ايديولوجيا تنظيم الدولة: التركيبة البعثية السلفية

ايديولوجيا تنظيم الدولة: التركيبة البعثية السلفية

تنظيم الدولة

خطاب الحق والمشروعية والتناقضات البينية

كل الجماعات الجهادية منذ تجاربها الأولى في الستينات كانت تهدف إلى الوصول للحكم وتحكيم الشريعة من خلال العمل الجهادي ضد السلطة، ومرَّت هذه التجارب الأولى بمنحنيات مختلفة وصلت ذروتها في رؤية كاملة للسيطرة على الدولة في مصر على يد الجماعة الإسلامية، وأدت هذه الرؤية إلى اغتيال الرئيس السادات في أول الثمانينات، ولعل أكبر خسائرها كان في نجاحها، فالنجاح يصوِّر لصاحبه أنه على صواب (1).

وكل الحركات الجهادية التالية سواء ما نشأ عن الجهاد الأفغاني من تطور في اتجاه تأسيس القاعدة أو إمارة طالبان أو ما ظهر مؤخرًا في الدولة الإسلامية؛ كلها كان الهدف منها تأسيس دولة إسلامية تحكمها الشريعة الإسلامية وتسعى لإعادة الخلافة.

لكن الدولة الإسلامية بإعلان الخلافة وتنصيب البغدادي خليفة للمسلمين أظهرت تناقضًا مع الفكر السلفي الجهادي نفسه الذي تنتمي إليه، فكان الخلاف على إعلان الدولة الإسلامية وتسميتها بدولة الخلافة، ولم يكن الخلاف حول تأسيس إمارة إسلامية أو حتى دولة إسلامية على رقعة جغرافية محدَّدة على غرار طالبان في أفغانستان التي يبايعها تنظيم القاعدة بوصفها إمارة أو دولة إسلامية.

وبالعودة للأدبيات التنظيرية للجماعات الجهادية، نجد أنه ليس هناك خلاف على السيطرة على الأرض وإعلان الدولة في فكر القاعدة ما توفرت الشروط والمقومات لذلك؛ يظهر ذلك بوضوح في الرسائل بين أسامة بن لادن وناصر الوحيشي عند الجدل حول إعلان الدولة الإسلامية في اليمن وقد رفض أسامة ذلك ليس من باب المبدأ ولكن من باب الظرف الوقتي وعدم توفر الإمكانيات اللازمة رغم إقراره بصلاحية الأرض جغرافيًّا، وقدرة الأفراد على إدارة المنطقة التي يعلنون فيها إمارة ولكن التقديرات السياسية اقتضت رفض أسامة لهذه الخطوة (2).

كذلك ينظر أبي مصعب السوري، أحد أهم منظِّري القاعدة، وهو الذي نظَّر لفكرة الخلايا التي تعمل على حروب النكاية، ويرى أنه لا يكون للمجاهدين أرض ولا دولة بل ينتشرون في الأقطار “الفرد منهم خلية قادر على إيلام قوى الهيمنة والاستعمار في أي مكان”؛ إلا أنه يذهب في كتابه “المقاومة الإسلامية العالمية” إلى أن هذا لا يمنع من إقامة دول وإمارات ما توفرت مقومات ذلك من جغرافيا وإمكانات بشرية ومادية وحاضنة شعبية (3).

والقاعدة نفسها حثَّت على خطوة إعلان دولة إسلامية في العراق؛ ففي خطاب للظواهري، في 2005، أرسله للزرقاوي بأن يسارع بإعلان الدولة الإسلامية في العراق حيث إن الظروف ملائمة لذلك برغم بيعة القاعدة في ذات الوقت لطالبان والملا عمر باعتباره أميرًا للمؤمنين، ولم يكن هناك تناقض من هذا المنظور في إنشاء وتأسيس إمارات ودول إسلامية موازية (4).

لذلك، لم يكن هناك خلاف بين القاعدة ومنظِّري الفكر الجهادي على مسألة تأسيس الدول والإمارات الإسلامية، ولم يكن تنظيم الدولة الإسلامية بدعًا من ذلك بل امتدادًا طبيعيًّا ولكن كان الخلاف على إعلان الخلافة الإسلامية، بمعنى الدولة التي لها حق البيعة والطاعة على كل العاملين في الحقل الإسلامي فضلًا عن المسلمين أجمعين؛ فأبو محمد المقدسي (5) أوضح ذلك في نقده لإعلان الخلافة بقوله: “الذي يهمني جدًّا هو ماذا سيرتِّب القوم على هذا الإعلان والاسم الذي طوَّروه من تنظيم إلى دولة عراق ثم إلى دولة عراق وشام ثم إلى خلافة عامة؛ هل ستكون هذه الخلافة ملاذًا لكل مستضعف وملجأ لكل مسلم؛ أم سيُتخذ هذا الاسم سيفًا مسلَّطًا على مخالفيهم من المسلمين؛ وليُشطب به جميع الإمارات التي سبقت دولتهم المعلَنة، ولتُبطل به كل الجماعات التي تجاهد في سبيل الله في شتى الميادين قبلهم؟ إن الإخوة في القوقاز سبق لهم إعلان إمارتهم الإسلامية، وكذلك حركة طالبان، ولم يرتِّبوا على ذلك شيئًا يلزم عموم المسلمين في نواحي الأرض ولا سفكوا لأجل هذا الاسم أو به دمًا حرامًا، فما هو مصير سائر الجماعات المسلمة المقاتلة المبايَع لها من أفرادها في العراق والشام؟ (6).

وبرغم ما يبدو في هذا الإعلان من دافع سياسي أكثر منه أيديولوجي؛ إلا أنه تنبني عليه مشروعية دينية للدولة الإسلامية باعتبارها الخلافة التي تتناقض بيعةُ أميرها باعتباره أمير المؤمنين وبيعة أخرى، وبالتالي احتكار العمل الجهادي الإسلامي بل ومطالبة الحركات الجهادية ببيعته؛ ما أنتج تناقضًا وخلافًا تحوَّل فيما بعد إلى اقتتال بين المجموعات الجهادية المختلفة وتلك التي بايعت الدولة الإسلامية.

لم يكن هذا التطور امتدادًا طبيعيًّا للفكر الجهادي بل كان شذوذًا عن قاعدة العمل الجهادي المشترك القاضي بأن تتعاون الجماعات الجهادية العاملة، ما استطاعت، في ما كان مشتركًا ويسعها العذر فيما اختلفت، طالما كانت الوجهة والهدف المشترك واحدًا دون هيمنة فصيل على آخر.

هذا التناقض له جذوره ولم يكن وليد اللحظة؛ لكن التطور الذي لحق تشكيل تنظيم الدولة الإسلامية عبر مراحل مختلفة عزَّز من التباعد بين الدولة الإسلامية والقاعدة، وأدى إلى تقارب والتقاء مع المجموعات البعثية؛ مما بنى خطًّا جديدًا له جذوره وخطابه السلفي وحركته واستراتيجيته البعثية، يمكن أن نلحظه من تتبع أهم مراحل تشكُّل الدولة الإسلامية.

الابتعاد عن القاعدة والتقارب مع البعثيين

ظهر التباين في الرؤى والاختلاف الفكري بين القاعدة المركزية والقاعدة في العراق مبكرًا، وكانت البداية حركة التوحيد والجهاد التي أسَّسها الزرقاوي ثم بايع الزرقاوي أسامة بن لادن لتصبح القاعدة في العراق؛ ولم تكن رؤية الزرقاوي مطابقة للقاعدة؛ ففي حين تُركِّز القاعدة على الأميركان في العراق تتجه أنظار الزرقاوي لثلاثة أهداف بالتوازي، هي: الأميركان والأردن والشيعة (7).

اعتمد التكوين القيادي في القاعدة في العراق على العلاقة بأبي مصعب الزرقاوي والذي انتهج الثقة الشخصية مع مقاتلين جهاديين سابقين حضروا الجهاد الأفغاني أو انتظموا في أيٍّ من الحركات السلفية الجهادية، بالإضافة لقيادات عراقية انضمت لحركة الزرقاوي ومنهم أحد البعثيين الذي كان في قيادة التوحيد والجهاد ثم القاعدة في العراق وهو أبو طلحة الموصلي (8)، واعتمدت على مقاتلين أجانب من الأردن ومصر والسعودية وبلاد المغرب العربي ومواطنين محليين عراقيين.

قبيل وفاة الزرقاوي شكَّل مجلس شورى المجاهدين كمحاولة لتوحيد التمرد الجهادي، وخلَفَه أبو حمزة المهاجر –مصري الجنسية- والذي أتمَّ خطوة مجلس شورى المجاهدين بإعلان الدولة الإسلامية في العراق وإعلان أبي عمر البغدادي أميرًا لها (9).

خفَّف تولي المهاجر قيادة القاعدة في العراق الكثير من التوترات بين القاعدة المركزية وفرعها في العراق، لشعور القاعدة أن الزرقاوي هو صاحب التوجهات التي تنتهجها القاعدة في العراق من وحشية شديدة وعدم صون للدماء وطائفية؛ لأن القاعدة كانت ترى أن توجهاته تخصم من رصيدها وقبولها.

ثم جاءت خطوة إعلان الدولة في العراق وتعيين أبي عمر البغدادي أميرًا لها لكونه عراقيًّا وأصبح المهاجر نائبًا له، وهي الخطوة التي واكبتها رغبة في السيطرة على الساحة الجهادية مما عزَّز من التصادمات مع العشائر السنية والحركات الجهادية الأخرى بسبب محاولة السيطرة على الأرض وإخضاع الجميع لإمرتها، وكانت هناك نتيجة أخرى مهمه تمثَّلت في زيادة العنصر العراقي من المقاتلين والقيادات.

باتت ملامح الدولة الإسلامية في العراق أكثر وضوحًا بسبب دورها في ملء فراغات السلطة في المناطق العراقية السنية، بما يحتاج ذلك من خبرة بالمناطق ومعلومات، ووجود تنظيم إدارة دولة بشكل شبه كامل، والقدرة على توفير تمويلات كبيرة وصلت لأكثر من 100 مليون دولار سنويًّا (10).

وبرغم نصائح القاعدة المركزية باستمرار بعدم الدخول في صدامات مع العشائر وأن تتم خطوة إقامة الدولة بالتشاور مع الحركات الجهادية الأخرى والسير قدمًا في توحيد العمل الجهادي؛ إلا أن رؤية الدولة الإسلامية في العراق كانت تعطي الأولوية للسيطرة على المناطق وإخضاعها لنفوذها، فتصادمت مع العشائر السنية التي تهددت مصالحها وتعرض شيوخها لاغتيالات وتفجيرات أدَّت لسقوط العديد من أبنائها؛ فتأسست الصحوات لتحارب الدولة الإسلامية في العراق في مقابل وعد أميركي بأن تتمتع هذه العشائر بإدارة مناطقها.

وتوالت الضربات التي أدَّت لتراجع الدولة الإسلامية في العراق عن السيطرة على الكثير من المناطق التي كانت تحت سيطرتها، وأيضًا سُجن الكثير من قيادات ورجال الدولة الإسلامية في العراق وقُتِل أبو عمر البغدادي ونائبه أبو حمزة المهاجر في عام 2010.

بشكل عام، لم تكن القاعدة في العراق فرعًا من القاعدة كبقية الأفرع، بل اختلفتا في الرؤى والاستراتيجية والمنهجية وإن اتفقتا في الأيديولوجية السلفية الجهادية، يمكن إجمال هذه الاختلافات بالطائفية الشديدة، وعدم التركيز على العدو الأميركي والانشغال بالعدو المحلي، والعنف الشديد، والتحرشات بالقبائل والحركات الجهادية الأخرى؛ بما دفع الكثير من رجال القاعدة إلى مطالبة أسامة بن لادن بإعلان التبرؤ من القاعدة في العراق (12) إلا أن ابن لادن كان يرى أهمية هذا الفرع وكانت تغريه نجاحاته.

هذه التناقضات والتباينات وصلت ذروتها بانفصال جبهة النصرة وإعلان الدولة الإسلامية في العراق والشام؛ وهو الأمر الذي بدت فيه الدولة الإسلامية في العراق تتصرف مستقلة، ولم يلتفت البغدادي لتوجيه الظواهرى بترك ساحة الجهاد في سوريا لجبهة النصرة، بل إن ما نشأ بعد ذلك من اقتتال مع الجماعات الجهادية الأخرى كشف بوضوح سلوك تنظيم الدلولة الجديد في العمل الجهادي أنه يسير في اتجاه يمكن وصفه بالاستعماري (13) في اختيار الأقاليم ذات الموارد الغنية سواء كانت بترولية أو زراعية ليسيطر عليها دون الالتفات لعلاقته ببقية الجماعات الأخرى وعلى رأسها القاعدة.

صعود المكوِّن العراقي والبعثي

تصاعَدَ المكوِّن العراقي ومن ثَمَّ المكوِّن البعثي في تنظيم الدولة الإسلامية باطِّراد مدهش إلى أن وصل لأغلبية قيادية لحركة أسسها أردني هو أبو مصعب الزرقاوي.

بعد تولي أبي عمر البغدادي إمارة الدولة في العراق ازداد المكون العراقي؛ ففي الفترة التي كانت فيها نسبة المكوِّن العراقي في حركة التوحيد والجهاد ومن بعدها القاعدة في العراق لا تتخطى21 %، وصلت النسبة في فترة ما بعد تولي أبي بكر البغدادي في 2010 وحتى 2014 إلى 76% من التكوين القيادي من العراقيين (14).

بالإضافة للمكوِّن العراقي، نلاحظ أن الدولة الإسلامية شهدت تراجع القيادات من المجاهدين ذوي الخلفية القريبة للقاعدة لصالح قيادات عسكرية وأمنية بعثية سابقة؛ ففي الوقت الذي كان أكثر من 70% من قيادات جماعة التوحيد والجهاد والقاعدة في العراق من المجاهدين السابقين ولا تتعدى نسبة القيادات ذات الخلفية البعثية 20% حتى 2006 وصلت نسبة القيادات البعثية في 2014 لأكثر من 60% مع انخفاض عدد القيادات ذوي الخلفية الجهادية إلى أقل من30 % (15).

وبمتابعة قضية سجن بوكا ودوره في إعادة تشكيل قيادة التنظيم وإتاحة ساحة تواصل بين الضباط البعثيين والجهاديين (16)؛ نجد –على الأقل- أن أبا بكر البغدادي ونائبه حاجي بكر، مهندس التنظيم، كانوا في نفس الفترة في سجن بوكا ضمن آخرين كانت تعتبرهم إدارة الاحتلال الأميركي للعراق العناصر الخطرة.

وعندما سقطت الموصل وتم إعلان الخلافة وتنصيب البغدادي خليفةً تناولت التقارير (17) الأيدي الخفية لضباط صدام السابقين في ظهور تنظيم الدولة، ويشير تقرير لرويترز (18) إلى أن عدد المشاركين من الضباط السابقين في إسقاط الموصل يصل لـ60 من الضباط السابقين. كذلك المقطع الصوتي الذي أيَّد فيه عزة الدوري –مؤسس جيش رجال الطريقة النقشبندية ونائب صدام حسين قبل الاحتلال- الدولة الإسلامية بعد سقوط الموصل واعتبر “فعل كل الجماعات التي شاركت في ذلك بطولة وأن بغداد قاب قوسين أو أقرب من التحرير” (19) بما يعكس أنه حتى المجموعات التي لم تبايع الدولة الإسلامية أيدتها وهادنتها.

وبمقتل حاجي بكر ونشر صحيفة دير شبيجل الألمانية للوثائق التي كانت في مسكنه في سوريا، انكشف أن السيطرة على إقليم ممتد بين سوريا والعراق تم بمعاونة ونفوذ كبير من رجال صدام والاتجاه البعثي الذي جعل من الرقة ذات الجذور البعثية عاصمة للدولة الإسلامية (20). كذلك ظهرت طريقة حاجي بكر، الضابط السابق في الاستخبارات العراقية، في بثِّ العيون وتجنيد الأفراد، والتركيز على مناطق الإمداد والدعم اللوجستي، ووجود وثائق للتنظيم ترجع لعام 2010 تتحدث عن هيكل تنظيمي بما ينمُّ عن أن حاجي بكر هو مهندس التنظيم وبانيه، وهو ما يعكس التمدد الواسع للقيادات البعثية السابقة في هيكل التنظيم وتوجيه دفته السياسية والاستراتيجية(21).

لذلك، بعد هذا السرد يمكننا أن نذهب إلى عدة نتائج، أهمها:

  1. أنه بمرور الوقت غلب المكوِّن العراقي غيره من مكونات التنظيم، وغلب العنصر البعثي العنصرَ الجهادي على المستوى القيادي حتى وإن ظلت الصدارة للخطاب السلفي الجهادي باعتباره خطابًا حاشدًا ويملك مظلومية ومشروعية متعددة.
  2. أننا أمام تنظيم يشبه الدولة، يعمل من خلال أيديولوجيا جديدة تحمل جذورًا سلفية ولكن دخلت عليها تحديثات أو رؤى من خارج التيار الجهادي، ولا يمكننا أن نتعامل معه باعتباره تطورًا أو امتدادًا للتيار السلفي الجهادي.
  3. أن اللحظة التي كان فيها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق يحمل تناقضًا مع المكونات السنِّية، مما جعله يعادي الجميع في لحظةٍ ما بما أسَّس للصحوات، لم تعد قائمة اليوم فهو معبِّر وبقوة عن المكونات السنية على أقل تقدير في العراق.
  4. تعكس التقارير أن تنظيم الدولة الإسلامية هو الأوفر حظًّا بخصوص التمويل والمقاتلين الأجانب ليصل عدد المقاتلين الأجانب في 2015 إلى 15000 مقاتل في صفوف التنظيم (22)، وتصل قدرته على التمويل لما يصل لملياري دولار سنويًّا (23).

 الأيديولوجيا السلفية البعثية

هناك نقطة التقاء مصالح واضحة بين الضباط البعثيين السابقين وتنظيم الدولة الإسلامية وهي إنشاء دولة تعبِّر عن المواطنين السنَّة في العراق وسوريا، كما أن هناك نقطة اتفاق واضحة على أن الأيديولوجيا القومية البعثية فقدت ميزتها على الحشد لما تحمله من إرث مُرٍّ لدولة صدام حسين ولما تفتقده من جاذبية للمقاتلين العقديين من خارج العراق وسوريا ما بعد الثورة على نظام بشار، وهذا ما يفرض الحاجة إلى أيديولوجيا تمتلك عنصري الحشد والجاذبية، وهو ما تقدمه السلفية الجهادية في العراق والتي تُبدي عداءً واضحًا للشيعة وميراثهم الإقصائي في دولة المالكي والنفوذ الإيراني، وللاحتلال والهيمنة الغربية وبخاصة الأميركية.

كذلك كانت الدولة الإسلامية في العراق تفتقد القدرة على تنظيم المناطق التي تسيطر عليها والعناصر القيادية التي تستعيد بها ذروتها بعدما تعرضت لضربات شديدة منذ 2006 وحتى 2010؛ ما جعلها بحاجة شديدة لمن يملك المعلومات ويتمتع بالقدرات القيادية لجبر النقص وتمكينها من أهدافها.

لذلك، يمكن اعتبار التقاء الضباط البعثيين السابقين مع القيادات الجهادية لتنظيم الدولة بأنه التقاء مصالح وإطار تحالفي في ظل حرب النفوذ التي شهدها العراق بعد الاحتلال الأميركي، والتي تشهدها سوريا في صراعها لإسقاط نظام بشار الأسد.

كذلك يمكن فهم حالة التحالف بينهم في إطار تجمع الغاضبين أو ذوي الثأر؛ فإجراءات اجتثاث البعث والتي أدَّت لتفكيك الجيش العراقي وتسريح القيادات العسكرية والأمنية بعد احتلال العراق، فيما عُرف بالقضاء على الطابع البعثي، جعل الكثير من القيادات العسكرية والأمنية تعود أولًا إلى عصبية القبائل والعشائر، وثانيًا تبحث عن مسار جديد لخبراتها وقدراتها ولم تجد أفضل من التمرد الجهادي في هذه الفترة في العراق بما استوعب الكثير من هذه المجموعات.

كما أن الحرب على “الإرهاب” والإجراءات السياسية الطائفية التي اتُّخذت منذ تولي المالكي، والتي جعلت العشائر السُّنِّية تشعر بغبن شديد وحنق تجاه المظالم التي لحقت بها وعدم وجود دور تشاركي لهم، خاصة بعد مشاركتهم في الصحوات وتوجيه ضربات شبه حاسمة لتنظيم القاعدة في العراق ومن بعده تنظيم الدولة الإسلامية في العراق، لكن بعد الانسحاب الأميركي من العراق لم يعد هناك ضامن لمكتسبات حربهم ضد الدولة الإسلامية، خاصة أن تكلفتها هذه المرة ستكون مرتفعة جدًّا عن ذي قبل(24).

كل ما سبق من دوافع ومقومات يمكن تفهمه في إطار سياسي واقعي والتقاء مصالح وليس كرؤية أيديولوجية متسقة يمكن أن تكون معبِّرة عن دولة مستقبلية.

ولكن ما نراه أن هناك أيديولوجيا جديدة تعبِّر عن الاتجاهين السلفي الجهادي والبعثي في آنٍ واحد تشكَّلت مع مرور الوقت من التقاء في الرؤى، ثم أثقلتها المعاناة خلال فترة الاحتلال، وصقلتها التجربة في صياغة كيان معبِّر عن الكتلة السنِّية في العراق.

 البعثيون و10 أعوام من التحولات الفكرية 1993-2003

تبدأ قصة تلاقي البعثيين بالإيديولوجية الإسلامية بتنظيم الحملة الإيمانية (25) الذي أسسه صدام حسين في عام 1993، والذي كان له بالغ الأثر على القيادات العسكرية والبعثية في العراق وأشرف عليه إبراهيم عزة الدوري، وكان صدام يهدف منه إلى تكوين مقاتلين عقديين بعد خروجه من حرب الخليج وما تعرَّض له من عقوبات اقتصادية؛ حيث زادت من مخاوفه عملية الغزو الخارجي فخاض مغامرة التحول من العلمانية البعثية إلى الإسلامية البعثية لتكون عنده فرق عسكرية أيديولوجية قادرة على الدخول في معارك لا تماثلية وغير نظامية (26).

لقد كان الاتجاه الذي يحاول صدام حسين التحول له هو الاتجاه السلفي لحرصه ألا تتم اختراقات داخل نظامه من اتجاه مثل الإخوان المسلمين، فكان يعزِّز الفكر السلفي داخل مناهج وأفكار الحملة الإيمانية وهو ما أدَّى بدوره لبناء شخصية متشددة حملت فكرًا سلفيًّا فكانت أقرب للتطرف منها للاعتدال.

وفي ظل الحصار الاقتصادي لجأ العراق لشبكة تهريب واسعة أشرف عليها أيضًا عزة الدوري، وهي شبكات لتهريب النفط والسلع، وذلك أسَّس لشبكات تهريب واسعة برعاية أمنية مخابراتية، يرى المراقبون أنها استُخدمت في تهريب السلاح والرجال والنفط لصالح الجماعات المسلحة وعلى رأسها تنظيم الدولة الإسلامية فيما بعد، إضافة إلى العلاقات الممتدة بين التيارات الجهادية والضباط والقيادات البعثية (27).

هذه الظروف هيأت لصياغة شخصية بعثية ذات فكر سلفي جهادي، وأدَّى الاحتلال الأميركي وانخراط مجموعات كبيرة من الضباط السابقين في التصدي المسلح له إلى وصول القيادات البعثية لمراكز متقدمة في مفاصل تنظيم الدولة لتترك بصمة بعثية واضحة لرجال صدام على تشكيل وتوجهات تنظيم الدولة الإسلامية (28).

امتزجت الرؤيتان وكان الاختبار الحقيقي لاختلاف الإيديولوجيا الجديدة عن السلفية الجهادية في حادثة انفصال جبهة النُّصرة عن تنظيم الدولة، لنلحظ أن أغلب قيادات جبهة النصرة بعد الانفصال من المقاتلين السابقين في صفوف القاعدة أو المقاتلين مع الزرقاوي ويغلب عليها العنصر السوري وليس العراقي باستثناء أبي مارية القحطاني(29)، والذي تم فصله لاحقًا من النصرة، والعدد الأكبر للقيادات في تنظيم الدولة من قيادات بعثية سابقة وعراقيين حتى المسؤول العسكري للشام عراقي، لتعكس اختلافات جوهرية ظهرت لتُعلن عن تمايز فريقين، بينهما جملة من التناقضات وحُسمت بفعل البصمة البعثية العراقية.

كذلك نجد هناك ملامح تقارب بين الشخصيتين البعثية والجهادية، يمكن إجمالها في التالي:

  1. الاستبداد وعدم الإيمان بالديمقراطية؛ فتنظيم الدولة الإسلامية وفكر السلفية الجهادية يكفِّر الأنظمة الديمقراطية ويرى معارضتها للشريعة الإسلامية ويؤمن بالشوري التي تنحصر في دوائر محدودة من أهل الحل والعقد، وكذلك النظام البعثي هو نظام استبدادي يتعامل مع المجتمعات بفكر أبوي وسلطوي ولا يؤمن بصلاحية الديمقراطية حتى وإن مارس بعض آلياتها شكليًّا إلا أن جوهر الحكم هو استبدادي.
  2. العدو المشترك: الهيمنة الغربية من جانب والنفوذ الإيراني من جانب آخر هما العدو المشترك سواء للسلفية الجهادية بنسختها العراقية أو لحزب البعث؛ فالأول يسلك سلوكًا طائفيًّا على أساس المذهب والعقيدة والآخر يسلك سلوكًا طائفيًّا على أساس القومية والهوية وكلاهما قد ذاق ويلات الاحتلال الأميركي وتخريب العراق وتجليات النفوذ الإيراني؛ لذا يمكن أن نجد اتفاقًا عامًّا على من هو العدو بين الطرفين.
  3. الشخصية القتالية: التمرد الجهادي أو الحروب التي خاضها البعثيون في فرض رؤاهم وسياستهم بنى الشخصية على أساس قتالي قادر على خوض حروب مستمرة لفترات طويلة بل وتقديم الحلول العسكرية على السياسية، بما شكَّل شخصية تُظهر الشدة ونشر الرعب بل واتخاذهما منهجًا في إظهار الغلظة والقسوة في التعامل مع الخصوم.

هذا التقارب في الشخصية وهذه التحولات التي طرأت على الشخصية البعثية قرَّبتها من الاتجاه السلفي الجهادي، وتلك الضربات التي تعرضت لها القاعدة في العراق في الفترة من 2007 وحتى 2010، أخرجت لنا هذا المزيج الذي تداخلت عناصره لتُخرج أيديولوجيا هجينًا. وهي تحمل لا شكَّ بعض التناقضات والاختلافات، منها جدوى العمليات الخارجية في الدول البعيدة أو استعداء دول قريبة، أو في التعامل مع المجتمع الدولي مستقبلًا، إلا أن التناقض الأهم هو، أين تتوقف طموحات تنظيم الدولة في السيطرة؟ وما الأثر الاستراتيجي الذي يرنو له التنظيم؟ وهل يسعى لدولة ذات إقليم يستعيد بها الوجود والنفوذ ويعبِّر عن المكون السنِّي في منطقة الهلال الخصيب أم سيتجاوب مع دعوات الخلافة العالمية وعدم الوقوف عند حدٍّ معين؟

بحسم هذه التناقضات يمكن أن نتوقع مستقبل الدولة التي يبنيها هذا التنظيم.

مستقبل الأيديولوجيا السلفية البعثية ومستقبل التحالف بين الفريقين

يكمن الرهان الأكبر لدى كل خصوم تنظيم الدولة الإسلامية في إمكانية فكِّ الإرتباط وكسر التحالف بين المجموعات البعثية والمجموعات الجهادية وذلك من خلال مفاوضات مع القيادات البعثية القديمة أو من خلال رفع تكلفة الحصار والهجمات؛ بما يتيح المجال للتناقضات البينية والخلافات القيادية لأن تؤدي لحالات انقسام وانشقاق يضعف تنظيم الدولة ومن ثم يسهل القضاء عليه.

ولذلك، فنحن أمام أحد سيناريوهين:

  • السيناريو الأول: أن يستمر التناغم الأيديولوجي مع حسم التناقضات وأهمها الحد النهائي للتوسع حتى وإن استمر خطابها الأيديولوجي معبِّرًا عن الأممية، وبذلك فنحن أمام تكوين سيتجلَّى في دولة معبِّرة عن السنَّة في منطقة الهلال الخصيب، وبخاصة تلك الممتدة على الرقعة السنِّية بين العراق وسوريا، واستقرار هذا النموذج سيعتمد على الحفاظ على ما سيطرت عليه الدولة الإسلامية من أرض وقدرتها على استمرار حمايته وتأمينه من جانب وتنظيمه وإدارته من جانب آخر.
  • السيناريو الثاني: أن تطغى التناقضات الأيديولوجية مع فترات الضغط والهجوم المستمرة والتي ينتج عنها فقدان أو خسارة بعض المناطق التي سيطرت عليها بما ينشأ عنه ازدياد حدَّة الخلاف الداخلي، خاصة مع عدم قدرة تنظيم الدولة على إدارة المناطق أو إساءة إدارتها بما يدفع لتململ داخلي يُفقد تنظيم الدولة قدرته على السيطرة.

    وهنا، سيسعى أحد الطرفين لحسم الصراع لصالحه وستكون كفَّة القيادة في صالح البعثيين مع احتمالية أن تحدث انشقاقات أصغر خاصة في سوريا؛ سواء بانضمام المنشقين لأحد التكوينات الجهادية هناك أو تكوين حركات جديدة أصغر حجمًا وعددًا وستكون أكثر تطرفًا من القاعدة.

السيناريو الأول أرجح؛ لأن التناقضات الأيديولوجية الحالية لا ترقى لأن تُحدث انقسامات كبيرة، خاصة أن الأرض التي يسيطر عليها التنظيم بين سوريا والعراق لا تزال غير مستقرة أو مؤمَّنة بالشكل الكامل بحيث تميل المجموعات البعثية للاكتفاء بها والتخلص من فكرة التوسع والامتداد التي يحملها خطاب الخلافة.

كذلك لأنه برغم أن الغلبة القيادية للمجموعات البعثية فإن الخطاب الحاشد والذي يمكن من خلاله تجنيد مقاتلين أجانب هو الخطاب الجهادي الساعي لتحقيق حلم الخلافة، وبالتالي هناك تقاسم في الأدوار والامتيازات يجعل من الصعب أن يستغني طرف عن الآخر.

وبرغم التململ الذي يشمل الكثير من المناطق التي يسيطر عليها التنظيم في سوريا إلا أن وجوده في العراق يلقى قبولًا واسعًا، وبسبب عدم الرغبة الدولية في حسم الصراع في سوريا فوجود التنظيم مستمر، وكل الانتقادات التي تُوجَّه إليه لا ترقى لإضعافه بسبب خطاب المظالم الواسعة التي يعبِّر عنها.

نحن أمام رؤية جديدة مثَّلت تداخلًا وامتزاجًا بين السلفية والبعثية، وهي حصاد لكل بذور العقدين السابقين؛ وبالتالي ستأخذ حقها في التجربها وحيزها من الفعل، وبقدر ما تتمتع به من قدرة على إثبات نفسها في الحاضر بقدر ما ستجني من مكاسب في المستقبل.
_______________________________
محمد شمس – مركز الجزيرة للدراسات

المراجع
طارق الزمر في لقاء خاص للحديث حول العنف ومراجعات الجماعة الإسلامية.
2 أسامة بن لادن، رسائل بيوت آباد، الرسالة رقم (SOCOM-2012-0000016) على موقع Combating Terrorism Center
3 أبو مصعب السوري، المقاومة الإسلامية العالمية، انظر الجزء الثاني، ص1370.
4 أيمن الظواهري في رسالة إلى أبي مصعب الزرقاوي على الرابط التالي:http://www.globalsecurity.org/security/library/report/2005/zawahiri-zarqawi-letter_9jul2005.htm
5 يُعتبر من أهم المنظِّرين للسلفية الجهادية وقيادة رُوحية مهمة ويعتبره الكثير من المراقبين شيخ الزرقاوي.
6 أبو محمد المقدسي في حوار مع cnn العربية على الرابط التالي: http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/07/02/abu-muhammad-almaqdessi-isis
7 يمكن مراجعة ورقة تحليلية لمركز بروكنجز “from paper state to caliphate: the ideology of the Islamic state by Cole Bunzel”
Perspectives on Terrorism Vol 9 Issue 4 AUG 2015
8 تشارلز لستر، معالم الدولة الإسلامية، مركز بروكنجز.
9 المرجع السابق.
CSIS, Trends in Iraq violence 2003 -2015 by Anthony H Cordesman in 5 OCT 2015 10
11 P.22-26 Litters from Abbottabad: Bin laden sidelined published by Harmony program CTC , 3 MAY 2012
13 فيلكس لاجراند، استراتيجية داعش الاستعمارية في سوريا، يوليو/تموز 2014، مبادرة الإصلاح العربي،
Perspectives on Terrorism Vol 9 Issue 4 AUG 2015 14
Perspectives on Terrorism Vol 9 Issue 4 AUG 2015 15
16 يمكن متابعة الموضوع على الرابط التالي: http://nypost.com/2015/05/30/how-the-us-created-the-camp-where-isis-was-born/
17
https://www.washingtonpost.com/world/middle_east/the-hidden-hand-behind-the-islamic-state-militants-saddam-husseins/2015/04/04/aa97676c-cc32-11e4-8730-4f473416e759_story.html
18 تقرير رويترز 8 يوليو/تموز 2014، على الرابط التالي: http://www.reuters.com/article/us-iraq-security-mosul-idUSKBN0FD1AE20140708
19
http://arabic.cnn.com/middleeast/2014/07/13/douri-speech-iraq
20 موقع مجلة دير شبيجل على الرابط التالي: http://www.spiegel.de/international/world/islamic-state-files-show-structure-of-islamist-terror-group-a-1029274.html
21 حاجي بكر هو سمير عبد محمد الخليفاوي وهو عقيد سابق في الاستخبارات العسكرية لنظام صدام حسين وتشير التقارير التي نشرتها دير شبيجل إلى أنه قضى فترة من سجنه في سجن بوكا.
22 موقع دويتشه فيله، 31 أكتوبر/تشرين الأول 2014، على الرابط التالي: http://www.dw.com/ar/15-%D8%A3%D9%84%D9%81-%D8%A3%D8%AC%D9%86%D8%A8%D9%8A-%D9%8A%D9%86%D8%B6%D9%85%D9%88%D9%86-%D8%A5%D9%84%D9%89-%D8%AF%D8%A7%D8%B9%D8%B4-%D9%81%D9%8A-%D8%B3%D9%88%D8%B1%D9%8A%D8%A7-%D9%88%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A7%D9%82/a-18032195

23
http://europe.newsweek.com/how-does-isis-fund-its-reign-terror-282607?rm=eu

David Siddhartha patel ,middle east brief No.87 Crown center for middle east studies Jan 2015 24
25 يمكن للاطلاع أكثر على الحملة الإيمانية وتأثيراتها مراجعة كتاب Joel raybum “Iraq after America: strongmen, sectarians, ” ” resistance” p101 to p104
26 حوار مع prof. Amatzia Baram صاحب كتاب “Saddam Husayn and Islam 1968-2003 bathi Iraq from secularism to faith” بتاريخ نوفمبر 2015 على الرابط التالي: http://musingsoniraq.blogspot.qa/2015/11/saddams-faith-campaign-iraqs-tribes-two.html
27 المرجع السابق.
28 يمكن مراجعة تقرير الواشنطن بوست “the hidden hand behind the Islamic state militia? Saddam Hussein by Liz Sly 4 April 2015 “
29 أبو مارية القحطاني كان أحد البعثيين وكان ضمن قوات فدائيي صدام وهي قوات أمنية خاصة.