اضطرابات الانتقال: الأبعاد النفسية للتوترات الداخلية في بعض المجتمعات العربية

اضطرابات الانتقال: الأبعاد النفسية للتوترات الداخلية في بعض المجتمعات العربية

2931

تصاعدت حدة التداعيات “النفسية” الناتجة عن موجات التحولات الثورية والصراعات الأهلية التي انتشرت في بعض الدول العربية.فعلى الرغم من ارتباط الثورات العربية بدافعية ارتفاع سقف التوقعات المجتمعية، واصطدامها بالقدرات المحدودة لبعض نظم الحكم التي أخفقت في تلبية الحد الأدنى من الاحتياجات الأساسية للمواطنين؛ فإن تعثر التحولات نحو بناء النظم الديمقراطية الوليدة، وتردي الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وغياب الإجراءات المؤدية إلى العدالة الانتقالية، وتزايد التهديدات الأمنية، واحتدام الصراعات الأهلية الدامية، واتساع نشاط التنظيمات الإرهابية، كلُّ ذلك أدى إلى انتشار أعراض “الاختلالات النفسية” في بعض الدول العربية، مما يقوض ركائز الاستقرار والتوازن المجتمعي في تلك الدول.

خريطة متداخلة:

لا يُمكن اعتبار انتشار الاضطرابات النفسية في الدول العربية أحد مستجدات الثورات بالنظر إلى ارتباطها بالصراعات الداخلية وانتشار الفقر والبطالة في دول عديدة، فقد أدت المذابح الدموية التي ارتُكبت خلال فترة الحرب الأهلية في الجزائر المسماة بـ”العشرية السوداء” إلى انتشار الاضطرابات النفسية بين المواطنين، وهو ما يُستدل عليه بتصريحات رئيس مصلحة الأمراض العقلية الدكتور محمد تجيزة، في مطلع نوفمبر 2014، التي قال فيها “أن 6% من مواطني الجزائر لديهم اضطرابات نفسية خطيرة، وأن عددهم يتجاوز 2 مليون مواطن”.

بيد أن الاضطرابات النفسية عادةً ما ترتبط ببؤر الصراعات والتوترات الإقليمية على غرار الأراضي الفلسطينية المحتلة؛ حيث أشارت جوان كونوجي ممثلة منظمة الأمم المتحدة للطفولة، قبيل منتصف أغسطس 2014، إلى أن القصف الجوي الإسرائيلي لقطاع غزة والخسائر المتصاعدة في صفوف المدنيين، أدت إلى انتشار الاختلالات النفسية بين المدنيين، خاصةً الأطفال، حيث ظهرت أعراض تلك الاضطرابات على 400 ألف طفل بالقطاع.

وفي السياق ذاته، أطلقت اليونيسيف حملةً بعنوان “أطفال من أجل سوريا”، في مارس 2014، للتنديد بالمعاناة الإنسانية لما يزيد على 5.5 ملايين طفل سوري في مناطق النزوح الداخلي ومعسكرات اللاجئين، وتصاعد أعراض الأمراض النفسية فيما بينهم، فضلا عن افتقادهم للاحتياجات الأساسية التي تؤدي للتنشئة السوية. كما أشار بعضُ الناشطين في مؤسسة “أطباء بلا حدود” العاملين في معسكرات اللاجئين السوريين في تركيا، قبيل نهاية مايو 2014، إلى انتشار أعراض نفسية بين اللاجئين، أهمها العدوانية والاكتئاب والتوحد، وغيرها من عوارض اضطرابات ما بعد الصدمة. وفي اليمن، كشف تقرير أمني صادر عن وزارة الداخلية، في سبتمبر 2014، عن تصاعد عدد حالات الانتحار إلى 144 حالة في النصف الأول من العام الجاري، وهو ما يرجع إلى تردي الأوضاع الاقتصادية، والصراعات الأهلية، وانتشار تعاطي المخدرات.

أنماط الاختلالات:

لا تقتصر الاضطراباتُ النفسية على بؤر الصراعات الإقليمية، وإنما باتت ترتبط بالتحولات الكثيفة التي تشهدها الدول العربية على المستويات السياسية والاقتصادية والمجتمعية، والتي أفرزت عدة أنماط لـ”الاختلالات النفسية” تتمثل فيما يلي:

1- انتشار الأمراض النفسية: قال وزير الصحة التونسي محمد صالح بن عمار، في 25 أكتوبر 2014، أن 1% من التونسيين يعانون من أمراض نفسية متعددة، أهمها الاكتئاب، كما كشفت دراسةٌ صادرة عن “المعهد الدنماركي ضد التعذيب” بمشاركة جامعة بني غازي، في 25 نوفمبر 2014، عن أن حوالي ثلث الشعب الليبي يعانون من مشكلات نفسية نتيجة انتشار العنف والصراعات الدامية؛ حيث أوضح التقريرُ أن 29% من المبحوثين يُعانون من التوتر، و30% من الاكتئاب، بينما بلغت نسبة الافتقاد للشعور بالأمن حوالي 46.4% ممن شملتهم الدراسة. وفي السياق ذاته، أشارت دراسة أجرتها الجامعة الأمريكية بالقاهرة، في مطلع عام 2013، إلى تزايد معدلات القلق والتوتر إثر تصاعد أعمال العنف، وهو ما أدى إلى انتشار حالات الاضطراب النفسي بعد الصدمات بين حوالي 60% من المبحوثين الذين شملتهم الدراسة. أما إحصائيات منظمة “أطباء بلا حدود” فتشير إلى أن حوالي 18.6% من العراقيين يعانون من أمراض نفسية منذ الحرب الأهلية التي نشبت بين عامى 2005 و2007 نتيجة فقدان الأهل والممتلكات وتردي الأوضاع الاقتصادية والأمنية.

2- تزايد حالات الانتحار: يكشف تقرير منظمة الصحة العالمية حول الانتحار، الصادر في سبتمبر 2014، عن تصاعد حالات الانتحار في بعض الدول العربية خاصة السودان، حيث بلغ معدل الانتحار حوالي 17.2 لكل 100 ألف مواطن، والمغرب التي وصل معدل الانتحار بها إلى حوالي 5.3 لكل 100 ألف مواطن، واليمن التي شهدت تصاعدًا لمعدل الانتحار ليصل إلى 3.7 لكل 100 ألف مواطن، وموريتانيا التي وصل معدل الانتحار بها إلى 2.9 لكل 100 ألف مواطن، ثم تونس التي وصل معدل الانتحار بها إلى حوالي 2.4 لكل 100 ألف مواطن، بينما ظل معدل الانتحار في مصر مقاربًا لحوالي 1.7، فيما وصل المعدل في قطر إلى 4.6، وهو ما يرجع للميول الانتحارية للعمالة الآسيوية.

وفي هذا السياق، رصدت بعض التقارير وقوع 10 حالات انتحار في مصر في شهر نوفمبر 2014، معظمها ناتج عن مشكلات اقتصادية واجتماعية، على غرار حادثة انتحار الناشطة زينب المهدي التي كانت عضوًا بالحملة الانتخابية للمرشح الرئاسي السابق عبد المنعم أبو الفتوح، وحادثة انتحار الموظف أشرف صليب الذي انتشرت صور انتحاره مشنوقًا من شرفة منزله في مواقع التواصل الاجتماعي للتنديد بالأوضاع الاقتصادية. وفي تونس، رصدت الأجهزة الأمنية حوالي 15 حالة انتحار خلال شهر أكتوبر 2014، كما شهدت اليمن 5 حالات انتحار في يومين كشفت عنها الأجهزة الأمنية في 28 نوفمبر 2014، أغلبها ترتبط بتردي الأوضاع الاجتماعية.

3- تصاعد ظاهرة الجرائم العنيفة: ارتبط اتساع نطاق الصدامات المجتمعية العنيفة في بعض الدول العربية، وانهيار احتكار الدول لاستخدام السلاح؛ بانتشار بعض الجرائم الصادمة، على غرار قيام شاب تونسي بقتل صديقه والتمثيل بجسده، في مطلع ديسمبر 2014، وهو ما يتسق مع انتشار أعمال العنف الأسري والاعتداء على الأطفال. في حين يقوم تنظيم “داعش” بارتكاب جرائم وحشية في سوريا والعراق، لا سيما قطع رؤوس المخالفين لنهج التنظيم والرهائن الأجانب، فضلا عن أعمال قتل الأطفال، والاعتداء على النساء في محيط منطقة كوباني في سوريا، وارتكاب المذابح بحق الأقليات اليزيدية في العراق.

4- انتشار العنف المجتمعي: يُعد الاحتكام إلى العنف لحسم الخلافات المجتمعية أحد أهم مؤشرات تصاعد حدة الاختلالات النفسية على المستوى المجتمعي، ويستدل على ذلك بانتشار المعارك بين العائلات بالأسلحة النارية على غرار الاشتباكات المسلحة بين “الهلايل” و”الدابودية” في محافظة أسوان بمصر في مطلع أبريل 2014، والتي تكررت في سوهاج بين نجعى “القوصة” و”الشيخ أمبادر” في منتصف نوفمبر 2014، نتيجة الصراع على السيطرة على أراضٍ تقع ضمن ممتلكات الدولة، إلى جانب الاشتباكات المسلحة التي نشبت بين عائلتى “المخالفة” و”السحالوة” في فرشوط في شمال قنا. بينما أضحى الاحتكام للسلاح في ليبيا واليمن والعراق الآلية الأهم لحسم الخلافات والصراعات العائلية والقبلية والطائفية في ظل انهيار مؤسسات الدولة الأمنية والقضائية، مما فرض على المجتمع التكيف مع العنف المسلح، والتعايش مع استمراره.

تفكك المجتمعات:

يرتبط انتشار الاضطرابات النفسية في عدد من الدول العربية بعدة عوامل: الأول، يتمثل في “الإحباط النفسي” في الآمال والتوقعات التي تجاوزت الحدود المنطقية عقب اندلاع الثورات العربية، خاصةً فيما يتعلق باحتمالات تحسن الأوضاع المعيشية عقب استقرار الأوضاع السياسية والأمنية، وهو ما لم يتحقق نتيجة استنزاف الموارد، وتداعي أركان المؤسسات السياسية والأمنية، على إثر الثورات العربية، فضلا عن انتشار السلاح، وتصاعد سطوة الميليشيات المسلحة والاتجاهات الانفصالية، وقد أدى هذا “الإحباط النفسي” إلى انتشار حالة اللا مبالاة والسلبية والميول الانتحارية خاصة لدى الشباب.

أما العامل الثاني الأكثر انتشارًا في الإقليم فيتعلق بـ”اضطراب ما بعد الصدمة” والذي ينتج عن التعايش مع أعمال العنف والصراعات المسلحة، والتعرض لمشاهد القتل الوحشي والتعذيب من خلال متابعة وسائل الإعلام، مما يتسبب في انتشار حالات الاكتئاب والتوتر، والخوف من المستقبل، والنزوع للعنف، ويُعد الأطفال الفئة الأكثر تأثرًا بهذه الاضطرابات، خاصةً الأطفال في مخيمات اللاجئين السوريين، وفي العراق واليمن وليبيا، مما يؤثر على تنشئتهم وسلامتهم النفسية.

وينصرف العامل الثالث إلى “الفزع المَرَضِي” على غرار الحالات التي انتشرت في اليمن نتيجة هجمات الطائرات بدون طيار الأمريكية ضد مواقع تمركز التنظيمات الإرهابية، خاصةً في ظل تسببها في مقتل مدنيين ليس لهم علاقة بتلك التنظيمات، وفي هذا الصدد كشف تقرير لمنظمة “ريبريف” Reprieve البريطانية المعنية بمساعدة السجناء، في يوليو 2013، عن أن 71% من أقرباء الضحايا المدنيين لهجمات طائرات الـ”درونز” يعانون من اضطرابات نفسية تتمثل في الرعب المَرَضي من الأصوات المرتفعة، فضلا عن حالات قلق الانفصال لدى الأطفال الناتجة عن فقد أحد الوالدين في هجمات الطائرات بدون طيار، وهى الأعراض ذاتها المنتشرة لدى الأطفال في مخيمات اللاجئين السوريين.

وعلى مستوى تداعيات انتشار الاختلالات النفسية في بعض الدول العربية، من المرجح أن تؤدي تلك الاضطراباتُ إلى تهيئة بيئة خصبة لانتشار التنظيمات الإرهابية وعصابات الجريمة المنظمة، خاصةً في مناطق الصراعات المسلحة نتيجة التكيف مع العنف والجرائم الوحشية، وتصاعد توجهات الانتقام والثأر من الخصوم، مما يقوض آليات العدالة الانتقالية والحوار الوطني عقب انقضاء الصراعات الداخلية، فضلا عن تفكك الروابط المجتمعية، وانتشار اللا مبالاة والسلبية التي تؤدي إلى إخفاق عمليات إعادة البناء وتنشيط الاقتصاد، إلى جانب اتساع نطاق بعض الظواهر الاجتماعية السلبية مثل الإدمان والعنف الأسري.

المركز الاقليمي للدراسات الاستراتيجية

http://goo.gl/1HPqWG