دور “العمي الإدراكي” في تفسير ارتباك “الربيع” العربي

دور “العمي الإدراكي” في تفسير ارتباك “الربيع” العربي

الربيع العربي
بغض النظر عن تباين الإدراكات السياسية، وهو أمر طبيعي يرتبط بمصالح كل طرف من أطراف أي صراع، كما يرتبط بطبيعة الخلفية الأيديولوجية أو السياسية لكل طرف، فإن هذه الورقة تنصب علي مفهومين أساسيين، أولهما: “سوء الإدراك” الناتج عن تغافل الإدراك، وتناقضه مع حقائق موضوعية علي الأرض يمكن بعدها الاختلاف وممارسة الصراع، ثانيهما: “سوء الإدراك المتبادل”، وهو تعبير عن حالة أكثر تعقيدا لا يقتصر سوء الإدراك فيها علي طرف واحد، بل علي أكثر من طرف أساسي من أطراف الصراع، ويصل إلي ذروته حال افتقار كل طرف للإدراك الصحيح لطبيعة الأطراف الأخرى، وإدراكاتها السياسية، وتقدير قوتها وردود أفعالها.
وفي النهاية، تقع أطراف الصراع في حالة من “العمى الإدراكي”، نتيجة عمليات معرفية ونفسية تجعل كل طرف يركز علي حقائق تؤيد منظوره الإدراكي المختزل المسبق للواقع الكلي للصراع، مع تغافل (غير محسوس ولا مقصود) لحقائق أخرى لا تتسق مع هذا الإدراك.
لهذا السبب، عادة ما يعاني أصحاب هذا الإدراك الخاطئ صدمة النتائج المعاكسة لرؤيتهم على الأرض، وهو ما يصل بهم إلي مستوى أكثر تعقيدا، هو مستوى الارتباك الإدراكي الذي ينتهي بحالة من الشلل وعدم القدرة على اتخاذ أي قرار. وتفسر هذه الحالة ظاهرة بطء وتأخر صدور القرار إزاء أزمات ملحة في بعض الأحيان، كما تفسر أيضا صدور القرار، ثم نقيضه في أحيان أخرى، أو صدور قرارات ضعيفة غير حاسمة أو متناقضة داخليا في حالات ثالثة.
بالإضافة لأسباب موضوعية تتعلق بخصوصية التركيب الاجتماعي السياسي المعقد للمجتمعات العربية، فإن “سوء الإدراك”، و”سوء الإدراك المتبادل” بين أطراف الصراع قد لعبا دورا جوهريا لم يتم تسليط الضوء الكافي عليه في خلق حالة استعصاء التوافق بين الأطراف في الصراعات السياسية التي نشبت، ولا تزال، في تجارب “الربيع العربي”، وهو ما انتهي بها لمسارات متعثرة ومتعرجة، بل ومتصادمة، خرجت بها عن المسار النظري المستقر لتجارب التحول الثوري نحو الديمقراطية في العديد من دول العالم منذ تسعينيات القرن الماضي. وسوف تحاول الورقة استكشاف الطرق التي تجلي بها كلا المفهومين، والدور الذي لعباه في تفاقم ارتباك مسار التغيير في المنطقة العربية، مع التطبيق على الحالة المصرية بعد 25 يناير .2011
أولا- خطأ القياس نموذج سابق:
1- نموذج “ربيع” شرق أوروبا:
لكل منطقة حضارية خصوصياتها الثقافية، ولكل مجتمع خصوصيته الاجتماعية والسياسية، ومن الصعب تكرار التجارب. فبداية، أسهمت الطريقة التي تلقت بها النخب الغربية – الرسمية وغير الرسمية، وكذلك غالبية النخب العربية، ما سمي بـ “الربيع العربي”، في إحداث حالة من “العمى الإدراكي” المبكر الذي أعاق التوصل لتشخيص واقعي لتلك العملية الاجتماعية السياسية التي اجتاحت المجتمعات العربية  بدرجات متفاوتة، وبطرق متباينة(1).
تجلي هذا “العمى الإدراكي” في الاستخدام السطحي والمتسرع وغير الدقيق لوصف “الربيع” من الأساس. فلسنوات طويلة، عرفت الدراسات السياسية نظرية “الاستثناء العربي” للتعبير عن استعصاء هذه المنطقة من العالم  على موجات التغيير الديمقراطي -ثورة أو سلما- تلك التي اجتاحت مجتمعات شرق أوروبا قبل أن تمتد لمجتمعات أخرى في أنحاء العالم.
لكن هذه المشابهة المتسرعة تجاهلت أن مجتمعات شرق أوروبا بدأت ربيعها السياسي، انطلاقا من أساس ثقافي تم تحديثه. فبصرف النظر عن التباين السياسي بين نظمها الشمولية ونظم الديمقراطية في غرب أوروبا، فإن هذه المجتمعات عرفت عصر التنوير، بدرجات متفاوتة، الذي أسس لمنظومة قيم ثقافية حديثة قامت على العلمانية والتفكير المدني، وأدركت مخاطر ادعاء الحكم باسم الدين، كما تشربت قيم العقلانية، والواقعية، ونسبية الأفكار. وتدريجيا، تشكل لديها مجتمع مدني، ونقابات قوية، كما قطعت أشواطا حاسمة على مضمار محو الأمية القرائية، والثقافية، والسياسية.
لذلك، كانت مشكلة مجتمعات شرق أوروبا محض مشكلة سياسية محدودة، لا تقتضي سوي التحول من نظام سياسي “حديث” (اشتراكية مركزية الحزب والدولة) إلي نظام سياسي “حديث” آخر (ديمقراطية اجتماعية تعددية). فلا مشكلة ثقافية لدي هذه المجتمعات تقتضي التحول من منظومة قيم ثقافية لأخرى، وهو تحول تاريخي عادة ما يحتاج لفترة زمنية أطول.
على الأرض وفي ميادين التظاهر، كان ذلك يعني وجود كتلة مدنية ذات ثقافة سياسية طامحة لإنجاز أهدافها ومصرة عليها. وفي أروقة التفاوض السياسي، عني أيضا وجود أطراف سياسية قادرة على التوصل لحلول وسط تمثل تقدما، ولو بطيئا، على مضمار التحول نحو المزيد من الديمقراطية والعدالة، كما أنها قادرة أيضا على تفادي الانزلاق للصدام السياسي المطلق، أو للفوضي، أو للحرب الأهلية(2).
والواقع أن المجتمعات العربية لم يكن قد ترسخ لديها هذا المستوى من القيم الحداثية بعد، ولا امتلكت شعوبها ولا نخبها تلك “الثقافة السياسية” الضامنة لإنجاز التحول نحو الديمقراطية والعدالة. فقد منعت هذه الحالة المتسرعة من “القياس على نموذج سابق” رؤية أو توقع  الأدوار الرئيسية التي لعبتها عوامل تقليدية كامنة في النسيج الاجتماعي لمجتمعات الربيع العربي(3)، خاصة القبلية، والطائفية، وضعف الثقافة السياسية، وتخلفها كمعوقات أمام ازدهار ربيع ديمقراطي سريع، خاصة في اليمن وليبيا. كما كشفت الحالة السورية عن الدور السلبي الذي يمكن أن يلعبه جيش طائفي قمعي يدين بالولاء للنظام قبل الوطن.
وأدت كل هذه العوامل التي لم تكن مرئية ولا مقدرة إلي دخول هذه المجتمعات حالة الحرب الأهلية، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، ظهرت حركات الإسلام السياسي والجهادي في بعض المجتمعات العربية كمعوق إضافي في نظر البعض، وهو متغير داخلي آخر لم تعرف تجارب “الربيع” في العالم نظيرا له. أخيرا، تسببت هذه الحالة من “العمى الإدراكي” في التغافل عن شرط الدعم الغربي المباشر والحاسم لربيع شرق أوروبا، وهو دعم لم يتوافر للربيع العربي.
2- النموذج الثوري القديم (يوليو 1952):
المثال الثاني لخطأ “القياس على نموذج سابق” تمثل في هيمنة النموذج الثوري القديم على إدراك الثوريين في ميادين “الربيع” العربي، والمقصود هنا نموذج ثورة يوليو 1952 في صورته المجردة، أي أن أحد أطراف الصراع السياسي يتمكن من السيطرة على الحكم، عقب هزيمة نهائية سريعة وسهلة نسبيا على الطرف الحاكم، وبالتالي يتمكن الحكام الجدد من إحداث تغييرات ثورية جذرية فورية في بنية النظام: الإصلاح الزراعي، تمصير ثم تأميم المصانع والشركات … إلخ.
هيمنة هذا النموذج القديم أعاقت إدراك ثوار “الربيع العربي” لحقيقة أن المجتمعات أصبحت أكثر تعقيدا، مقارنة بحقبة الخمسينيات من القرن العشرين، حيث تزايد دعم النظامين الدولي والإقليمي للنظم الحاكمة، حماية لشبكة من علاقات المصالح الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجية، بحيث لم يعد الإسقاط “الفوري والنهائي” لتلك النظم ممكنا بالبساطة القديمة نفسها، وأنه يمكن تقييم مدي نجاح الثورات الجديدة، وفق “نظرية الفراشة” التي تري أن هزة جناح فراشة في أقصي الأرض يمكن أن تحدث تأثيرات بالغة في الكون كله.
فهل كان ما حدث في “الربيع” العربي أقرب إلي ثورة تحريك؟، وهل كان تأثيرها السياسي، والثقافي، والمعنوي من القوة بحيث ينتج تتاليات “ثورية” عبر فترة زمنية ممتدة؟، وهل نجحت في فرض أول انتخابات ديمقراطية غير مزورة؟، وهل فتحت الباب أمام حق تشكيل الأحزاب لكافة القوى السياسية؟. يفسر افتقاد القوى الثورية، وكذلك الملايين التي احتلت الميادين لهذا الإدراك للمعني الجديد للثورات، حالة الإحباط السياسي العمىق لدي هؤلاء الذين اعتقدوا، وفق معيار قديم، أن عدم تمكن الثوار من السلطة هو بمنزلة الدليل القاطع على هزيمة الثورة.
3- النموذجان الإيراني والتركي:
أما المثال الثالث لسوء الإدراك الناتج عن خطأ القياس على نموذج سابق، فيتعلق بالإدراك السياسي لجماعة الإخوان المسلمين، ومن ورائها التيار الإسلامي في مصر. وقع الإخوان تحت التأثير المباشر لنموذج وصول حزب العدالة والتنمية للحكم ديمقراطيا في تركيا حينا، ونموذج وصول الثورة الإيرانية للحكم بعد ثورة شعبية عنيفة حينا آخر. والأرجح أن عدم حسم الإخوان تبني أحد النموذجين والتردد فيما بينهما كان أحد تفسيرات سقوطهم. ويكشف تتبع السلوك السياسي للإخوان من بداية الثورة عن خليط مرتبك من المحاكاة للتجربتين. فعلى خلاف النموذج الثوري الإيراني، أدت هرولة الإخوان للتفاوض مع عمر سليمان (مدير جهاز المخابرات العامة الأسبق) إلي فقدان مكانتهم كقوة يمكن أن تقود الثورة.
وعلى الرغم من أن الإخوان بدوا وكأنهم الطرف السياسي الأكثر استعدادا للدخول في حوار، وربما تنسيق سياسي مع المجلس العسكري (الذي أدار السلطة بعد سقوط نظام مبارك في 2011) لدرجة فوزهم مع تحالفهم السياسي في أول انتخابات برلمانية أشرف الجيش على إجرائها، فإنهم في الوقت ذاته لجأوا مرارا لأساليب “الثورة الثقافية” التي اعتمدت العنف السياسي والاجتماعي الشعبي في إيران، مستخدمين أعضاءهم حينا، أو جماعات متطرفة وعنيفة حليفة في التيار الإسلامي حينا آخر، بداية من العنف السياسي ضد القوى المدنية للسيطرة على المنصات في الميدان، وقت ثورة يناير، وانتهاء بوقائع العنف في قصر الاتحادية، مرورا بحصار المحكمة الدستورية العليا، ومقر النائب العام، ومدينة الإنتاج الإعلامي خلال عام .2012
ثانيا- التضارب الإدراكي .. الإخوان والدولة:
بالإضافة لصحة مدخل تضارب المصالح بين الإخوان ومجمل التيار الاسلامي كصاعد اجتماعي وصل للسلطة، وأطراف عديدة اجتماعية سياسية ككبار رجال أعمال عصر مبارك، المستمرين حتي الآن، وكذلك مؤسسات الدولة، وعلى رأسها الجيش، والأمن، والقضاء، وبيروقراطية الدولة، فإن “التضارب الإدراكي” كان له نصيب لا يمكن إنكاره في تفسير وصول العلاقة بين الطرفين إلي مرحلة الصدام.
ولعل أبرز الأمثلة على ذلك ما تكشف تدريجيا من أن تباين إدراك الإخوان لمسألة الهوية، بحسبانها هوية دينية تسبق الهوية الوطنية، لم يكن مجرد تباين أيديولوجي نظري، بل بدأت تظهر تجلياته في مفهومهم للأمن القومي، وهو ما تجلي فيما أظهروه من تساهل في مسائل حدود الدولة، سواء في سيناء، أو حلايب وشلاتين. هذا الإدراك تعارض بشكل جذري مع ما هو مستقر حول مفهومي الأمن القومي، وقدسية حدود الوطن لدي عموم المصريين، وفي المؤسسة العسكرية بشكل أخص، إضافة لما ظهر من خلاف حول الطريقة التي يتخذ بها قرار المشاركة في حروب خارج الحدود، ولو في الجوار العربي، وهو ما برز مع تلميح الرئيس مرسي بمشاركة قوات مصرية لمساندة أطراف إسلامية في سوريا.
ويلاحظ أن انكشاف هذا الخلل في إدراك الإخوان للمفهوم المستقر للأمن القومي وحدوده قد دخل بشكل مؤثر في تطور الثقافة السياسية للمصريين، وأثر بشكل حاسم في عملية إعادة تقييم قطاعات متزايدة من المصريين للإخوان، مما انتهي بثورة شعبية على حكمهم في 30 يونيو 2013.
ثالثا- خطأ الاحتكام للمنطق الصوري:
مثل تصاعد المعارضة السياسية، خلال الفترة الأخيرة لحكم مرسي وجماعة الإخوان، التي وصلت إلي ذروتها خلال أحداث 30 يونيو، و3 يوليو، و26 يوليو في عام 2013، حالة نموذجية لـ “التضارب الإدراكي”. فبناء على نوع من “المنطق الصوري”، سارعت دوائر غربية تضم حكومات ومراكز تفكير ونخب ثقافية بتبني وصف “الانقلاب”، بناء على توافر صورة استيلاء قوة عسكرية على السلطة وإبعاد رئيس منتخب عنها دون عملية ديمقراطية. ويلاحظ هنا أن القطاع الغالب من النخبة السياسية المصرية لم يتبن هذا الوصف الذي كان يعكس إدراكا جزئيا لم يضع في حسبانه الملايين التي خرجت للميادين ضد مرسي والإخوان.
يرجع هذا التهوين الغربي من البعد الشعبي لحدث 30 يونيو إلي عدم قدرة تلك الدوائر على تقبل فكرة حدوث تحول دراماتيكي سريع نسبيا في الاتجاه الرئيسي للإدراك السياسي للرأي العام المصري. وثمة عاملان رئيسيان يمكن أن يفسرا الأمر، أولهما أن المصريين، كأفراد وكجماعة وطنية، لم يعرفوا فكرة المسئولية السياسية بشكل حقيقي إلا منذ 25 يناير 2011، بعد تاريخ طويل ظلوا خلاله مفعولا بهم. ثانيهما: عدم تجربة المصريين وجود جماعة كالإخوان المسلمين في الحكم من قبل. يفسر هذان العاملان حالة عدم الاستقرار والهشاشة التي طبعت الرأي العام السياسي المتقلب في مصر منذ 25 يناير(4). فبغض النظر عن الكتلتين الثابتتين: المؤيدة للإخوان والمعارضة لهم، ثمة كتلة رئيسية متوترة متقلبة هي التي صوتت لمصلحة الإسلاميين في أول انتخابات برلمانية ورئاسية بعد ثورة يناير، قبل أن تتظاهر ضدهم في الميادين في 30 يونيو.
وبغض النظر أيضا، هنا، عن الفكرة الديمقراطية الأصيلة الرافضة لأي تدخل عسكري خارج ضوابط العملية الديمقراطية ذاتها، فإن الإدراك الغربي لم يتمكن آنذاك من تقدير طبيعة العلاقة الخاصة بين الشعب والجيش في مصر، والتي تفسر ظاهرة التأييد المليوني لتدخل الجيش في 3 يوليو (التظاهرات المليونية في 26 يوليو 2013)، كما فسرت قبل ذلك حالة القبول العام  حتي من قبل القوى الليبرالية، بل والإخوان أنفسهم،  لتفويض مبارك للمجلس العسكري لإدارة شئون البلاد في 11 فبراير 2011، وأيضا تفسر تحول عبد الفتاح السيسي وزير الدفاع، إبان 30 يونيو، إلي بطل شعبي لدي المصريين بشكل ربما تجاوز إدراك الجيش والسيسي نفسه.
رابعا- خطأ تثبيت الصورة .. عدم إدراك التغيير:
لأسباب اجتماعية داخلية، ولأسباب خارجية ذات طابع استراتيجي، أصبحت المنطقة العربية الأكثر تعرضا للتغيرات المتسارعة. وعلى الرغم من ذلك، فإن أحد ملامح الإدراك السياسي العربي -إن جاز التعميم- هو افتراض ثبات الأوضاع، والافتقار للقدرة على التقاط إرهاصات التغيير مبكرا.
فباستثناء الدول النفطية التي سمحت وفوراتها الاقتصادية بتأجيل انفجار تناقضاتها الداخلية، وكذلك النظم الملكية غير النفطية التي تمكنت نسبيا من تحقيق الاستقرار كالأردن، أو الإصلاح السياسي كالمغرب، فإن هذه النزعة الإدراكية لتثبيت اللحظة المجتمعية، والعجز عن إدراك إرهاصات التغيير تجلت لدي معظم النظم العربية التي فوجئت بنزول الملايين لميادين “الربيع العربي”. في الحالة المصرية، يمكن لهذه النزعة تفسير استمرار نظام مبارك في تزوير انتخابات 2010، وتماديه في الإعداد لمشروع التوريث، حيث افتقر النظام القدرة على إدراك إرهاصات التململ والإحباط التي ولدت انفجار يناير. من ناحية أخرى، وقع الإخوان المسلمون في خطأ تثبيت صورة “الأغلبية الشعبية المؤيدة” لهم، بناء على حقيقة كونهم التنظيم السياسي الأكثر عددا وتنظيما، ولذلك لم يتمكنوا من توقع إمكانية خروج الملايين وراء فكرة الثورة المدنية المطالبة بالعدل والديمقراطية في ثورة يناير.
وعلى الرغم من أن الإخوان تمكنوا تدريجيا من تجاوز هذه الصدمة الإدراكية الأولي، فإنهم عادوا لتكرار الخطأ ذاته حين ثبّتوا اللحظة مرة أخرى، وعجزوا عن إدراك حدوث تحول سريع في الثقافة السياسية للملايين التي أسقطتهم في الميادين في 30 يونيو، بعد أن كانت غالبيتهم قد صوتت لهم في أول انتخابات برلمانية ورئاسية بعد الثورة. أما التثبيت الثالث الذي وقع فيه الإخوان، فكان يتعلق بتثبيت صورة المجلس العسكري وكافة مؤسسات الدولة، بناء على ما أظهرته هذه المؤسسات من ارتباك في إدارة الصراع السياسي الذي تفجر منذ يناير. أساء الإخوان تقدير القوة الكامنة لمؤسسات الدولة، وعلى رأسها المؤسسة العسكرية ومكانتها لدي المصريين، وعجزوا عن الفصل بين هذا المعني ونقد المصريين للأداء الإداري، وحتي السياسي لتلك المؤسسات، تماما كما عجزوا عن التمييز بين لحظة ارتباك مؤقتة، وحالة عجز دائم وأصيل.
لم يدرك الإخوان عملية التغيير التي تجاوز المجلس العسكري بمقتضاها فترة الارتباك الأولي، وقدرته تدريجيا على توظيف مؤسسات الدولة، وقوى سياسية متعارضة، في إطار خطة واحدة لإسقاط الإخوان، واستعادة الدولة. والأهم أن الإخوان فوجئوا بأن الملايين لم تخرج فقط لإسقاطهم، ولكن بعد أن تغير خيارها السياسي في اتجاه الحفاظ على مؤسسات الدولة، وتفادي الحرب الأهلية.
بغض النظر عن القطاع من الشعب المؤيد للإخوان، والرافض لمسار 30 يونيو، فإن الكتلة الشعبية المؤيدة لهذا المسار كانت قد اتخذت قرارا جمعيا غير معلن بإعطاء النظام الجديد الفرصة الزمنية الكافية لتحسين الأوضاع، إضافة لقرار جمعي آخر، مؤداه إعطاء الأولوية في هذه المرحلة لتحقيق الاستقرار الأمني، وبدء خطط لتلبية التطلعات الاقتصادية والاجتماعية، مع إرجاء المطالب السياسية الخاصة بالديمقراطية والحريات إلي حين.
ولكن على الرغم من احتفاء الخطاب الرئاسي بعد انتخاب السيسي رئيسا بثورتي يناير ويونيو، وتأكيده تواصلهما، ورفضه لأي مظهر من مظاهر الصراع بينهما، فإن بعض الأصوات -التي ينظر لها بحسبانها غير بعيدة عن الموقف الرسمي ومتحالفة مع بعض مراكز مصالح عصر مبارك العائدة إلي المشهد- تعبر عن تهوين مبالغ فيه لتحولات الوعي الشعبي والسياسي بعد 25 يناير. إذ إنها تتصرف وكأنه من الممكن تثبيت التاريخ عند أوضاع ليلة 24 يناير 2011، واستئناف المسار السياسي والاقتصادي للبلاد بعد 30 يونيو، وكأن الوعي والثقافة السياسية للمصريين لم يتغيرا مع تراكم الخبرات السياسية لثورة يناير حتي إسقاط حكم الإخوان، وهو استقطاع غير ممكن للجزء الأهم والأكثر حيوية وتأثيرا في الإدراك السياسي لعموم المصريين، كل حسب موقعه من الصراع الاجتماعي السياسي، سواء أكان مؤيدا لهذه الثورة أم تلك، أو لكلتيهما معا(5).
ويكمن الخلل الإدراكي هنا في عدم إدراك الطابع المؤقت والمشروط للموقف الشعبي بتعليق الفعاليات السياسية والفئوية منذ 30 يونيو وما بعدها، بل تثبيته، وكأنه ينبغي أن يتحول لحالة دائمة، دون قدرة على رصد المؤشرات الدالة على أن هذا التأييد الشعبي بدأ يتراجع، ودون تقدير لخطورة دخول قطاعات شعبية متزايدة في دائرة الفتور والإحباط السياسي، نتيجة تأخر الوعود، والتطلعات الاقتصادية والاجتماعية، خاصة التي صاحبت مناخ 30 يونيو. بالإضافة إلي ذلك، فإن قطاعا مؤثرا من شباب المدن بوجه خاص بدأ يعرب بشكل متزايد عن تململه من توسع دور الأمن ليتخذ بشكل متزايد صورة تستدعي مناخ إلغاء الحريات، وتعدد الآراء، وتأميم المجالين السياسي والإعلامي.
على المستوى الاقتصادي، لا يزال قطاع من رجال الأعمال يعتقد بصحة مسار نظام مبارك اقتصاديا واجتماعيا، كما كان دون أدني تغيير، بل يعتقد في أن المشكلة لم تكن تكمن في الخلل البنيوي لمسار ونظام اقتصادي حقق معدلات تنمية تجاوزت 7 دون أن تصل عوائده للشرائح الدنيا والوسطي في المجتمع، ولكنها كانت تكمن في تردد هذا المسار، وأن الافضل هو الإقدام بجرأة أكبر على المزيد من دعم شريحة احتكارية ضيقة من رجال الأعمال ترفض تقديم أي تنازلات يطلبها الرئيس لمصلحة انتشال الاقتصاد، والطبقات الدنيا والوسطي، في الوقت الذي تطالب فيه فقط بالمزيد من الإجراءات التقشفية على تلك الشرائح.
وبشكل مواز، لا تزال نخبة أمنية تعتقد في أن المشكلة لا تكمن في ضعف المنظومة الديمقراطية، وافتقادها الحيوية، بل إنها كانت تكمن في الرخاوة السياسية والأمنية لنظام مبارك التي انتهت بتفاقم الأوضاع. يتشارك هؤلاء وأولئك في الاعتقاد بأن شعبية الرئيس ومصداقيته هي مجرد فرصة سياسية ينبغي استثمارها لتمرير المزيد من الإجراءات القاسية اقتصاديا وأمنيا.
خامسا- التناقض الإدراكي حول مدي التغيير المطلوب:
بداية، ثمة تناقض جوهري بين الدولة والمجتمع في الإدراك السياسي لطبيعة الهدف الأساسي الملح والضروري الذي ينبغي أن يحكم سياسات الدولة المصرية في اللحظة الراهنة. إذ يهيمن على الدولة تصور شديد الواقعية والتحفط، يرتكز على فكرة تفادي سقوط الدولة، ومواجهة المخاطر الخارجية، واستعادة الاستقرار الأمني، وعودة عجلة الاقتصاد للدوران.
يتسم إدراك الدولة بنهج دفاعي يكتفي بتثبيت الأوضاع على ما هي عليه، وأن مجرد استقرارها يعد إنجازا، وهي الرؤية التي تم اختزالها من قبل مؤيديها في صورة عبارات من قبيل “أفضل من سوريا وليبيا” … إلخ. في المقابل، عانت الشرائح الدنيا والمتوسطة سنوات طويلة الحرمان الاقتصادي، ومشاعر مكتومة بالظلم الاجتماعي، وتوقا عارما للحرية. وتكمن الأزمة في التناقض الحاد بين هذين المستويين من الإدراك، فيسود الدولة اعتقاد بأن لا حل سوي سنوات أخرى من العمل الشاق، والصبر، وإرجاء الطموحات، وأنه لابديل سوي ذلك. في المقابل، ثمة شواهد ومؤشرات على أن استمرار تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية لم يعد ممكنا، وظهور الدولة في صورة مرتبكة الأداء في الأزمات المتتالية لم يعد محتملا، وأن صبر القطاعات الهشة اقتصاديا واجتماعيا، وكذلك الشباب، قد بدأ ينفد.
في مثل هذا الظرف السياسي، يكمن الحل في أن يقدم النظام أدلة دامغة للشعب على أن الأمور تسير في الاتجاه الصحيح، وأن نيات الإصلاح الحقيقي متوافرة. ولكن المشكلة أن تحليل الإدراك السياسي للدولة يبدو وكأنه يفتقر لأي نية أو جرأة على المخاطرة بإحداث تغييرات هيكلية في النظام الاجتماعي، والاقتصادي، والسياسي، وهو ما يتطلب توجها نحو إحداث إصلاحات جذرية في مجالات الانفتاح السياسي، وتوزيع أكثر عدالة للعوائد الاقتصادية، وتغييرات هيكلية في بيروقراطية الدولة، ومواجهة الفساد … إلخ، وهي تغييرات يبدو أنها الوحيدة القادرة على توصيل رسالة مؤثرة للشعب بأن الإصلاح الحقيقي قادم، ولو بعد حين، مهما تكن الصعوبات التي قد تواجه عملية تجسيد هذه التغييرات على الأرض.
الهوامش:
(1) حول رؤية العالم للثورات العربية، انظر: مصطفي علوي، كيف يتعامل العالم مع الثورات العربية؟، مجلة “السياسة الدولية”، عدد 184، أبريل 2011، ص36 -41.
(2) يرجع اهتمام الفكر السياسي العربي بنموذج التحول الديمقراطي عبر الثورات السلمية في شرق أوروبا خاصة إلي ما قبل وقوع الثورات العربية. انظر على سبيل المثال:
– سامح فوزي وآخرون، حركات التغيير الديمقراطي بين الواقع والطموح: خبرات من شرق أوروبا والعالم العربي، مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، القاهرة، 2007.
– نادين عبدالله، الانتقال الانتخابي للسلطة والتحول إلي النظام الديمقراطي في أوروبا الشرقية، منتدي البدائل العربي، القاهرة، 2008.
(3) على العكس من التحليلات السياسية المكثفة، ثمة كتابات قليلة اهتمت بالأبعاد السوسيولوجية للثورات العربية. انظر على سبيل المثال:
– Mounia Bennani-Chraibi et al., Towards a sociology of revolutionary situations: Reflections on Arab uprisings, Presses de Sciences Po, Revue franaise de science politique (English- 5/2012 – Vol. 62  pp. 1-29.
(4) للمزيد حول ظاهرة تقلب الرأي العام في الحالة المصرية، انظر: فؤاد السعيد، شعب متقلب: حالة كتلة 30 يونيو وتحولاتها، دورية “حالة مصر”، المركز الإقليمي للدراسات الاستراتيجية، القاهرة، أبريل .2014
5- رصدت بعض الكتابات العديد من الصعوبات والعراقيل أمام إمكانية استمرار هذا الارتداد التاريخي لأوضاع ما قبل يناير .2011 انظر على سبيل المثال: جميل مطر، الثورة في مصر: التحولات الكبرى وأدوار اللاعبين، مجلة الدراسات الفلسطينية، مؤسسة الدراسات الفلسطينية، بيروت، العدد 98، ربيع 2014، ص ص7-.15

 فؤاد سعيد
مجلة السياسة الدولية