في الأصولية وشروط صعودها: حوار مع أفكار عزيز العظمة

في الأصولية وشروط صعودها: حوار مع أفكار عزيز العظمة

_70317_rr4

الأصولية ظاهرة تاريخية وعالمية، تكمن جذورها المعرفية في تماهي الأصل والهوية، لدى الأفراد والجماعات. ولفكرة الأصل ثلاثة مصادر رئيسة متواشجة، ويغذي بعضها بعضاً، هي العرق والأسطورة والوهم، ولا سيما وهم مركزية الإنسان في الكون، ومركزية الجماعة النسلية على كوكب الأرض، فما من جماعة نسلية، عشيرة أو قبيلة، إلا ولديها اعتقاد راسخ في وعيها ولا وعيها بأنها تحتل مركز الأرض (المنبسطة)، وتمتاز وحدها بصلتها المباشرة بالسماء، وكل من يعيشون خارج حدودها وخلف أفقها المعرفي والإدراكي دونها منزلة، وأقل منها شأناً، فلا يبلغون شأوها، ولا يتمتعون بمزاياها، فهي نسيج وحدها وفريدة عصرها.

ولا تزال البشرية كلها أو بعضها تضمر أصولها العرقية، وتعيد إنتاج أساطيرها وأوهامها، وتنتج أساطير وأوهاماً جديدة و”حديثة”. ومن أحدث هذه الأساطير والأوهام الأساطير القومية وأوهام السيادة والشرعية، التي تنطوي خطاباتها على أصولية قد تبلغ حد العنصرية، وتتغذى من اللاوعي الجمعي، الذي يختزن معطيات ماضيها “الطبيعي”.

بهذه المعاني تكون الأصولية ممكنة، دوماً في المجتمعات الكبيرة أو الكلية والمجتمعات الصغيرة (communities)، التي لم تحقق ما يُرمز إليه بالثورة الكوبرنيكية، على صعيد المعرفة والفكر والثقافة، أي المجتمعات والجماعات التي لم تتغير زاوية نظرها إلى الكون والعالم، وإلى الإنسان عامة والمرأة خاصة، ولم ينتقل مركز ثقل المعرفة لديها من السماء إلى الأرض، ولا تزال أسطورة الخلق التوراتية وما قبل التوراتية حية في نماذج تفكيرها وإدراكها وتمثُّلها وعملها وعلاقاتها بتجليات ماهيتها الإنسانية، أي بمن يتشاركن ويتشاركون معها في الطبيعة الإنسانية، سواء كانت هذه المجتمعات تقليدية أم “حديثة”، تدين بالإسلام أم بالمسيحية أم بالبوذية أم بالكونفوشية.. أم غيرها.

ومن ثمة، فإن الأصولية لا تقتصر على الأصولية الدينية، وهذه الأخيرة على سوئها ووحشيتها، ليست أسوأ مظاهر الأصولية، والأصولية الإسلامية، السنية أو الشيعية، ليست أسوأ مظاهر الأصولية الدينية، إلا إذا سلمنا رؤوسنا للإعلام الموجَّه، والإعلام موجه دوماً، بغاياته أو “رسالته”، على الأقل، علاوة على مصادر تمويله وأهداف مموّليه. الحياد فكرة مثالية ومقولة أيديولوجية، بخلاف اللامبالاة، وبخلاف الاستقلال الذاتي، بالمعنى الكانتي.

لقد اقترح الدكتور العظمة بعض المعايير التي تساعد على رصد الظواهر الأصولية، وتساعد في تعريف الأصولية، مثل “الحق في حكم الناس وتسيير حاضرهم ومستقبلهم”، نوافقه عليها جميعاً. وعرّف الأصولية بقوله “لقد اكتسبت هذه اللفظة معنىً اصطلاحياً يشير إلى أشخاص أو جماعات أو أمزجة وأهواء تنطوي على مفارقات تاريخية وتستند إليها، وتُسلّم ببدايات وتفترض بدايات كاملة وناجزة (في معظم الأحيان على نحو خيالي) لجماعية معينة، أي الأمة في كلا المعنيين: الأمة الوطنية والجماعة الدينية (اشتراك في المعنى يقود إلى غموض عام وتشوش أو ازدواجية في العربية) أو الطائفة أو أيّ شيء يُتخذ على أنه جماعة طبيعية ما قبل سياسية. تتم مناقضة صورة هذا العصر الذهبي بصورة حاضر فاسد منحط جاهلي. وأخيراً، إن القيام بمحاولة لإعادة تكوين الحاضر على صورة العصر الذهبي واستئناف البدء هو السمة المميزة لهذه الأصولية”.

ولا نوافقه في قوله “تكمن المفارقة التاريخية في افتراض أنّه يمكن الرجوع بالزمان إلى الوراء، وأنّ التغيّر الذي حدث على امتداد أكثر من ألف سنة هو وهم أو على الأقل قابل للرد وللدحرجة إلى الوراء”، إذ لا نعتقد أن الأصوليين بلهاء يعتقدون بإمكان العودة بالزمن أو دحرجته إلى الوراء. يتعلق الأمر في اعتقادنا بالمثل الأعلى الأخلاقي، الذي تتّخذه هذه الجماعة الأصولية أو تلك أولاً، وبالأيديولوجية التي تتبناها ثانياً، وبإرادة السلطة ثالثاً. والطابع السلفي لجميع الأصوليات، في أيامنا، يعني النكوص عن التمدن والانتقام من الحداثة، لاقترانهما بتفاوت اجتماعي صارخ، وآليات ظالمة للاصطفاء الاجتماعي والتهميش الثقافي والسياسي، وسيطرة شبه تامة على الجسد الاجتماعي، هنا وهناك، لجعله منضبطاً أشد ما يكون الانضباط، وقد بلغت هذه السيطرة ذروتها في النظم النازية والفاشية والستالينية وفي التسلطية عندنا وعند غيرنا، ما يستوجب نقد التمدن المبتور والحداثة الناقصة، لا نقد ضحاياهما، فالنجاح والتقدم يستحقان النقد أيضاً.

لا ندري لمَ أرجأ العظمة الحديث عن الأيديولوجيا، ثم أحجم عنه، إذ الأصولية منظومة أو نظيمة أيديولوجية أو لا تكون. وهذا سر من أسرار نشوئها في المدن والحواضر

يقول العظمة نفسه: تقتصر ملاحظاتي على التطورات التي جرت في القرن المنصرم، وهي ترتبط بشكل ملموس باتجاهات الحداثة، وخاصة صعود طبقة جديدة من الأنتلجنسيا الحضرية، التي استمدّت بعض مادتها البشرية من الأرياف أيضاً على صورة غير مسبوقة تاريخياً، وهذا التطوّر الأخير تمّ في ستينات القرن العشرين. أما ملاحظتي حول الهوامش، فهي مرتبطة بالعقدين أو الثلاثة الماضية، حيث عملت فيها الهوامش وكأنها مجرّدة عن المكان: إنها موجودة فيزيائياً على أطراف المدن، بيد أنها غير منخرطة في المدن التي تغيرت معالمها على نحو سريع جداً؛ تتظاهر الضواحي الهامشية والعشوائيّة بإعادة إنتاج العلاقات الاجتماعية لمناطق المنشأ، ولكن في ظل ظروف مختلفة، وبالتالي بأساليب وطرق جديدة. هكذا، فإنّ قطاع منطقة الطبالة خارج دمشق ليس مجرد استنساخ للقرى المسيحية في حوران. كما أنّ تلة عليا في المزة [مزة-جبل] ليست مجرد قرية تم نقلها من جبل العلويين. فيشير بذلك إلى “العوامل المادية، سياسيا واقتصاديا واجتماعيا، فضلا عن الشروط المحلية والتغيرات السياسية الدولية، وأثره هذه العوامل مجتمعة في تحويل الأصولية من شرطها «الهامشيّ» إلى فضاء «المركز»، الفضاء الذي تعيش الأصولية في كنفه اليوم؟ ويتساءل كيف يمكن لمخلوقات عدميّة أصوليّة نبتت في جغرافية اللامكان أنْ تحوز على المكان كله؟

لعلّ المسألة تتعلّق بالعدالة ومدخلها الاعتراف المتبادل بالكرامة الإنسانية والجدارة والاستحقاق، قبل الديمقراطية ومن أجلها. فلا نعتقد أن الأصولية التي قصدها العظمة (الأصولية الإسلامية عامة والداعشية منها خاصة) قد تحوّلت بالفعل من شرطها الهامشي إلى فضاء “المركز″، أو أنها نبتت من اللامكان وحازت على المكان كله. صحيح أنها احتلت، ولكنها احتلت ما كان هامشاً أساساً، ذلك لأن أصولية “المركز″ أمرُّ وأدهى. وما دام الحديث يدور حول سوريا، فالأصولية المركَّبة للسلطة وأيديولوجيتها القومية وسياساتها الوحشية، كانت ولا تزال من أبرز شروط إمكان الأصولية الإسلامية، وشروط اندفاعها على النحو الذي نرى. فقد وثَّقت الشبكة السورية لحقوق الإنسان معظم الجرائم التي ارتكبتها السلطة والجماعات المقاتلة الأخرى في خلال الحرب الدائرة، وبيّنت أن نسبة الجرائم التي ارتكبتها السلطة والميليشيات التابعة لها والمقاتلة إلى جانبها تراوح بين 91 و98 بالمئة من مجموع الجرائم الموثقة، وهذا ما لم يلتفت إليه العظمة إلا لماماً.

وإلى ذلك نستهجن اعتبار الإسلام مشكلة عالمية ونسْب الإرهاب إليه، لا إلى جماعات الإسلام السياسي، بعضها أو كلها. كما نستهجن نسْبَه إلى أي دين آخر، واعتباره نابعاً من النصوص التأسيسية لهذا الدين أو ذاك،، وتحميل الدين وزر الجرائم التي يقترفها مسلمون أو مسيحيون أو يهود أو غير ذلك، ونستغرب قوله “بدلاً من أن يكون الإسلام، كما يحلو للبعض أن يتصور، بلسماً للعالم، وحلاً لمشاكله جمعياً، نجد أنفسنا اليوم وبعد عقدين من الغلوّ والتمدد العالميين في وضع أضحت فيه الكثير من ممارسات وتصورات هذا الدين مشاكل في كل مكان، إنه مشكلة للمسلمين وللآخرين، وبالفعل خطر في كل مكان، وهو الأمر الذي يتطلب، بشكل واضح وواضح جداً، وفيما يتجاوز الخطابية والكلام العاطفي والحماسي الاعتذاري والتبريري، تدخلاً جماعياً”. ولا ندري ما نوع التدخل الجماعي المطلوب لدرء هذا “الخطر” الذي يتهدد المسلمين أنفسهم وبقية العالم.

ونجادل في قوله “ليس هناك مسلمون قبل عصر الحداثة أو الإصلاح الإسلامي (الذي يماثل البروتستانتية في نقاطها الأساسية) قد سعوا إلى استمداد نظام سياسي من القرآن”. ونرى أن استدراكه بأن “نصوصاً من القرآن قد استخدمت دوماً للجدال في كل أنواع المسائل، ولإضفاء الشرعية على هذه الحجة أو تلك في السياسة وفي غير السياسة” لا ينفي حكمه القطعي السابق، ويثير إشكالية الفرق بين النظام السياسي ونظام الحكم، إذ الأول هو صورة الحياة العامة أو النوعية للمجتمع المعني، صورة سياسية وقانونية وأخلاقية، أما الثاني، أي نظام الحكم فهو الطريقة التي تدار بها الشؤون العامة والمبادئ النظرية والعملية التي تقوم عليها هذه الإدارة. ونجادل أيضاً في أن “أول من قام بذلك، أي باستلال نظرية سياسية ونموذج سياسي من القرآن بشكل منهجي كان سيد قطب”، إذ يرى بعضهم أن سيد قطب تأثر بكل من المودودي، والندوي، ولا نرى وجهاً للمقارنة بين سيد قطب والأسقف بوسويه Bossuet (المتوفّى عام 1704)، “واعظ الملك لويس الرابع عشر، وباني نظرية الحق الإلهي للملوك انطلاقاً من الأناجيل في عصر الإصلاح الكاثوليكي”، لأن سيد قطب كان مناهضاً للويس الرابع عشر المصري، جمال عبدالناصر، وقد كان عبدالناصر في نظر أغلبية المصريين وأغلبية العرب، بمن فيهم المثقفون، “شعباً في رجل”، على نحو ما وُصف لويس الرابع عشر، ومن وصفه هو بوسيه، على ما أظن. وإلى ذلك كان سيد قطب منظّر ما سماه “الدولة المدنية”، إذ رأى أن دولة الرسول، ثم الخلافة الإسلامية لم تكن دولة دينية، ولم يتجاوز مفهوم الشورى، الذي يعتبره كثيرون أساس “الديمقراطية في الإسلام”.

والأكثر مدعاة للاستهجان قول العظمة بصيغة تقريرية قطعية “إنّ العديد من هذه الجماعات، أي المافيات وعصابات التهريب والاتجار بالمخدرات (وربّما كلها)، بما في ذلك الجماعات الإسلامية، لها أو كان لها اتصال مع الـ “سي آي إيه”، أو على الأقل بعض الأجهزة السرية الأخرى التي عملت بمثابة داعم أساسي ولوجيستي لها. لكل فاعليات هذه الجماعات أسس اقتصاديّة واضحة وأساسية”. وينم استدراكه (وربما كلها) و(أو على الأقل بعض الإجهزة السرية..) على الظن والتخمين، وهما ظن وتخمين شائعان، يرقيان لدى كثيرين إلى اليقين، ويتصلان بما يسمى “نظرية المؤامرة”. وهذا لا ينفي تقاطع المصالح، ولا ينفي احتمال أن يكون ما ذهب إليه العظمة صحيحاً وواقعياً، ولكن الاحتمال يظل احتمالاً والظن يظل ظناً حتى يُقطع باليقين. ولعله من التعسف سلك الجماعات الإسلامية في سلك المافيات والعصابات التي تتاجر بالمخدرات أو الألماس أو غيرها، مع أن بعض الجماعات الإسلامية يمكن أن تقوم بذلك وبما هو أسوأ منه ولكن الفروق الجوهرية بين جماعات الإسلام السياسي وبين الجماعات غير الرسمية وغير القانونية التي وصفها العظمة تجعل المقارنة تعسفية، ولا تساعد في فهم الجماعات الإسلامية فضلاً عن تفهمها.

ولا تتسق أطروحة اللامكان التي حدد بها العظمة هوية الجماعات الجهادية، ومنها داعش، مع الزوجين المفهوميين المتقابلين: الرسمي/اللارسمي والمركز/الهامش. اللارسمي والهامش مكانان أو زمكانان أيضاً، بل أمكنة، ونفضل مجالات، لها بناها المعمارية (الهندسية) وخصائصها الاجتماعية والثقافية، ولعل وصف بعض هذه الأمكنة بالعشوائيات بالغ الحصافة، فهي مرايا الرسمي ومرايا المركز، وتحمل إمكان خلخلة الرسمي والمركز وتغييرهما أو تقويضهما. نشير إلى أن المعارضة السورية، التي تصف نفسها بالعلمانية والديمقراطية تنتمي إلى مجال اللارسمي ومجال الهامشي، إذا فهمنا من اللارسمي، اللاقانوني أو غير المرخّص له وغير المُشهر والمعترف به رسمياً. لا نتعامل مع هذه الأطروحة سجالياً، بل نريد أن نشير إلى واقعة عيانية، هي أقرب إلى المفارقة، نعني تحويل العقيدة إلى وطن متخيَّل يراد للوطن الواقعي أن يكون مثله، بل أن يكون هو هو. لقد استوطن فلسطينيو الشتات عقيدة التحرير والنضال أو الجهاد في سبيله، فغدت العقيدة مكاناً ذا مدى عالمي، تتصادى فيه أصوات القادة والمناضلين والمثقفين والسياسيين وأنشطة المؤسسات. مثلما استوطن الأمميون البروليتاريون العقيدة الماركسية – اللينينية أو الماوية، ومثلما تستوطن الجماعات الإسلامية “الإسلام” على اعتباره رسالة إلى البشر كافة. العقائد ترسم خرائط أيضاً، خرائط ديمغرافية وجيوسياسية.

في سياق المركز والهامش يخيّل للقارئ أن العظمة مولع بالمركزية، على اختلاف صفاتها، ومنها المركزية الثقافية، إذ يرى أن “الجيوش الخاصة التي قدمت من اللامكان، في العالم العربي كما أيضاً في لاوس أو الكونغو أو كولومبيا، تستند في الخطاب والتعبئة إلى نتائج ‘التعددية الثقافية الأوروبية’، وهي تمثل تصوراً عن الذات باعتبارها متفرّدة ومتوحدة ومستوحشة، على نحو جمعي”. نفهم من التعددية الثقافية أنه لا يحق لأيّ ثقافة أن تعتبر نفسها وأن يعتبرها أهلها ثقافة معيارية، تُفرض على الجماعات الثقافية المختلفة، وهذا مما يولد، وقد ولد كثيراً من التوترات الإثنية والدينية والمذهبية والأيديولوجية، ويولّد الطائفية حينما يقترن بسياسات حصرية وإقصائية. وفي مجال العقائد الدينية، تضفي الأكثرية الدينية أو المذهبية على عقيدتها قيمة معيارية، يوصف بموجبها أتباع الديانات والمذاهب الأخرى بأنهم “أقليات” أو بأنهم “كُسور الأمة”، بالمعنيين الرياضي والمجازي، إذ الكسر أدنى قيمة من العدد الصحيح، الكامل. هنا يحسن التأمل في مقولة القوميين من العرب: العروبة مادة الإسلام والإسلام روحها، أو مقولة “لا تنهض الأمة إلا بجناحيها، العروبة والإسلام”. تندرج هاتان المقولتان في ما سميناه “الأصولية المركبة”، التي أنتجت أصوليات مضادة. بيد أن الأهم من هذا كله أن المركزية مقترنة بالأصولية الدينية والأصولية العلمانية اقتراناً لا فكاك له، ومقترنة بالسيطرة الشاملة، إن لم نقل بالاستبداد، وتتصل بأكثر من سبب بوهم مركزية الذات الفردية والجمعية، علاوة على كونها ذكورية خالصة.

لا ندري لمَ أرجأ العظمة الحديث عن الأيديولوجيا، ثم أحجم عنه، إذ الأصولية منظومة أو نظيمة أيديولوجية أو لا تكون. وهذا سر من أسرار نشوئها في المدن والحواضر، وقدرتها على حشد الريفيين المحتاجين إلى خلاص وتعبئتهم، وسرّ من أسرار انبثاقها من أوساط “البورجوازية الوسطى” المتعلمة تعليما جيداً، دينيا و/أو علمانياً، وتحالفها مع فئات من “البورجوازية العليا” ولا سيما التجارية منها، وهذه أقل حداثة من البورجوازية الصناعية، إذا كان لا بد من استعمال هذه المصطلحات. “النخبة” المدينية أو الحضرية المتعلمة تعليماً دينياً أو علمانياً وحدها تستطيع أدلجة التاريخ والتراث وأدلجة المأثور الديني وإنتاج خطابات تاريخية-سياسية منها وحشد الريفيين وفقراء المدن حولها. الأيديولوجيا وإرادة السلطة هما من أهم ما يربط أفراد الجماعات الأصولية المسيَّسة بعضهم ببعض، ومن أهم ما يميزهم من غيرهم، وفق مبدأ الولاء والبراء، ومن أهم شروط انبثاق الطائفية.

نستهجن اعتبار الإسلام مشكلة عالمية ونسْب الإرهاب إليه، لا إلى جماعات الإسلام السياسي، بعضها أو كلها. كما نستهجن نسْبَه إلى أي دين آخر، واعتباره نابعاً من النصوص التأسيسية لهذا الدين أو ذاك

اللافت أن العظمة لا يوافق على مشاركة “الأحزاب” الإسلامية في الحياة السياسية والمباريات الانتخابية، وأن يكون صندوق الاقتراع هو الذي يحكم بين الأحزاب المختلفة، ومنها “الأحزاب” الدينية. هذا يعني بالضبط أنه لا ينظر إلى الجماعات الإسلامية، على اختلافها، على أنها أشخاص وقوى اجتماعية سياسية قانونية لها ولأفرادها حقوق مدنية وسياسية مساوية لغيرها من الأحزاب السياسية، ما لم تكن محظورة بموجب دستور هو عقد اجتماعي سياسي وأخلاقي، لا شبه دستور، كالدستور السوري، بل ينظر إليها على أنها بنى جوهرانية وشيطانية خطرة على المسلمين وبقية العالم. والمعيار الذي يعتمده في هذا الحكم هو، بكل أسف، رغبة الحكومات الغربية والأميركية ودول الخليج أو عدم رغبتها في ذلك. فالحكومات الغربية، كما يقول، باتت “تشعر (كما هو حال بعض الدول الخليجية) أنها قد لُدغت من المخلوقات السياسية التي جعلوها ممكنةً وقاموا برعايتها”. وهو معيار فاسد من جميع الوجوه، ويتصل بشبهة ارتباط الجماعات الإسلامية بالمخابرات الأميركية أو غيرها، وهذا مما يحتاج إلى البرهنة عليه.

في ظروف محلية وإقليمية ودولية مناسبة يمكن أن تتحول الجماعات الجهادية المتطرفة إلى جماعات سياسية معتدلة، تقبل باللعبة الديمقراطية، وتشارك فيها، من دون أن تنتفي إمكانية الانقضاض على السلطة والاستئثار بها، كما حدث في مصر، وهذه الإمكانية ليست مقصورة على الإسلاميين، والقرائن على ذلك أكثر من أن تحصى. المشاركة غير المحاصصة والتقاسم والتناهب؛ الأولى تنتج من عقد اجتماعي بين أفراد حرائر وأحرار، صيغته القانونية هي الدستور، الذي تضعه جمعية تأسيسية منتخبة انتخاباً صحيحاً، وصيغته العملية أو الإجرائية هي الانتخابات، والثانية تواطؤ بين جماعات مغلقة على سلم مؤقت وملغَّم هو هدنة بين حربين. إن دورية الانتخابات واطّرادها كفيلان بتحسين شروط اللعبة السياسية وتحسين قواعدها، وإطلاق تنافسية حرة لا بديل منها لتحولات ديمقراطية راسخة. لا ننفي إمكانية المحاصصة في سوريا بعد توقف القتال، بحكم الأوضاع المعقدة التي أنتجتها الحرب والمداخلات الإقليمية والدولية وتضارب المصالح والأهداف، كما هي الحال في لبنان والعراق، ولكننا لا ننفي إمكانية المشاركة أيضاً، ووضع البلاد على سكة إعادة الإعمار، بجميع منطوياتها واستحقاقاتها، وفي مقدمها المصالحة الوطنية والعدالة الانتقالية.

أمّا عن دعوة العظمة إلى لغة جديدة للقبض على الظاهرات الجديدة، بعيداً عن الغموض والتبسيط، فهي دعوة حميدة، لكننا لم نر أثرها في الحديث عن الاتجاهين الرئيسين في الأصولية الإسلامية: اتجاه محمد عبده و”حلقته المباشرة”، ثم مؤسسة الأزهر، ولا سيما في العهد النصري، وهو اتجاه وصف بالإصلاحي وشُبِّه بالإصلاح اللوثري، والاتجاه الذي أسّسه رشيد رضا وأكمله سيد قطب، وقد يمتد إلى بن لادن والظواهري والزرقاوي والبغدادي.. فهذا مما درج عليه معظم المثقفين العرب إن لم نقل كلهم، من دون الإشارة إلى أن هذين الاتجاهين كليهما انبثقا من إصلاحية محمد عبده وسلفيته. ولعل جدال محمد عبده مع رينان يكشف عن حدود إصلاحية عبده، التي يتطلع بعض كبار المفكرين العرب العلمانيين إلى إعادة إنتاجها، بعد أن تبين إخفاق “الدولة القومية”.

أخيراً، يبدو أن تحليل ما يحدث في سوريا يقتصر أو يكاد يقتصر على إرهاب “تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش) وممارساته الوحشية، وصعود الأصولية الإسلامية السنية ومخاطرها الراهنة والمستقبلية، ولا سيما التربية على التوحش، و”إدارة التوحش”، حسب كتيب منسوب لأبي بكر ناجي، شبهه جهاد الزين بكتاب لينين “ما العمل”. فما حدث في سوريا، في نظر العظمة، لا يعدو كونه “تحول الحراك إلى حروب أهليّة”، وهذا ما ينقضه قول العظمة نفسه إن “الكثير من العناصر الشبابية المتعلمة، المستقلين والواعدين من المجموعات الشبابية، ممن كانت لديهم المقدرة على القيادة والعمل على إنتاج تماسك سياسي ومعنوي وطني شامل ومنظور واسع للحراك، قد تم التخلص منهم قتلاً أو اعتقالا أو هجرة: أولاً، من قبل قوات أمن النظام، ولاحقاً، من قبل القوى الجهادية التي حلّت محل هذه المجموعات الشبابية وفتكت بما تبقّى منها أو امتصت القليل من بقاياها”. فإذا كان مصير قادة الحراك ونشطائه ومن شاركوا فيه هذا المصير، وهم مئات الآلاف، بل آلافها، فإن الحراك لم يتحول إلى “حروب أهلية”. تحتاج المسألة إلى مزيد من الدرس والبحث والنقاش.

جاد كريم الجباعي

صحيفة العرب اللندنية