أنقرة وأربيل .. وسياسة التحالفات الإقليمية

أنقرة وأربيل .. وسياسة التحالفات الإقليمية

566ac0a8dfc45

في بيئة عربية وإقليمية مضطربة وصل رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني في التاسع من كانون الأول/ديسمبر من الشهر الجاري إلى الجمهورية التركية وقد أجرى رئيس الإقليم مع كبار القيادة التركية محادثات تناولت التطورات الإقليمية في منطقة الشرق الأوسط.  وحظيت هذه الزيارة بحفاوة دبلوماسية من قبل القادة الأتراك الذي التقى بهم رئيس إقليم كردستان العراق لاسيما من قبل رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان ورئيس وزرائه أحمد داود أوغلو. فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية التركية يرفع علم إقليم كردستان العراق إلى جانب علم جمهورية العراق، في مكتب رئيس الجمهورية، ومكتب رئيس الحكومة أثناء زيارته لكل منهما.

تأتي زيارة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى تركيا بعد فتور في العلاقات الثنائية دام بضعة أشهر، بفعل تمدّد تنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام “داعش” بعد السيطرة في حزيران/يونيو 2014م على مدينة الموصل ومحافظة نينوى وأراضٍ تابعة لإقليم كردستان العراق وتهديدهم العاصمة أربيل، وعدم تقديم الدعم المسلح للإقليم. ورأت القيادة الكردية في ذلك نوعاً من “الخذلان” من دولة حليفة لإقليم كردستان. لكن الحكومة التركية تداركت الأمر فيما بعد عندما قامت بتقديم مساعدات عسكرية للإقليم، ثم سمحت بمرور قوات “البشمركة” من أراضيها للوصول إلى مدينة عين العرب، شمالي سورية، لمنع سقوطها بيد داعش، ما أدى إلى زوال الفتور وعودة الدفء للعلاقة.

تحمل زيارة البارزاني في توقيتها كثيرً من الدلالات؛ فقد أتت بعد أيامٍ من جولة رئيس إقليم كردستان العراق الناجحة إلى الإمارات والسعودية، وفي أثناء الأزمة السياسية الحادة بين تركيا وروسيا على خلفية إسقاط تركيا في 24تشرين الثاني/نوفمبر من الشهر الماضي المقاتلة الروسية”سو24″، واتهامات روسيا لإبن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بشراء النفط من داعش، وبوادر أزمة تركية إيرانية، فهذه المرة الأولى يوجه فيها المسؤولون الأتراك انتقادات للنظام الإيراني فيما أسماه رئيس الجمهورية التركية “سياسة مذهبية”  كما إنها أتت والعلاقات التركية العراقية تشهد توترًا إثر قيام تركيا بإرسال قرابة 150 جنديًا إلى ناحية “بعشيقة” القريبة من مدينة الموصل العراقية، عن طريق البر، لاستبدال وحدتها العسكرية في المنطقة، كما تمّ استقدام ما بين 20 و25 دبابة، خلال عملية التبديل، وهو ما شهد احتجاجًا من قبل القيادة العراقية. كما جاءت هذه الزيارة بعد التدخل العسكري الروسي المباشر في30 أيلول/سبتمبر الماضي في الأزمة السورية، وتحكم إيران بالمشهد السياسي العراقي برمته وبعض أجزاء المشهد السياسي في لبنان واليمن. وفي هذا السياق نتساءل عن طبيعة العلاقة التي تربط تركيا برئيس إقليم كردستان العراق، فهل هي علاقة إقتصادية فقط أم إنها تشمل أبعاد متنوعة مرتكزة على أسس استراتيجية أم إنها أسس مرحلية؟

حاولت التحليلات السياسية والصحفية العربية المرتبطة بالنظام الإيراني أن تقلل من أهمية زيارة رئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارازاني، وحصرها في الإطار الاقتصادي فقط. وحجتهم في ذلك أن تركيا تحاول من خلال إقليم كردستان العراق ايجاد مزود جديد للطاقة لها بعد توتر علاقاتها مع روسيا مؤخرًا لكن واقع العلاقات بين تركيا وإقليم كردستان ومكانته في السياسة الخارجية التركية منذ نهاية عام 2007م وحتى يومنا هذا، تدحض تلك التحليلات، وتؤكد على أن العلاقات بينهما ذو أبعاد متعددة ولا تقتصر فقط على ذلك الجانب.

فزيارة رئيس إقليم كردستان لتركيا في هذه الظروف الإقليمية الراهنة شديدة الاستقطاب ما هي إلا رسالة مهمة إلى المحور الإيراني الروسي العراقي السوري بأن رئيس الإقليم حليف لتركيا في الملفات الأمنية والسياسية. فالتطورات الإقليمية الجديدة تحتم على الجانب التركي والكردي العراقي التأكيد على هذا التحالف. فالحكومة الكردية تحتاج إلى حماية إقليمية بعد تزايد دور إيران في العراق، وتغلغل المليشيات الشيعية التي تعمل وفق جدول أعمال فكري خطير يهدد مستقبل إقليم كردستان برمته، وفي المقابل تدرك حكومة العدالة والتنمية في تركيا أن زيادة النفوذ الإيراني في العراق ما بعد عام 2003م، انعكس بشكل سلبي على توازن القوى الإقليمي، ونتيجة ذلك النفوذ تحول العراق إلى حديقة خلفية لها، وهو بالطبع أثر سلبيًا على المصالح التركية في الوقت الحالي وقد يؤثر عليه في المستقبل إذا استمر ذلك النفوذ.

فتركيا بالنسبة لإقليم كردستان العراق تعتبر بوابتها للوصول إلى العالم الغربي في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية، وتسجيل معدلات طموحة من النمو لتحقيق وضع اقتصادي أفضل، والوقوف إلى جانب الإقليم في مواجهة التحديات الأمنية ولعل من أبرزها حاليا تهديدات تنظيم الدولة له. فتركيا فعلى الرغم من الجانب الأمني والسياسي حيال نظرتها للإقليم فهي بحاجة له على الجانب الاقتصادي. فالاقليم يعد المصدر الخامس في توفير حاجة تركيا لمصادر الطاقة من النفط والغاز الطبيعي. وبذلك سوف تقلل الاعتماد التركي على روسيا وإيران، وتتخلص من التوظيف السياسي لمصادر الطاقة من قبل روسيا وإيران. وهذا الأمر سيمكن تركيا وحلفائها من الدول العربية من مواجهة التحديات الراهنة، فالتحالف الثلاثي الذي يجمع المملكة العربية السعودية وتركيا وقطر في مواجهة التحالف الروسي الايراني السوري العراقي أصبح معروفًا بل ويدعو رئيس الجمهورية التركية رجب طيب أردوغان بشكل واضح إلى تحالف إقليمي يجمع دول سُنية أخرى. ففي هذا السياق الإقليمي تبرز أهمية إقليم كردستان العراق بهذا التحالف، فالإقليم وإن لم يكن دولة مستقلة فإن وقوفه إلى جانب تركيا والسعودية وقطر سيعزز بلا شك موقف هذا التحالف من قضايا المنطقة. لجهة أن هذا الاقليم تجمعه علاقات جيدة مع المكون السُني في العراق، وكذلك تربطه علاقات سياسية متميزة مع كل من الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد الأوروبي، مما يؤهله ليكون نشطًا في التفاعلات الإقليمية الجديدة ويشارك في رسم السياسات المستقبلية في بيئة الشرق الأوسط.

  إن السياسة الخارجية التركية في عهد حكومة العدالة والتنمية تجاه إقليم كردستان العراق قائمة على استراتيجية بعيدة المدى، وليس وليدة صدفة أو تكتيك مرحلي تنتهي بانتهاء العوامل التي أدت إلى نشوئها، فالسياسة الخارجية المنفتحة التي تبنتها حكومة العدالة والتنمية تجاه دول الجوار الإقليمي في الشرق الأوسط عطلتها تداعيات الربيع العربي، وفي مقدمتها الثورة السورية، لذلك تعد استمرار السياسة المنفتحة تجاه الإقليم محاولة تركية؛ لإثبات نجاح سياستها الخارجية القائمة على أساس التعاون مع الإقليم الكردي، وهو ما عبر عنها رئيس الوزراء التركي أحمد داود أوغلو عندما قال إن أنقرة: “لم تقل يومًا أنها تهدف إلى انتهاء كل المشاكل والنزاعات وفق تبنيها لسياسة تصفير المشكلات وإنما تحاول أنقرة إلى تقليل تلك المشكلات وزيادة التعاون الإقليمي مع دول الجوار التركي، وهو ما يعتمد على الأطراف الأخرى،ومن الصعوبة بمكان حمل تركيا مسؤولية فشل الأنظمة العربية في الحفاظ على الأمن الداخلي واحترام حقوق مواطنيه.

وعليه فإن السياسة الخارجية التركية تجاه إقليم كردستان العراق تتجلى في تعزيز المكاسب الثنائية، وهذا يتطلب من تركيا توفير الحماية اللازمة له والحفاظ على أمنه في المرحلة المقبلة، ولعل قيام تركيا في تدريب قوات البيشمركة للتصدي لتنظيم الدولة في العراق وبلاد الشام”داعش”؛ يدل على وجود تصميم تركي في الاستمرار على معدل التعاون والتنسيق مع الطرف الكردي، والزيارة الأخيرة لرئيس إقليم كردستان العراق مسعود البارزاني إلى تركيا تأتي ضمن تلك المحاولات، وأن الاستقبال الرسمي واستخدام بروتوكول رفع علم إقليم كردستان تعبر عن مرحلة متطورة وتغيير جذري في السياسة الخارجية التركية من سياسة قائمة على التردد والحلول العسكرية المرحلية مع الكرد؛ إلى سياسية واضحة المعالم تهدف إلى ضمان صداقة الكرد، والتعاون معهم لتحقيق مصالح مشتركة عجزت السياسة الصلبة وخطط المؤسسة العسكرية التركية في تحقيقها لأكثر من عقدين من الزمن.

معمر فيصل خولي

مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية