الدولة الكردية من وحي الربيع العربي

الدولة الكردية من وحي الربيع العربي

580

ثمة من يرى أن الربيع العربي كان ربيعا كرديا لجهة النتائج حتى الآن، فقد ألهمت ثورات الربيع العربي الكرد على توزعهم الجغرافي بعهد جديد يأملون منه تحقيق تطلعاتهم.

فالوعي القومي بقضيتهم يتجذر يوما بعد آخر، والوقائع على الأرض تراكم حالة من الكيانية القومية على شكل اكتمال لمقومات تأسيس الدولة، والانفتاح الإقليمي والدولي يتحول إلى شكل من أشكال الاعتراف التدريجي بهم، فيما عوامل الرفض تتلاشى على وقع انهيار الدولة المركزية في العراق وسوريا.

ومن كل ما سبق يجد الكرد أنهم أمام فرصة تاريخية قد لا تتكرر لتحقيق حلمهم التاريخي بدولة حرموا منها على وقع الاتفاقيات الدولية التي وضعت عقب الحرب العالمية الأولى.

تطور قوس المطالب
جنوب كردستان، شمال كردستان، غرب كردستان، شرق كردستان.. لم تعد مجرد مصطلحات جغرافية فحسب، بل تشير إلى مدى الوعي الكرد بقوميتهم من جهة، وإلى مدى الترابط بينهم في أماكن توزعهم الجغرافي من جهة ثانية، إذ أن انهيار حدود اتفاقية سايكس بيكو بين العراق وسوريا، ولد حالة من التواصل الجغرافي بين الكرد في البلدين، وإلى حد ما مع كرد الشمال أي تركيا، انطلاقا من حقائق الواقع الجغرافي والاجتماعي والثقافي للهوية القومية الكردية المتجذرة في هذه المنطقة، حيث يعد الكرد رابع قومية في المنطقة إلى جانب العرب والترك والفرس.

والقناعة العامة لدى الكرد بأن التطورات الجارية في المنطقة ستغير من خريطتها الجيوسياسية والاقتصادية على شكل إقامة نظام إقليمي جديد، متشابك في المصالح والأيديولوجيات، وعليه يمكن فهم رفع الكرد لسقف مطالبهم القومية، من المطالبة بالمواطنة والمساواة في الدول التي يعيشون فيها إلى الكيانية القومية، وإن اختلف سقف المطالب القومية من هذه الدولة إلى تلك تبعا للظروف والمحددات والعوامل المتحكمة.

كرد العراق وضعوا شعار حق تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة على الطاولة، وما دعوة مسعود البرزاني إلى استفتاء على المصير إلا تعبيرا عن التطلع إلى مثل هذه الدولة، لاسيما في ظل قناعته بأن العلاقة مع بغداد لم تعد مجدية خاصة مع تراكم الخلافات معها، وسيطرة الإقليم على المناطق المتنازع عليها عقب سيطرة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) على الموصل وتحرير البيشمركة للعديد من المناطق، ونجاح حكومة الإقليم للمرة الأولى في التاريخ في تصدير النفط إلى الخارج دون موافقة بغداد، على شكل تراكم لمقومات الدولة، أصبح معه إقليم كردستان أكثر من إقليم وأشبه بدولة مستقلة على أرض الواقع.

كرد سوريا ورغم اختلاف ظروفهم عن ظروف إقليم كردستان العراق فإنهم بدؤوا يشقون طريقهم على وقع يوميات الأزمة السورية في بناء إقليم لهم بعد أن أقاموا إدارة ذاتية نجحت في فرض سيطرتها على المناطق الكردية في الشمال الشرقي، وباتت تتطلع إلى الربط بين هذه المناطق وجلب اعتراف دولي بها، مستفيدة من الانفتاح الأميركي والروسي على الكرد لدورهم الفعال على الأرض في محاربة داعش.

والواقع أنهم وهم في تطلعهم هذا، يمارسون براغماتية سياسية مع المعارضة والنظام معا، منطلقين من معادلة القرب أكثر ممن يستجيب أكثر أو يعترف بحقوقهم القومية، كأساس لنظرتهم إلى الأزمة السورية ومآلاتها المستقبلية.

كرد تركيا وعلى وقع انهيار عملية السلام مع حكومة حزب العدالة والتنمية رفعوا من سقف مطالبهم القومية، إذ للمرة الأولى أعلنوا عزمهم إقامة حكم ذاتي، بل والتفكير بدولة مستقلة إن سنحت الظروف، وهذه الدعوة لم تأت من حزب العمال الكردستاني الذي يخوض صراعا مريرا مع الدولة التركية منذ نحو نصف قرن، بل من صلاح الدين ديميرداش زعيم حزب الشعوب الديمقراطية الذي هو ثالث كتلة برلمانية في البرلمان التركي.

واللافت في مسار الحركة الكردية في تركيا هو صعود النجم السياسي لهذا الحزب في الساحتين التركية والكردية، وقدرته على التأسيس للفعل السياسي في المدن خلافا لحزب العمال الكردستاني الذي حصر نشاطه خلال العقود الماضية في الأرياف والجبال، وهو ما نقل القضية الكردية في تركيا إلى مرحلة جديدة أشد تعقيدا.

كرد إيران، ورغم المركزية الشديدة التي يفرضها النظام عليهم، يعتقدون أن الربيع بدأ يدق أبوابهم، خاصة مع بروز جيل جديد في الداخل بدأ يقود الحراك من هناك رغم قوة النظام وسلطته.

ولعل التظاهرات التي شهدتها مدن مهاباد وكرمنشاه وغيرهما من المدن خلال العام الماضي تشي بتطورات قادمة على هذا الصعيد، تطورات تتجلى في رفع بعض الأحزاب الكردية في إيران شعارات الحكم الذاتي وحتى الدولة المستقلة، وسط قناعة بأنه لم يعد من المجدي الرهان على التيار الإصلاحي الذي لم ينجح في تحقيق أيا من مطالبهم حتى الآن، وأن النظام لن يستجيب لهذه التطلعات ما لم يتحركوا في الساحات.

في جميع الأحوال، يمكن القول إن هذه التطورات فجرت الوعي القومي الكردي من جديد، وعمقت إدراكه بقضية الحرية كقضية لا بد منها في بناء الدولة الحديثة بمعايير الاعتراف بالآخر وحقوق الإنسان وكرامته.

دولة مستقلة أم كيانات قومية؟
السؤال الجوهري الذي يشغل بال الكرد والعالم الآن، هو هل الكرد يريدون دولة مستقلة تجمع أجزاء كردستان المنقسمة أم كيانات سياسية معترف بها في إطار الدول التي يتواجدون فيها؟

في الواقع، الإجابة عن هذا السؤال تتطلب التوقف عند مسارين أو تيارين أو مشروعين أساسيين في الساحة الكردية.

1- مشروع يقوده رئيس إقليم كردستان مسعود البرزاني، وتقوم إستراتيجية هذا المشروع على إقامة دولة كردية مستقلة في إقليم كردستان العراق، على أن تشكل هذه الدولة مرجعية قومية للكرد في باقي أجزاء كردستان، وتسعى إلى تشكيل مرجعية لمختلف الحركات الكردستانية، هدفها الإستراتيجي كيفية بناء الدولة القومية الكردية المستقلة.

ولعل مثل هذه المرجعية تتطلب توحيد الجهود والخطاب، وكيفية مخاطبة العالم وطرح المطالب الكردية بالعمل السياسي والدبلوماسي والاقتصادي وصولا إلى تحقيق الهدف الإستراتيجي دون الصدام مع أنظمة الدول التي يتواجد فيها الكرد.

2- مشروع عبد الله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني، إذ طرح أوجلان قبل أكثر من عقدين من الزمن مشروع إقامة فدراليات أو حتى كونفدراليات في الدول التي يتواجد فيها الكرد دون الانفصال عنها، وقد جاء طرحه هذا بعد سنوات من طرحه مشروع تحرير وتوحيد كردستان عندما كان ينتهج فكرا يساريا، ويؤمن بالكفاح المسلح، قبل أن يعتقل ويتراجع عن هذا النهج ويطرح التفاوض أسلوبا لحل القضية أو القضايا الكردية في المنطقة.

ورغم تشابك المشروعين وتداخلهما، ودور المراحل والظروف في تحديد البوصلة السياسية للطموحات الكردية، فإن ثمة عاملين يتحكمان بالنزوع الكردي نحو الاستقلال.

الأول: هو إحساس الكرد بالظلم القومي والاجتماعي الذي لحق بهم عبر التاريخ، إذ أن أنظمة الدول التي يتواجد فيها الكرد مارست بهذا القدر أو ذاك سياسة الإقصاء والتهميش والإنكار ضدهم، حتى باتوا يحسون بأنهم مواطنين من الدرجة الثالثة وحتى العاشرة في هذه الدول، وأن سبب العداء لهم هو تمايزهم القومي عن القومية السائدة التي احتكرت كل الإمكانات السياسية والاقتصادية والثقافية والأمنية.

الثاني: ويمكن وصفه بالحديث، وهو قناعتهم بأن الدول التي يوجدون فيها هي دول فاشلة بمعيار الهوية والوطنية والتنمية، وأن صيغة هذه الدول لم تعد مناسبة لا لهم ولا للعصر الحديث، وأنه في ظل التطورات الجارية لا بد من الانتقال إلى صيغة جديدة لمفهوم الدولة، يكون عناونها هو التحول من الحكم المركزي إلى المحلي على شكل حكم الولايات الذي يضمن لهم الاعتراف بالهوية القومية المحلية أولا، وثانيا بصلاحيات تسمح بوضع إستراتيجيات للتنمية والإدارة وامتلاك الرؤى والخيارات الاقتصادية التي من شأنها تحقيق العدل والتوازن والتنمية والمشاركة في إدارة البلاد.

حسابات ورهانات
يدرك الكرد أن الطريق إلى تحقيق تطلعاتهم القومية ليست مفروشة بالورد، وأن ثمة إجماع من الدول التي يتواجدون فيها على رفض الانفصال، بل وحتى الاعتراف بالحكم المحلي لهم كما عليه الحال في بعض هذه الدول، ويدركون أيضا أن المصالح هي التي تشكل معيار الاعتراف الدولي بهم من عدمه.

وفي الداخل الكردي ثمة استحقاقات داخلية أو حزبية قد تدفع بهذا الحزب أو الزعيم إلى ركوب موجة المطالبة بتقرير المصير والاستقلال لحساباته الخاصة، فعلى الأقل في حالة إقليم كردستان العراق، ثمة تباين بين مواقف الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة البرزاني ومواقف كل من حزب الاتحاد الوطني الكردستاني بزعامة جلال الطالباني وحركة التغيير (كوران) بزعامة نوشيران مصطفى بخصوص الاستفتاء والتوجه إلى إعلان الاستقلال. والخلافات والاختلافات الكردية الكردية تنسحب إلى الساحات الكردية الأخرى.

لكن الذي ينبغي قوله هنا، هو أن الكرد اليوم يتملكهم إحساس قوي بأن الظروف تغيرت، إذ لم تعد العراق وسوريا بالدولتين القادرتين على إعاقة المشروع الكردي كما كان في السابق، ورغم رفض إيران وتركيا إقامة دولة كردية فإن الكرد يعتقدون بأنهم باتوا قادرين على الاستفادة من التنافس والخلافات بين الدولتين على قضايا المنطقة لتفكيك جدار هذا الرفض بل وحتى جلب الاعتراف.

فتركيا تبدو الحليف الأقوى لإقليم كردستان بعد أن وصلت العلاقات بين الجانبين إلى مستوى الشراكة، وعليه ليس من المستبعد أن تكون تركيا من بين الدول الأولى التي قد تعترف بالدولة الكردية في حال إعلان البرزاني عنها وذلك لأسباب كثيرة، كما أن تحول الكرد إلى لاعب إقليمي على الأرض وحليف للغرب في محاربة داعش يدفع بالكردي إلى الاعتقاد والرهان معا على أن الغرب وباقي الدول ستقترب تدريجيا من تطلعاتهم وصولا إلى الاعتراف بها في الظرف المناسب.

وعلى مستوى المنطقة فإن المناخ الإقليمي تغير، إذ ثمة انفتاح كبير من الدول العربية الخليجية والأردن ومصر على إقليم كردستان العراق، كما أن إسرائيل باتت من أشد الداعمين لإعلان الدولة الكردية لحسابات خاصة بها.

ودون شك فإن كل هذه الظروف تضفي على الرغبة الكردية بالاستقلال المزيد من الإرادة، ولعل هذا ما تجلى في رفض البرزاني للنصائح الأوروبية والأميركية بالتريث في قضية الاستفتاء.

وما ينبغي قوله في ختام هذه المقالة هو أن هذه الرغبة الزائدة قد لا تتطابق مع حسابات السياسة والمصالح الدولية والتفاهمات بين الدول، والتي قد تجتمع معا في إبقاء موضوع إقامة الدولة الكردية حلما يصعب تلمسه على أرض الواقع، دون أن يعني ذلك أن الكرد لن يحققوا في المرحلة المقبلة المزيد من التطلعات.

خورشيد دلي

نقلا عن الجزيرة نت