هل دخلت تركيا دائرة الاستهداف؟

هل دخلت تركيا دائرة الاستهداف؟

دائرة استهداف تركيا

يأتي التفجير الإرهابي الذي ضرب العاصمة التركية أنقرة في سياق سلسلة تفجيرات وعمليات طالت عددا من المدن التركية مؤخرا، تنفيذا لمخططات القوى الدولية التي أدخلت تركيا في دائرة الاستهداف، انتقاما لمواقفها حيال ما يجري في سوريا منذ خمس سنوات، ووقوفها العلني ضد نظام الأسد، وضد ما يقوم به مع حلفائه الروس والإيرانيين، من قتل وتهجير وتجويع لغالبية السوريين، وتدمير مناطق واسعة من سوريا، وعمليات تغيير البنية الديموغرافية فيها.

وقد أحدث تفجير أنقرة هزة كبيرة في الحياة السياسية في تركيا بالنظر إلى استهدافه منطقة أمنية حساسة، وسقوط عدد كبير من العسكريين، فضلا عن أنه أصاب العاصمة السياسية للبلاد، وجاء في وقت يدور الحديث فيه عن احتمال تدخل عسكري بري سعودي تركي في سوريا.

رسائل عديدة
وقد انشغلت الأوساط السياسية في تحديد الجهة التي تقف وراء التفجير، وفي تلمس الآثار والانعكاسات التي سيحدثها داخليا وخارجيا، حيث أشارت أصابع الاتهام الرسمية أن من يقف وراء التفجير، هو حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي (PYD) الذراع السوري لحزب العمال الكردستاني (PKK)، إلا أن نائب رئيس الوزراء، “يالجين أك دوغان”، اعتبر أن المسؤول الأول عن انفجار أنقرة هي الجهات الداعمة لحزب الاتحاد الديمقراطي، وأن “هذه الجهات توفر الدعم الوافر لحزب الاتحاد الديمقراطي ليعيث في أمننا واستقرارنا فسادا، وعقب سقوط ضحايا في صفوفنا يهرولون مُعزين لنا، ما هذه الازدواجية الغربية”.

“تفجير أنقرة يحمل رسائل عديدة، فهو ليس عملا إرهابيا معتادا، بل عملا احترافيا، استهدف عددا كبيرا من العسكريين الأتراك، بما يعني استهداف المؤسسة العسكرية واستفزازها وتبليغها رسالة مفادها إياك والقيام بتحرك عسكري في سوريا”

ولا شك أن التفجير يحمل رسائل عديدة، فهو ليس عملا إرهابيا معتادا، بل عملا احترافيا، استهدف عددا كبيرا من العسكريين الأتراك، بما يعني استهداف المؤسسة العسكرية واستفزازها وتبليغها رسالة مفادها إياك والقيام بتحرك عسكري في سوريا، بغية دفعها إلى الكف عن اتخاذ موقف ما، أو رد فعل حيال ما يجري في محيط تركيا الحيوي، فضلا عن إشاعة جو من انعدام الأمن.

غير أن المتحدث باسم الرئاسة التركية، إبراهيم كلن، ذهب إلى القول إن “الهجوم الإرهابي الذي شهدته العاصمة أنقرة سيؤثر في موقف تركيا من الحرب الدائرة في سوريا”، لكن الأهم هو أنه “كشف عن خطوط التصدع الجديدة”.

ويبدو أن تتبع دائرة الاستهداف التركي واسعة الطيف، لا تخرج عن امتداداتها الخارجية في الحلف المدافع عن الأسد ونظامه الاستبدادي، وتشكل شبكة تمتد خيوطها من موسكو إلى طهران ودمشق وبغداد وقنديل (جبال قنديل في شمالي العراق)، وربما تتعدى ذلك إلى عواصم أخرى، أما داخليا فيبدو الأمر ليس سهلا، بالنظر إلى المواجهة العسكرية مع كل من حزب “العمال الكردستاني”، وحزب “جبهة التحرير الشعبي الثوري”، فضلا عن المواجهة السياسية مع جماعة غولن (نسبة للداعية التركي، فتح الله غولن، المقيم في الولايات المتحدة).

وإن كانت تركيا تسير على وقع التحرك الجاد في سوريا، وهو بالتأكيد ليس بالأمر السهل مطلقا، فإن عليها تحديد خياراتها الإستراتيجية إلى جانب تأمين جبهتها الداخلية التي تُصبح هدفا للاختراق الأمني من طرف الخصوم، لذلك يأمل بعض الأتراك في عدم تمكن من يقف وراء انفجار أنقرة من ردع تركيا، ودفعها إلى التراجع عن موقفها وتحركها حيال ما يجري في سوريا، لذلك يطالبونها بأخذ الدرس والمضي قدما في تحقيق أهدافها، ذلك أن التردد أو التباطؤ في تحقيق الأهداف يفضي إلى أوجاع إستراتيجية طويلة الأمد في المنطقة.

والملاحظ هو أن أصواتا عديدة في روسيا ارتفعت، منذ إسقاط طائرة السوخوي بعد اختراقها المجال الجوي التركي للثأر من تركيا، حيث طالبت الساسة الروس بدعم حزب العمال الكردستاني وذراعه السوري حزب الاتحاد الديمقراطي للرد بشكل موجع على الاستهداف التركي للطائرة، وهناك من يرجح أن يكون تفجير أنقرة يحمل رسالة مباشرة وواضحة مفادها: هذا جزء من انتقامنا الموجع في قعر داركم، وفي قلب حزام عاصمتكم الأمني.

الثأرية والانتقام
ولعل الثأر الروسي من تركيا، بعد إسقاط طائرة السوخوي، تجسد في أول غارة لمقاتلات روسية على حلب، حين استهدفت ولعدة مرات مسجد “آغاجق” في حلب الذي بناه العثمانيون في بداية حكمهم لـ”سنجق حلب” في حي “قاضي عسكر”، لذلك يعتبر ساسة أتراك أن ما يقوم به نظام بوتين في سوريا، يمثل انتقاما تاريخيا فجا، يحمل بصمات شخصية عصابية، تسيرها عقلية تصفية حسابات أزمنة غابرة، تُذكر بتلك التي كانت تدور ما بين الإمبراطوريتين الروسية والعثمانية.

ويحتفظ العقل السياسي التركي بما كان يتمناه قياصرة روسيا الذين كانوا ينتظرون لحظة سقوط الإمبراطورية العثمانية، كي ينقضوا على “سناجقها” السورية، وخاصة حلب والموصل واسكندرونة.

ومن سخرية التاريخ أن ذلك لم يتحقق لهم رغم أنهم كانوا شركاء ومنخرطين في رسم خرائط الشرق الأوسط مع كل من بريطانيا العظمىوفرنسا، وتذللوا بخضوع أمام هاتين القوتين كي ينالوا شريطا سوريا يطل على المياه الدافئة للبحر الأبيض المتوسط، لكنهم لم يحصلوا من اتفاق سايكس بيكو إلا على سراب، وعادوا إلى قوقعتهم الباردة بخفي حنين.

“يبدو أن التوتر الروسي التركي المتصاعد حيال سوريا سيلقي بظلال ثقيلة على العلاقة التركية الأميركية والأطلسية خاصة بعد تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإغلاق قاعدة “إنجرليك”، في حال استمرار دعم إدارة أوباما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي”

وينظر القادة الأتراك إلى تدخل الروس والإيرانيين في سوريا، ليس بصفته إسنادا لديكتاتور مجرم فقط ضد شعب سوريا، بل تهديدا لهم، عبر احتلال فاقع، بات يجاورهم ويهدد خاصرتهم الجنوبية أيضا عبر دعم غير محدود لدويلة كردية، على مقاس حزب الاتحاد الديمقراطي (PYD)، بما يعني أنه يأتي استكمالا لمحاصرة مجالهم الحيوي، فضلا عن الخطر الأمني الذي بات يتهددهم، بالنظر إلى أن فلاديمير بوتين يتصرف وكأنه بلطجي، يخال نفسه قيصرا جديدا، لكن أفعاله المبنية على الثأر والانتقام تضعه في خانة مهووس بأصداء حكايا قديمة عن العظمة والأمجاد الإمبراطورية، وتسيره نزعات شوفينية ولى عهدها وانقضى.

الرد التركي
لقد عمل الروس على منع تركيا من القيام بأي دور فاعل في سوريا، خاصة بعد إسقاط طائرة السوخوي، لكن بالمقابل لم يقف حلفالناتو معها، وخذلتها إدارة الرئيس باراك أوباما، خصوصا فيما يتعلق في سعيها لإنشاء منطقة آمنة شمالي سوريا منذ عام 2013، رغم انخراطها في التحالف الدولي في الحرب ضد داعش (تنظيم الدولة الإسلامية)، وفتحها لقاعدة إنجيرليك وغيرها أمام المقاتلات الأميركية.

وقد أعطى الموقف الأميركي المخاتل والمتخاذل حيال الشعب السوري والحليف التركي الضوء الأخضر للروس والإيرانيين للإمعان في حربهم ضد غالبية السوريين، وراحوا يوغلون في تعميق المأساة السورية.

غير أن خيارات الرد التركي على الاستهداف ليست محدودة، سواء في سوريا أم في غيرها، ولعل التحالف السعودي والتركي ودخولها القوي على خط الرد على التمادي الروسي الإيراني في سوريا، سيشكل ورقة رادعة في تقويها.

ويبدو أن التوتر الروسي التركي المتصاعد حيال سوريا سيلقي بظلال ثقيلة على العلاقة التركية الأميركية والأطلسية خاصة بعد تهديد الرئيس التركي رجب طيب أردوغان بإغلاق قاعدة “إنجرليك”، في حال استمرار دعم إدارة أوباما حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي،الذي يشكل سعي الجناح العسكري له إلى دويلة مستقلة على الحدود الجنوبية مع تركيا إشكالا حقيقيا بالنسبة لأنقرة، بوصفه تهديدا للأمن الوطني للجمهورية التركية.

ولن تتغير إستراتيجية أنقرة القائمة على منع حزب العمال الكردستاني أو ذراعه السوري من إنشاء كيان كردي مستقل، خاصة وأن قيادات جبل قنديل ربما تكرر أخطاء الماضي وتورط الأكراد في رهانات خاسرة مع الروس ومع الأميركيين ومع نظام الأسد، كما حصل في أكثر مرة، الأمر الذي دفع ثمنه الإنسان الكردي والقضية الكردية في أكثر من مناسبة.

عمر كوش

الجزيرة نت