على الأرض والحفاظ عليها.

من المؤسف أن الوقت المتاح الآن لا يكفي لبناء قوة من الشركاء على الأرض من نقطة الصفر. وكان مصير المحاولات السابقة الفشل، كما كانت الدول العربية غير قادرة أو غير راغبة في تشكيل مثل هذه القوة، ولم يكن الجيش العراقي أيضا على قدر المهمة، ولا تعمل المليشيات التي تدعمها إيران إلا على زيادة الأمور سوءا.

ويتلخص الخيار الأفضل الآن في العمل بشكل أوثق مع القوات الكردية ومجموعة مختارة من القبائل السُّنّية في كل من العراق وسوريا. ويعني هذا تقديم المعلومات الاستخبارية والأسلحة، فضلا عن الاستعداد لإرسال المزيد من الجنود -أكثر من 3500 جندي أميركي هناك بالفعل، بل وربما يبلغ العدد عشرة آلاف- لتوفير التدريب والمشورة والمساعدة في توجيه الرد العسكري.

ولا بد أن يكون مثل هذا الجهد جماعيا، وربما يكون غير رسمي -“تحالف من الراغبين”، ربما يشمل الولايات المتحدة، وفرنسا، والمملكة المتحدة، ودول عربية، بل وحتى روسيا في ظل الظروف المناسبة- أو ربما يجري تنفيذه تحت رعاية حلف شمال الأطلسي والأمم المتحدة.

ولا يمثل الشكل أهمية بقدر النتائج، ومن الأهمية بمكان أن يتم التعامل مع إعلانات الحرب الرمزية بحذر، خشية أن يبدو الأمر كأن تنظيم الدولة الإسلامية يكسب في كل يوم لا يخسر فيه.

ولا يقل العنصر الدبلوماسي أهمية لأي رد. الواقع أن الرئيس السوري بشار الأسد يمثل أداة تجنيد يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية، ولا بد أن يرحل. ولكن أي حكومة قادمة لا بد أن تكون قادرة على الحفاظ على النظام وعدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية باستغلال فراغ السلطة، كما فعل في ليبيا.

وعلاوة على ذلك، لن يتسنى التغيير السياسي المنظم إلا بدعم روسي إيراني. ومن بين الخيارات التي تستحق الاستكشاف في الأمد القريب تشكيل حكومة ائتلافية يرأسها ممثل للأقلية العلوية، وهو التنازل الذي ربما يكون ثمنا لإبعاد الأسد من السلطة. وبمرور الوقت، يصبح من الممكن من حيث المبدأ تشكل حكومة وطنية أكثر تمثيلا، وإن كان الحديث عن إجراء انتخابات في غضون 18 شهرا أمرا خياليا تحت أي سيناريو.

بيد أن التوصل إلى تسوية على أساس هذه الخطوط ربما يكون مستحيلا. ولهذا السبب، يتطلب الأمر زيادة الجهود العسكرية لتشكيل جيوب أكبر وأكثر أمانا وقادرة على توفير حماية أفضل للمدنيين ونقل المعركة إلى تنظيم الدولة الإسلامية. ولا تُعَد سوريا دولة طبيعية بأي حال من الأحوال، ولن تتحول إلى دولة طبيعية في أي وقت قريب، إذا حدث ذلك على الإطلاق. وتُعَد سوريا التي تتألف من جيوب أو أقاليم نموذجا أكثر واقعية في المستقبل المنظور.

“الرئيس السوري بشار الأسد يمثل أداة تجنيد يستغلها تنظيم الدولة الإسلامية، ولا بد أن يرحل، ولكن أي حكومة قادمة لا بد أن تكون قادرة على الحفاظ على النظام وعدم السماح لتنظيم الدولة الإسلامية باستغلال فراغ السلطة، كما فعل في ليبيا”

وتتضمن عناصر أخرى لا غنى عنها في أي إستراتيجية فعّالة، التوسع في مساعدة تركيا أو الضغط عليها لحملها على بذل قدر أكبر كثيرا من الجهد لوقف تدفق المجندين إلى تنظيم الدولة الإسلامية.

وتحتاج تركيا، وكذلك الأردن ولبنان، إلى المزيد من المساعدات المالية لتمكينها من تحمل القسم الأكبر من عبء اللاجئين، ويتعين على الزعماء العرب والمسلمين أن يقوموا بدورهم من خلال التفنيد الصريح لرؤية تنظيم الدولة الإسلامية وتجريد سلوكه من أي شرعية.

ولا يسعنا أيضا أن نغفل البعد المحلي للسياسة، فلا بد من تكييف الأمن الوطني وإنفاذ القانون -تكثيف تدابير الحماية على الحدود وفي الداخل- مع التهديد متزايد الخطورة.

من الواضح أن التعامل مع الإرهابيين المنفردين -الأفراد أو المجموعات الصغيرة التي تنفذ هجمات مسلحة ضد أهداف ضعيفة في مجتمعات مفتوحة- أمر بالغ الصعوبة، ويستلزم التعامل مع التهديد المفروض وحقيقة الهجمات التحلي بقدر أكبر من المرونة الاجتماعية وإعادة التوازن بين الخصوصية الفردية والأمن الجماعي.

والمطلوب أيضا جرعة من الواقعية، ذلك أن الصراع ضد تنظيم الدولة الإسلامية ليس حربا تقليدية، ولن نتمكن من استئصاله أو تدميره في أي وقت قريب سواء بوصفه شبكة وفكرة أو بوصفه منظمة ودولة تسيطر بحكم الأمر الواقع على الأرض والموارد.

في حقيقة الأمر، كان الإرهاب وسوف يظل إحدى آفات هذا العصر، والنبأ السار برغم هذا هو أن التهديد الذي يفرضه تنظيم الدولة الإسلامية على الشرق الأوسط وبقية العالم يمكن تقليصه إلى حد كبير من خلال العمل المتضافر الدؤوب. ويتلخص الدرس الرئيسي المستفاد منهجمات باريس في حقيقة مفادها أننا لا بد أن نكون مستعدين للعمل في الوقت المناسب والمكان المناسب على حد سواء.

 ريتشارد ن.هاس

الجزيرة نت