عامٌ للملك سلمان في قصر اليمامة: قطيعة أم امتداد؟

عامٌ للملك سلمان في قصر اليمامة: قطيعة أم امتداد؟

ملك سلمان

مقدمة

شكَّل اعتلاء الملك سلمان بن عبد العزيز لمقاليد الحكم نقطة تحول في سير الأحداث على مستوى الشرق الأوسط. وانقسم الخبراء بين ناقدٍ لدور الرياض ومؤيد لما تقوم به. ويبدو أنه من المفيد، كخلفية عامة أن نحيل هذين الموقفين إلى ظروفهما الموضوعية.

يمر العالم العربي منذ قرنين بأزمة هوية تتمثل في إيجاد تعريف دقيق للعلاقة التي تربط الفرد بالجماعة من جهة، وتلك التي تربط الجماعة بالدولة من جهةٍ أخرى. وكانت المؤسسة الرسمية، ولا تزال، تنظر إلى الشعب على أنه عنصر محايد (لا هو رصيد استراتيجي، ولا هو عبء في وقت الأزمات)، لكنه مؤهَّل لأن يصبح أحدهما.

في هذا السياق برز الربيع العربي(1) كتعبير عن أزمة العلاقة هذه، وتوْق الإنسان العربي لأن يكون فاعلًا، لا مفعولًا به. لكن تداعيات ذلك الربيع أدَّت إلى حالة من الفوضى، لا يمكن أن يركن الإنسان العربي في التعامل معها للخارج الذي يسعى لمصالحه. وهنا تبدو حاجة العرب لقدرات ذاتية ودرجة عالية من الاستقلال عن القوى الأجنبية واستبدال تعاونهم فيما بينهم باعتمادهم على تلك القوى.

في تلك اللحظة، يبدو أن المملكة العربية السعودية قد اتخذت زمام المبادرة في قضايا الوطن العربي.

وعليه، يمكن إحالة بعض النقد الموُجَّه للرياض إلى تلك الأزمة التي يعاني منها العالم العربي كله، وذلك على اعتبار أن دور الرياض لا يستند إلى تعريف دقيق للعلاقة بين الفرد والجماعة ولا تلك التي تربط الشعب بمؤسسات الدولة؛ حيث إن كل فعل لا ينطلق من تعريف محدد لما سبق، قد يكون محل ريبة وشك لدى النخب الناقدة.

كما يمكن فهم الدعم غير المشروط الذي تتمتع به مشاريع المملكة العربية السعودية المعتمدة بشكل رئيس على قدرات ذاتية من قِبل النخب السعودية والعربية، وذلك على افتراض أن الإنسان العربي يرى في الرياض قوة عربية تشكِّل ذخرًا استراتيجيًّا له.

ويتوافق هذا الرأي مع الرياض التي تنظر إلى نفسها كقائد طبيعي للعالمين العربي والإسلامي؛ فلقد وُلدت الأمة العربية في سوق عكاظ وترعرعت في دار الندوة وخرجت إلى الأمم مع المعلَّقات. كما وُلدت الأمة الإسلامية في مكة وترعرعت في يثرب وخرجت إلى العالم من سقيفة بني ساعدة.

المستوى الداخلي

يسود تصورٌ عام، في داخل المملكة العربية السعودية وخارجها، مفاده أن عهد الملك سلمان قام بقطيعة مع العهد القديم، ولا يمكن معرفة ما إذا كان هذا التصور دقيقًا أم لا، قبل التعرف على مفهومي القطيعة والامتداد وإسقاطهما على مواقف المملكة من المرأة ومن التحالف مع الإسلام السياسي من جهة، وكيفية إدارة الدولة لاقتصاد البلاد من جهةٍ أخرى.

قطيعة أم امتداد؟
يمكن تعريف القطيعة من خلال ثلاثة مفاهيم: أولًا: أن يكون للعهد الجديد منطلقات رمزية ومادية مختلفة كليًّا عن منطلقات العهد السابق. ثانيًا: أن تتم العودة عن أعمال العهد السابق لعدم توافقها مع منطلقات العهد الجديد. ثالثًا: أن يتم القيام بأعمال جديدة بناءً على منطلقات العهد الجديد.

في المحصلة، فإن أية قطيعة هي مساءلة للمنطلقات الرمزية والمادية، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. وفي ضوء هذا التعريف، يمكن استنباط معنى الامتداد بأنه “عدم مساءلة المنطلقات”.

عليه، يمكن مراجعة نقطتين تستند عليهما نظرية القطيعة لاختبارها: الموقف من المرأة، والتحالف مع الإسلام السياسي في السياسة الخارجية.

شكَّل الموقف من المرأة واحدًا من أهم ملامح عهد الملك الراحل عبد الله بن عبد العزيز، متمثلًا في قانون الانتخابات البلدية الذي ساوى المرأة بالرجل في الترشح والانتخاب. ولقد تم تنظيم الانتخابات البلدية في ديسمبر/كانون الأول 2015، دون الرجوع عن المكتسبات السياسية للمرأة. وقد فازت عشرون سيدة من مختلف مناطق المملكة العربية السعودية في تلك الانتخابات. ورغم ذلك، فلم يتم تعديل أي من قوانين وزارة العمل أو وزارة التجارة المتعلقة بعمل المرأة وظروف وشروط عملها، كما لم يتم التراجع عن تخصيص 20% من مقاعد مجلس الشورى لنخبة من نساء المملكة. وفي هذا الصدد، يمكن القول: إن عهد الملك سلمان يمثِّل امتدادًا لعهد الملك عبد الله.

أمَّا فيما يخص دور الإسلام السياسي في تحالفات السعودية خارجيًّا؛ فقد تحول من موقف متردد بين مواجهة صعود الإخوان المسلمين ومواجهة صعود إيران، إلى حسم القرار عبر إعطاء الأولوية المطلقة لمواجهة إيران. ولهذا ظروفه الموضوعية والتي تمثَّلت في بداية الدولة السعودية الرابعة؛ مما قاد إلى تموضع الرياض في مكان الفعل، لا ردَّة الفعل كما كانت الحال سابقًا. فوصول جيل أحفاد الملك المؤسس عبدالعزيز آل سعود إلى صفوف القيادة الأمامية، واستحداث هيئة البيعة يرمزان إلى تغيرين في طبيعة السلطة وبنيتها(2). كما أنَّ عملية انتقال النظام العالمي من نظام أحادي القطبية إلى نظام لا قطبي قادت إلى غياب التراتبية بين الدول والتصنيف التقليدي للحلفاء والأعداء. وانعكس ذلك على سياسات الدول التي أصبحت تتحرك وفق منطق التهديد الوجودي؛ مما يعني شراسة وضراوة غير مسبوقتين(3). إنَّ مرَدَّ التحول الذي طرأ في علاقة الرياض بالإسلام السياسي (بعد إعطاء الأولوية لمواجهة التمدد الإيراني) هو لبداية عهد جديد يتعلق بالدولة السعودية الرابعة وللتحول في النظام العالمي، وليس لقطيعة بين العهدين السابق والحالي.

الاقتصاد وإدارة الدولة
تحولت إدارة الدولة للسياسة الداخلية والخارجية، تبعًا للتحول في بنية السلطة وطبيعتها (الدولة السعودية الرابعة). هذه التحولات والمشاريع تحتاج لبيئة استراتيجية حاضنة، كاقتصاد قوي ومنتج ودعم مالي ضخم. لكن أسعار النفط المنخفضة عقَّدت من مهمة أجهزة الدولة في توفير الدعم الذي تحتاجه المشاريع الداخلية والخارجية. من هنا، اتخذت إدارة الدولة بُعدًا استراتيجيًّا، وأصبحت كفاءة الأداء بموارد قليلة مسألة أمن قومي بالنسبة للرياض؛ فأي تقصير في الأداء داخليًّا سينعكس بشكل مباشر على قدرات المملكة في حفظ أمنها ودعم دورها على المستويين الإقليمي والدولي.

وفي ظل التحولات التي تشهدها المنطقة، ويشهدها العالم أيضًا، لم يعد بالإمكان الركون لدعم الحلفاء؛ ما جعل العقل الاستراتيجي في الرياض يتبنى تصور «الفرصة الأخيرة». بمعنى أن أي مشروع تبدأه الرياض تتم إدارته وكأنما لا يوجد هنالك فرصة ثانية، فلا خيار سوى النجاح، لأنه لا يمكن الاعتماد على الحلفاء في حالة الفشل. هذا الشعور بالخطر الوجودي يعمل، كما يقول المفكر الاستراتيجي، صامويل جونسون، على تركيز القدرات بشكل عجيب(4). والخطر، كما يجادل المؤرِّخ في الفكر الاستراتيجي، لويس قاديس، هو مدرسة في الاستراتيجية(5).

فللمرة الأولى منذ اغتيال الملك فيصل بن عبد العزيز في عام 1975، تتجاوز إدارة الدولة ظاهرة (theateritis)، كما يسميها المخطط العسكري جورج مارشال(6)، والتي يمكن ترجمتها بـ «تجزئة مسرح العمليات». تعني هذه الأخيرة أن ينظر كل جنرال في احتياجات مسرح عملياته، بشكل منفصل عن الجنرالات الآخرين واحتياجات مسارح عملياتهم؛ مما يعوق النظرة الشمولية للحرب. وفي ضوء هذا التحول، يمكن فهم إلغاء الغالبية العظمى من المجالس العليا في الدولة، وتركيز كل طاقاتها في مجلسين اثنين، هما: مجلس الشؤون الاقتصادية والتنمية ومجلس الشؤون الأمنية والسياسية. وعلى الرغم من ذهاب البعض إلى أن هذه الخطوة هي ذات أبعاد سلطوية، إلا أن التحول في الفكر الاستراتيجي الذي قاد إلى مفهوم «الفرصة الأخيرة» جعل إدارة الدولة تنظر إلى «تجزئة مسرح العمليات» كعائق رئيس يجب التخلص منه، من هنا يمكن فهم سبب إنشاء هذين المجلسين.

في ضوء ما سبق، تبنَّت الإدارة الجديدة في الرياض خطوات جريئة داخليًّا وخارجيًّا؛ فعملية “عاصفة الحزم” في معناها الرمزي هي عنوان للفكر الاستراتيجي السعودي داخليًّا في المقام الأول ثم خارجيًّا في المقام الثاني.

هكذا، يمكن فهم مشاريع الخصخصة التي تمس قطاعات وشركات ذات أهمية كبرى ليس للاقتصاد السعودي فحسب، بل وللاقتصاد الإقليمي والعالمي، كعملاق الطاقة الدولي «أرامكو». لقد اتخذ القطاع الخاص دورًا رئيسًا في هذا السياق، فلأول مرة -منذ بروز اقتصاد وطني على مستوى الدولة في عام 1953 (لحظة توحيد إدارة الدولة تحت سلطة مجلس وزراء واحد، وإلغاء مجلس الوكلاء وتحويل صلاحيات مجلس الشورى التشريعية والتنفيذية لمجلس الوزراء الجديد)- يصبح القطاع الخاص أداة من أدوات السياسة الخارجية، سواءً من حيث توفيره للبنية التحتية الملائمة لدعم دور المملكة العربية السعودية الإقليمي والدولي، أو من خلال حضوره في علاقات الرياض الخارجية.

إذا فهمنا أن هذه التحولات تهدف في المقام الأول لتوفير بيئة استراتيجية قوية لحفظ أمن السعودية ودعم دورها الإقليمي والعالمي، يمكننا فهم الاتجاه الذي تتخذه التحولات الاقتصادية؛ فلقد تبنَّت الرياض خطة اقتصادية طموحة تهدف لتوفير ستة ملايين فرصة عمل خلال الـ 15 عامًا القادمة ورفع دخل الأسرة بنسبة 75%، لمواكبة الزيادة السكانية وتحديات البطالة. وتقوم هذه الخطة على استهداف قطاعات سريعة الإنتاج والعوائد، لأن البيئة الاستراتيجية لحفظ أمن السعودية ودعم دورها بحاجة ماسَّة لعوائد مجدية في أقرب فرصة ممكنة؛ فالرياض بحاجة لما يسمى بقطاعات الإنتاج السريع (low hanging fruits).

في ضوء ما سبق، يمكن فهم الإجراءات الاقتصادية في المدى المتوسط، والتي تهدف إلى تعزيز قدرات الدولة في المقام الأول. ويبدو أن المخططين الاقتصاديين في الرياض يراقبون نتائج هذه الخطة لاستنباط التوجهات بعيدة المدى، والتي يمكن أن تتركز على تعزيز جودة حياة الفرد لتفادي وضع يكون فيه فقيرًا في ظل دولة ثرية.

المستوى الإقليمي

تواجه الرياض تحديين على المستوى الإقليمي، هما: إيران وسياسة المحاور. وللتعامل مع هذين التحديين، تبنَّت الرياض -بعد تولي الملك سلمان مقاليد الحكم في يناير/كانون الثاني 2015- سياسةً ثنائية البِنية للنظام الإقليمي.

العلاقة مع إيران
هنالك تنافس شرس على الزعامة الإقليمية بين الرياض وطهران، ويشكِّل هذا التنافس بحدِّ ذاته تهديدًا للسعودية؛ حيث تسعى إيران للهيمنة على مناطق تماس واهتمام للرياض مما يشكِّل تهديدًا مباشرًا لأمنها، وبالإضافة إلى كونه خطرًا في ذاته، يمثِّل هذا السعي الإيراني للهيمنة تهديدًا على مستوى آخر؛ حيث يستخدم أدوات تشكِّل خطرًا على الرياض وعلى عواصم المنطقة أيضًا؛ هذه الأدوات هي أدوات “اللاعب غير الدولة”.

فبحُكم العقوبات والعُزلة الإقليمية والدولية طوال العقود الثلاثة الماضية، لم تتمكن إيران من استغلال كامل أدوات الدولة القومية (the nation-state). فلجأت إلى أدوات “اللاعب غير الدولة” the non) state-actor(، كحزب الله الحجاز، وحزب الله الكويت، وحزب الله لبنان، وفيلق بدر وجيش المختار في العراق، وجماعة الحوثي في اليمن وغيرها. وهي تعتمد في تحالفها مع هذا “اللاعب غير الدولة” على الطائفية. حيث ينبغي أن يكون الإحساس بالهوية الطائفية عاليًا حتى يتمكن “اللاعب غير الدولة” من الاستقطاب والحركة. وفي نفس الوقت، لابد أن تكون الحكومة المركزية ضعيفة لكي يتمكن “اللاعب غير الدولة” من الفعل والتأثير. في المحصلة، يقود اعتماد طهران على “اللاعب غير الدولة” إلى ضعف الحكومات المركزية، وسيادة جوٍّ عام من الصراع الطائفي وعدم الاستقرار. وتشكِّل هذه البيئة حاضنة مثالية لتمدد التنظيمات المتطرفة “كداعش والقاعدة”، ويعتبر هذا تحديًا مزدوجًا للرياض.

سياسة المحاور
كان النظام الإقليمي قبل بدء ثورات الربيع العربي يتمثل في ثنائية المحاور: محور الرياض من جهة ومحور طهران من جهةٍ أخرى. وبعد انطلاقة الثورات العربية، برز الإسلام السياسي، وواكب ذلك نشاطٌ تركي في محيطها العربي والإسلامي؛ فتحالفت تركيا مع قطر التي ساندت هي الأخرى تيارات الإسلام السياسي التي وصل بعضها إلى هرم السلطة في عددٍ من الدول العربية كتونس (حركة النهضة) ومصر (الإخوان المسلمين) من خلال صناديق الاقتراع؛ ما أدَّى إلى تشكُّل محورٍ آخر، وتمدُّد محور إيران لاسيما بعد التقدم الذي أحرزته على صعيد مفاوضات برنامجها النووي مع الغرب.

موقف الرياض بعد وصول الملك سلمان

تبنَّى فريق الحكم الجديد في الرياض مقاربة منهجية تتمثل في العمل على حرمان طهران من أداتها الرئيسة والمتمثلة أساسًا بـ “اللاعب غير الدولة”، وذلك من خلال تكثيف العمل في مجال مكافحة التنظيمات التي توصف بالمتطرفة والإرهابية كفيلق بدر وداعش وجماعة الحوثي وتنظيم القاعدة. وكان ذلك عبر دعم الحكومات المركزية بدايةً، ثم حسمت الرياض خياراتها الاستراتيجية وتبنَّت تنحية الخلافات مع جماعة الإخوان المسلمين جانبًا. لقد فتح ذلك المجالَ لعودة ثنائية المحاور؛ ما أدَّى إلى تجلِّي التقارب السعودي-القطري-التركي.

يأتي هذا السياق ضمن سياق دولي أعم تمثَّل في صعود عدم القطبية ما أحدث فراغًا في مناطق عديدة من العالم، من بينها الشرق الأوسط. من هنا، يمكن الانطلاق لفهم «التحالف العربي الذي يخوض عملية عاصفة الحزم»، و«التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب»، و«مجلس التعاون الاستراتيجي بين الرياض وأنقرة».

انطلقت عاصفة الحزم في تحالف من عشر دول بقيادة المملكة العربية السعودية ويهدف إلى منع رزوح اليمن تحت نفوذ طهران، وذلك من خلال إعادة الرئيس الشرعي عبد ربه منصور هادي إلى السلطة. فالهدف الرئيس لعاصفة الحزم إذًا هو منع تحول اليمن إلى عراق آخر، تُتخذ قراراته في طهران بدلًا من صنعاء. لكن هنالك هدف آخر على درجة عالية من الأهمية يتمثل في إعادة هيكلة مؤسسات الدولة اليمنية، ويشتمل ذلك على إعادة هيكلة المؤسسات الأمنية وإدماج القبيلة في مؤسسات الدولة، بحيث تصبح جزءًا منها، لا كيانًا موازيًا لها. وبينما تحقق الهدف الأول، وهو منع سقوط صنعاء «كعاصمة عربية رابعة تسيطر عليها طهران»، سيتطلب تحقيق الهدف الثاني وقتًا طويلًا وجهدًا كبيرًا.

يمكن مقارنة انطلاقة عاصفة الحزم بانطلاقة مشروع مارشال في أوروبا، والذي قال عنه جورج كينين: إنه أفقد السوفيت القدرة على المبادرة؛ فعاصفة الحزم أفقدت طهران قدرتها على المبادرة؛ مما يُضعف من موقفها الاستراتيجي.

من جهةٍ أخرى، فقد أعلنت الرياض عن تشكيل التحالف الإسلامي لمكافحة الإرهاب، في 15 ديسمبر/كانون الأول 2015، بقيادة السعودية ومقره الرياض. ولهذا التحالف سابقة. فلقد دعا الملك الراحل، عبد الله بن عبد العزيز، حينما كان وليًّا للعهد آنذاك، لإنشاء مركز دولي لمكافحة الإرهاب في منظمة الأمم المتحدة، أثناء افتتاحه للمؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب الذي عُقد في الرياض في 5 فبراير/شباط 2005، بمشاركة 55 دولة و7 منظمات دولية(7). ولم يبدأ المركز عمله في مقر الأمم المتحدة إلا في عام 2011، تحت رئاسة مندوب الرياض الدائم لدى الأمم المتحدة السفير عبد الله المعلمي، وذلك بعد أن قدَّمت المملكة العربية السعودية تبرعًا بمبلغ 100 مليون دولار(8).

ويهدف التحالف الإسلامي لإنشاء إطار للتعاون في مكافحة الإرهاب، وينطلق من بروتوكول لتبادل المعلومات الاستخباراتية والتواصل المباشر بين الأجهزة المعنية في الدول الأعضاء. وللرياض دورٌ محوري في مكافحة الإرهاب من خلال قدراتها الاستخباراتية وقواعد البيانات المتوفرة لديها. عليه، سيكون من مصلحة الدول الأعضاء في هذا التحالف التعاون بشكلٍ إيجابي مع الرياض بغرض الاستفادة من قدراتها وتعزيز فرص نجاح التحالف. كما يهدف التحالف إلى توحيد الجهود وتركيز الطاقات عبر العمل المنظَّم، على الأصعدة السياسية والاقتصادية والإعلامية والثقافية. وعلى الرغم من كون العمل العسكري ليس هدفًا رئيسًا للتحالف، إلا أنه يفتح المجال للتدخل العسكري تحت مظلة منظمة التعاون الإسلامي.

ولإنشاء التحالف أهداف استراتيجية لا تقل أهمية عن الجانب العمليتي للمركز؛ فلا تزال الدول العربية والإسلامية تصطدم بسؤال الإرهاب على مستويين: الأول: هو تهديد الأمن والمصالح لهذه الدول، والثاني: يكمن في استخدام سؤال الإرهاب لتبرير التدخل والغزو الأجنبي. هكذا، رأت الرياض أن العالم الإسلامي يحتاج لأن يأخذ بزمام المبادرة في هذا المجال. فعلى المستوى الرمزي، تعتبر نشأة التحالف برهانًا على الفصل بين الإرهاب والإسلام. كما يقوم التحالف باحتكار شرعية التدخل في الدول العربية والإسلامية. فمن الصعب -على المستوى الرمزي- أن يتم التدخل من قبل قوى أجنبية دون التعاون مع هذا التحالف. فعدم تعاون القوى الأجنبية يمكن تصوره أو تصويره على أنه حرب على الإسلام والمسلمين، لا على الإرهاب. هكذا يمكن للتحالف الإسلامي أن يحتكر شرعية التدخل.

لكن التحالف الإسلامي الذي أُعلن مؤخرًا عن تأسيسه يواجه تحديات عديدة، أهمها: تعريف مفهوم أو مصطلح الإرهاب، والذي يختلف تعريفه من دولة لأخرى حسب المصالح وطبيعة الأنظمة. ولا يمكن لدولة عضو في هذا التحالف أن تتبنى تعريف التحالف “للإرهاب” في إطار العمل المشترك، ثم تتبنى تعريفًا آخر داخليًّا. وهذا يعني أن يشرعن التحالف، على الأقل نظريًّا، لنوع «ما» من المعارضة السياسية في الدول الأعضاء. مثلًا، إذا لم يتم تصنيف جماعات الإخوان المسلمين كجماعات إرهابية، كما يطالب بعض الدول، فهذا يعني أن مظلة دول التحالف تقبل بها كجماعات معارضة. هكذا يمكن أن تضيق المساحة التي تفصل السياسة الداخلية عن السياسة الخارجية، لأن التعاون في التحالف يتطلب عمل كل دولة على مستويين: داخلي وخارجي، من منطلقات مشتركة، أهمها تعريف الإرهاب.

وفي هذا السياق أيضًا يمكن قراءة «مجلس التعاون الاستراتيجي» الذي أُعلن عن إنشائه في الرياض في 29 ديسمبر/كانون الأول 2015، بين الرياض وأنقرة. وبسبب الاختلافات الجوهرية في النظامين السياسيين (السعودي والتركي) والاختلافات العميقة على بعض ملفات المنطقة، فإن التعاون بينهما يعتمد بشكل أساسي على: تحييد ملفات الاختلاف من جهة والتبادل الآني للمنافع في كل ملف على حدة من جهةٍ أخرى(9). وبذلك يمثِّل هذا المجلس محاولة منظمة لتطوير آليات تمكِّن البلدين من فرز ملفات الاختلاف وتحييدها وتحديد مناطق التعاون الممكنة وتكثيف النشاط فيها.

المستوى الدولي

مع صعود عدم القطبية، يصبح النظام الدولي مهيأً بشكل قوي -كما يقول زبيقنيو بريجينسكي- للفوضى، حيث لم يعد تحكمه قوة مهيمنة، ولا تراتبية سلطوية (Hierarchy). بالإضافة إلى ذلك سيكون من الصعب جدًّا تحديد العلاقات بين اللاعبين وتوصيفها إمَّا بحلفاء أو بمنافسين. بل ستكون العلاقات انتقائية وموضعية/ظرفية(10). لقد شكَّلت أزمة شبه جزيرة القرم البداية الرسمية لهذا النظام الجديد؛ إذ لم يكن لميثاق بودابست، الذي ضمنت القوى الكبرى بموجبه لأوكرانيا أمنَها مقابل تخليها عن أسلحتها النووية، أي قيمة.

لقد استوعبت الرياض الدرس الأوكراني، والذي مفاده أن لا بديل عن القدرات الذاتية. ومع بداية الدولة السعودية الرابعة وانكفاء الولايات المتحدة الأميركية، تقدمت الرياض لتصبح هي خط الدفاع الأول عن أمنها. ويبرز ذلك في التحول الذي طرأ على العلاقات بين الرياض وواشنطن، حيث تتميز هذه المرحلة الجديدة بأمرين؛ الأول: كون السعودية هي خط الدفاع الأول عن أمنها (وليس الولايات المتحدة الأميركية)، والثاني: انتقال التعاون بين الرياض وواشنطن من تعاون طويل المدى إلى تعاون متوسط وقصير المدى، ينحصر في عمليات آنية لتبادل المنافع. فقد تحولت الصفقة القائمة بينهما من «النفط مقابل الأمن» (Oil for Security) إلى مستوى استراتيجي جديد: «صفقة واحدة لفترة واحدة»  (One deal at a time). فمن ناحية، ستحمل أية صفقة بين البلدين تاريخ صلاحية قصير المدة (Short term expiration date). ومن ناحية أُخرى، فإنه بعد انتهاء صلاحية الصفقة، ستتجدد عملية التفاوض على صفقة أُخرى بتاريخ صلاحية جديد ولمدة قصيرة (Renewal of negotiations).

الخاتمة

يمثِّل فهم الوضع الداخلي منطلقًا لأي تحليل يتناول المملكة العربية السعودية. وفي هذا الصدد، فهنالك تحول في طبيعة السلطة وبنيتها، يأتي في ظل تحولات إقليمية وعالمية وتحديات عديدة. في هذا السياق اعتلى الملك سلمان بن عبد العزيز السلطة. وشكَّل عهده نقطة الانطلاق لخطوات جريئة تتعلق بإدارة الدولة اقتصاديًّا وسياسيًّا، ولعدة مشاريع استراتيجية كُبرى على المستوى الإقليمي.

إلا أن هذه التحولات لم يواكبها ما يوازيها، من حيث الأهمية، في المجال الإعلامي والمجال الثقافي. فهنالك كُره منهجي ومنظم للسعودية في الغرب، تعمل لوبيات طهران وتل أبيب على ترويجه مستفيدة من عاملين: الأول: هو صعود أحزاب اليمين المتطرفة ضد المسلمين والعرب، والثاني: هو انفتاح شهية الشركات الغربية الكبرى للسوق الإيرانية بعد توقيع الاتفاق الخاص بملفها النووي في يوليو/تموز 2015؛ ما يجعلها تدعم الجماعات التي تنادي بقطع العلاقات مع الرياض والتحالف مع طهران.

وللتعامل مع هذا الكُره، يجب تعميم تجربة المقرات الإعلامية الخارجية -كلندن لبعض الصحف- لتشمل باريس ومدريد. فالعقل الفرنسي، والذي يقترب منه كثيرًا العقل العربي شمال الإفريقي، يختلف كثيرًا عن العقل البريطاني. فبينما يوجد صحفيون سعوديون مرُّوا بالتجربة اللندنية، لا يوجد شيء يقابله في باريس. التواجد في باريس يعني احتكاكًا مباشرًا بالعقل والثقافة الفرنسية والنخب العربية المتواجدة فيها، والشيء ذاته ينطبق على مدريد.

وفيما يتعلق بالعمل الثقافي، لا تزال السعودية تعاني من قصور عميق؛ ففي الوقت الذي يجول فيه الفنانون والموسيقيون والفلاسفة الإيرانيون عواصم ومدن وقرى أوروبا -كسفراء فكر وثقافة وحضارة- يكتفي النشاط السعودي بحفلات لندن وباريس التي تستهدف الخليجيين السيَّاح هناك. كما أن الموقف من السينما يعوق دور السعودية ومكانتها. فلابد من تطوير مفهوم العروض الفردية، الموسيقية والمسرحية، كما لابد من إجراء معارض فنية وأمسيات وعروض أفلام وثائقية وأفلام درامية، في الغرب.

بالإضافة إلى ذلك، هنالك بعض النقاط التي تشكِّل معضلات مكلِّفة بشكل كبير، كمنع المرأة من القيادة. في أي نقاش ثقافي أو سياسي، يكفي التذكير بأن السعودية هي البلد الوحيد في العالم الذي يمنع المرأة من القيادة. هذا التذكير يوازي في أهميته وتأثيره السلبي حملات إعلامية لسنين طويلة وبمليارات الدولارات. ويمكن القياس على هذا فيما يخص قضايا الحريات المدنية.

ينبغي إدراك أن مواجهة الدور الإيراني ليس في اليمن وسوريا فقط، بل في برلين وباريس ومدريد وروما وواشنطن ونيويورك ولوس أنجلوس. بناء بيئة صديقة ثقافيًّا وإعلاميًّا في الغرب لا يقل أهمية عن عقود السلاح والتمارين العسكرية المشتركة وصناديق الاستثمار السيادية.
_______________________________
منصور المرزوقي – مركز الجزيرة للدراسات

الهوامش
(1) ينطلق الباحث من تعريف محدد للربيع العربي: هذا الأخير، من وجهة نظره، هو تعبير عن أزمة غياب تعريف العلاقة بين الفرد والجماعة من جهة، وبين الشعب والمؤسسة الحاكمة من جهة أُخرى. ووجود هذه الأزمة سابق لانطلاقة الربيع العربي. ولذلك، فإنه لا يمكن تفسير الربيع العربي بوجود هذه الأزمة فقط، بل لابد من سبب آخر يشرح انطلاقة الربيع في هذه اللحظة بالذات. وهذا السبب الآخر، يمكن أن يكون في انفراجة قصيرة ومؤقَّتة تمثَّلت في سقوط أحد أهم أدوات الحكم لدى المؤسسة الرسمية العربية: “النخبة”. حيث تعتمد المؤسسة الرسمية في تبرير وجودها على مفهوم «الخطر» (بشقيه: عودة الاستعمار وبروز الفتنة). وأي تحدٍّ لشرعية العلاقة بين هذا الخطر والمؤسسة الرسمية يتم التعامل معه بشكل رئيس عبر تقسيم الحقول (الديني، الثقافي، الرياضي، الإعلامي…إلخ). لا تبرز الأزمة السياسية، كما يجادل ميشيل دوبري، إلا إذا ثارت الحقول جميعها في نفس الوقت ضد الترتيب السياسي القائم. ولذلك، يتمثل هدف المؤسسة الرسمية الأول في منع التوافق في التوقيت بين الحقول؛ فالتقسيم فيما بينها يصبح ضرورة سلطوية. ويتم التقسيم عبر استقطاب المؤسسة الرسمية لهذه “النخبة” أولًا، وعبر إثارة المعارك الوهمية بين الحقول والنخب ثانيًا. بالإضافة إلى ذلك، تعمل المؤسسة الرسمية على إبراز نفسها بشكل يتعالى عن المصالح والخصومات، وتقديم النخب بوصفهم المسؤولين عن الفشل والأزمات فيكونوا محط اللوم، وهذا ثالثًا. والأغلبية صامتة وتابعة، مفعول بها لا فاعلة. ظاهرة المريدين والأتباع تمثِّل أحد علامات هذا الصمت. واختلاف لغة النخبة الدينية، مثلًا، عن لغة النخبة الثقافية يُعد أهم أدلة التقسيم بين هذين الحقلين. لكن التطورات التقنية في وسائل التواصل عملت على توحيد اللغة بين الحقول أولًا. وبعد أن بدأت الحقول تتحدث اللغة نفسها، لم تعد الأغلبية الصامتة مقسمة بين الحقول، كل حسب ميوله وظروفه، ولم يعد صامتو كل حقل حكرًا على نخبته. وهذا ثانيًا. بعد ذلك أصبح التواصل بين صامتي كل حقل ممكن؛ فنما إرث من الاهتمامات المشتركة التي يتم التعبير عنها بلغة مشتركة؛ فعزَّز ذلك من فرص التعاون الما فوق-حقلي (الذي يتجاوز الحقول). وشكَّلت فرصة التعاون هذه لحظة انطلاق الربيع. ولكن سرعان ما اكتشفت المؤسسة سبيلًا للتأقلم؛ فإذا كان التعاون والحراك يعتمدان على الطاقة السياسية، فإن تبديد هذه الطاقة يصبح هدف المؤسسة الأول.
(2) حول التحول في طبيعة السلطة وبنيتها مما أدى إلى قيام الدولة السعودية الرابعة، وانعكاسات ذلك على السياسة الخارجية، انظر: منصور المرزوقي، «انتقال السلطة في بيت الحُكم السعودي»، مركز الجزيرة للدراسات، 28 يناير/كانون الثاني، 2015 (تاريخ الدخول: 6 يناير/كانون الثاني 2016): http://studies.aljazeera.net/reports/2015/01/2015125113951906273.htm
(3) منصور المرزوقي، «العلاقات السعودية-الأميركية بين قمتي 1945 و2015 »، مركز الجزيرة للدراسات، 10 سبتمبر/أيلول، 2015 (تاريخ الدخول:4 يناير/كانون الثاني 2016): http://studies.aljazeera.net/reports/2015/09/201591094224419752.htm
(4)
John Lewis Gaddis, “What Is Grand Strategy?”, Lecture delivered at the conference on “American Grand Strategy after War,” sponsored by the Triangle Institute for Security Studies and the Duke University Program in American Grand Strategy, February 26, 2009.
(5) ibid.
(6) ibid.
(7) «في افتتاح المؤتمر الدولي لمكافحة الإرهاب بالرياض: الأمير عبد الله يدعو لإنشاء مركز دولي لمحاصرة الإرهاب وتعزيز جهود القضاء عليه»، صحيفة الأهرام المصرية، العدد 43161، 6 فبراير/شباط 2005: http://www.ahram.org.eg/Archive/2005/2/6/ARAB4.HTM
(8) «خادم الحرمين يقدم تبرعًا بمبلغ مئة مليون دولار للمركز الدولي لمكافحة الإرهاب»، صحيفة الرياض السعودية، العدد 16852، 14 أغسطس/آب 2014: http://www.alriyadh.com/960783
(9) منصور المرزوقي، «العلاقات السعودية-التركية: تحول بنية التحالفات الإقليمية»، مركز الجزيرة للدراسات، 15 مارس/آذار، 2015 (تاريخ الدخول: 4 يناير/كانون الثاني 2016): http://studies.aljazeera.net/reports/2015/03/201531510641133787.htm
(10)
Zbigniew Brzezinski, Strategic Vision: America and the Crisis of Global Power, (New York, Basic Books, 2013).