الأبعاد والتداعيات:النفوذ الإيراني في لبنان

الأبعاد والتداعيات:النفوذ الإيراني في لبنان

لبنان-وايران-

يشهد الدور الإيراني في منطقة الشرق الأوسط تطورًا ملحوظًا منذ اندلاع الثورة الإسلامية عام 1979، حيث سعت طهران بعد هذا التاريخ إلى تصدير نموذجها الثوري إلى الدول المجاورة. وقد وجدت غايتها في الأقليات الشيعية في الدول العربية، ووسعت وطورت نفوذها في هذه الدول من خلالهم. ولعل من أبرز الأمثلة في هذا الصدد حالة حزب اللـه في الدولة اللبنانية، والذي يشكل أحد الأذرع العسكرية لإيران في المنطقة العربية.
وقد ترسخت تلك العلاقة وتسارعت وتيرة تطورها في السنوات الأخيرة، خاصة في ظل الحالة الحرجة التي تمر بها المنطقة، والتنافس القوي بين طهران والرياض على مناطق النفوذ والتأثير. وقد كان لهذا بالطبع عدد من التداعيات على الداخل اللبناني تمثلت في حالة من عدم الاستقرار والتخبط السياسي نتيجة لتعدد الولاءات.
أولًا: دوافع الاهتمام الإيراني بلبنان
تعددت الدوافع والأسباب الإيرانية للاهتمام بالدولة اللبنانية، وهذا الاهتمام يرجع بالأساس إلى الرغبة الإيرانية الملحة في تعظيم مناطق النفوذ التابعة لها بالمنطقة والتي ارتبطت بقيام الثورة الإسلامية في إيران.
دوافع داخلية: وتتمثل في الحاجة إلى تقوية الجبهة الداخلية الإيرانية والتوحد حول هدف واحد وهو ذلك المتعلق بمناصرة ومساندة الجماعات الشيعية المضطهدة على حسب تعبيرهم في المنطقة. ويكمن وراء ذلك الهدف رغبة خفية تتعلق بالحفاظ على الهيكل العام للنظام السياسي الذي وضعته الثورة الإسلامية، والذي يأتي على قمته المرشد الأعلى. لذلك فقد تبنت الثورة الإيرانية شعارًا يسمى “الصرخة” هو “اللـه أكبر… الموت لأمريكا… الموت لإسرائيل… اللعنة على اليهود …النصر للإسلام”، من أجل استقطاب تعاطف الشعوب العربية في المنطقة، وجعل النموذج الإيراني “الثورة” هو النموذج الأمثل الذي يتطلع لنصرة الإسلام، وبالتالي تقوية النظام داخليًا وتوفير بوتقة الأمان له.وبالفعل فقد حققت هذه الشعارات نجاحًا كبيرًا، وأكسبت إيران قاعدة شعبية بين شعوب المنطقة في بادئ الأمر، واعتبروها قدوة يجب على الدول العربية الاحتذاء بها. وبعد أن أوجدت إيران لنفسها الأرضية الخصبة للتحرك من خلال الشعارات السابق ذكرها، عمدت إلى تشكيل مجموعة من الحركات المؤيدة لها في العالم العربي، فأنشأت حزب اللـه في لبنان، والحركة الحوثية في اليمن.
دوافع إقليمية: وهذا الشق يتعلق بصورة أساسية بتقوية وتوسيع النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، وهو يتعلق ببعدين أساسيين وهما؛ الأول: تصدير الثورة الإيرانية إلى دول الإقليم من أجل تعزيز وتقوية النفوذ الإيراني في العالم العربي ومحاصرة المشروعات الأخرى التي تسعى لاحتواء الدور الإيراني. والثاني: هو ذلك البعد المتعلق بفكرة نشر التشيع، والتي كانت لبنتها الأساسية تتمثل في الاعتماد على الطوائف الشيعية الموجودة في العالم العربي من أجل تحقيق ذلك الهدف، وهذا البعد يستهدف بالطبع تكوين كيانات شيعية قوية في الدول العربية لمساندة السياسات الإيرانية في المنطقة، وليس بأدلة على ذلك من حالة حزب اللـه اللبناني الذي ينخرط وبقوة في الحرب الدائرة في الدولة السورية بأمر مباشر من نظام ولاية الفقيه في طهران، بل إذا أردنا مزيدًا من الدقة يمكن القول أن حزب اللـه يمثل الذراع العسكرية الأولى للدولة الإيرانية في الوطن العربي، وهذا يظهر بوضوح في الدور الإيراني في تأسيس ذلك الحزب الذي انبثق عن حركة أمل اللبنانية، وفي البيان التأسيسي لنشأة الحزب الذي يعكس الهوية الإيرانية لحزب اللـه، والتماهي بين الحزب والنظام الإسلامي في طهران. وليس ثمة شك في هذا الإطار أن الدولة الإيرانية قد نجحت وبشدة في تحقيق أهدافها المتعلقة بإنشاء كيانات قوية مساندة لها في المنطقة، على شاكلة حزب اللـه في لبنان، والحركة الحوثية في اليمن، والسيطرة التامة على العراق، بالإضافة إلى تأجيج الكيانات والطوائف الشيعية على حكامها في عدد من الدول الأخرى مثل البحرين والكويت والسعودية.
ثانيًا: تطور النفوذ الإيراني في لبنان
• ما قبل اتفاق الطائف: قامت الثورة الإيرانية ولبنان كان يعاني من حرب أهلية ضروس اندلعت عام 1975 ودامت لأكثر من 15 عامًا، وبعد أن نجحت الثورة وتشكلت ملامح النظام السياسي الإيراني، تحولت طهران نحو دول الإقليم ومن بينها لبنان، والتي كان توجد بها طائفة شيعية كبيرة في ذلك الوقت تتركز في الجنوب اللبناني. وقد استغلت طهران حادث الاجتياح الإسرائيلي للبنان عام 1982 فقامت بإرسال مجموعة من الحرس الثوري إلى وادي البقاع اللبناني، وقد اتصلت هذه المجموعة بالتيار الموالي لطهران داخل حركة أمل، وتم الاتفاق على تشكيل حزبًا أو حركة جديدة موالية لنظام ولاية الفقيه، فكان انشقاق حزب اللـه عن حركة أمل والإعلان عن تأسيسه عام 1985. حيث لم تعتمد إيران على حركة أمل الشيعية التي أسسها موسى الصدر، لأن الحركة لم تكن على درجة كبيرة من التوافق مع مشروع تصدير الثورة الإيرانية. ومنذ ذلك التاريخ وحزب اللـه يتلقى دعمًا إيرانيًا على كل المستويات السياسية والمالية والإعلامية والعسكرية.
• ما بعد اتفاق الطائف: تطور النفوذ الإيراني في لبنان بعد اتفاق الطائف عام 1989، والذي أدى إلى إنهاء الحرب الأهلية ونزع السلاح من كل الميلشيات المسلحة عدا حزب الله، حيث لم ينزع منه السلاح تحت دعوى أنه حركة مقاومة. ومن هنا فقد استغلت طهران هذه الحالة لتقديم مزيد من الدعم للحزب. ولكن اصطدم الطموح الإيراني في تلك الفترة بالنفوذ السوري في لبنان والذي كان يدعم حركة أمل ذات الموقف المعارض للسياسات الإيرانية في لبنان. لذلك يمكن القول أن النفوذ الإيراني في لبنان قد تعثر بعض الشيء في تلك الفترة نتيجة للصدامات التي قامت بين حركة أمل وحزب الله، والتي استمرت 10 سنوات وانتهت لصالح حزب اللـه.
• عقب الانسحاب السوري من لبنان: عمقت إيران من وجودها في لبنان عقب اتفاق الطائف والتفاهمات التي جرت مع النظام السياسي السوري خاصة مع وصول بشار الأسد إلى سدة الحكم في دمشق عام 2000، ولذلك فقد واجه النفوذ الإيراني في لبنان مأزقًا صعبًا عقب الخروج السوري من لبنان على خلفية تفجير موكب رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري، لأنها كانت تعتمد بصورة مباشرة على الحليف السوري لتقوية نفوذها في الداخل اللبناني، لذلك حاولت طهران ملء ذلك الفراغ من خلال الدعم القوي لحزب اللـه ضد العدوان الإسرائيلي عام 2006 على المستوى المالي والإعلامي، وكذلك المشاركة في جهود إعمار ما دمرته الحرب، ومحاولة التنسيق مع المسئولين اللبنانيين لبحث كيفية مساعدة طهران للشعب اللبناني.
• الفترة الحالية: وهي تعتبر من أكثر الفترات التي تعكس تطور النفوذ الإيراني في الداخل اللبناني، وقد ارتبط هذا بالطبع بحالة عدم الاستقرار السياسي التي تعاني منها الدول العربية وانتشار الجماعات الإرهابية بعد موجة الثورات. حيث وجدت طهران الفرصة أمامها سانحة لإنجاح ترتيباتها في المنطقة، واستغلت في ذلك حزب اللـه وأدواته الإعلامية والثقافية والعسكرية لدعم السياسات الإيرانية، فعلى سبيل المثال نجحت طهران في إشراك حزب اللـه في الحرب السورية للحفاظ على نظام بشار الأسد حليفها الأول في المنطقة، كما جعلت حزب اللـه يكرس أدواته الإعلامية للدفاع عن الطوائف الشيعية في العالم العربي مثل الحوثيين وشيعة البحرين والسعودية والكويت. وقد ارتبط هذا بعامل آخر وهو التوصل لاتفاق نووي مع مجموعة (5+1)، والذي فتح المجال رحبًا أمام طهران لتعضيد نفوذها وتقويته في الشرق الأوسط.
ثالثًا: وسائل وأدوات الدعم الإيراني لحزب اللـه
لا شك أن طهران اعتمدت على الكثير من الأدوات لدعم حزب اللـه، سواء على المستوى السياسي أو الإعلامي أو الاقتصادي، وكذلك المالي.
• سياسيًا: تدعم إيران حزب اللـه سياسيًا من خلال التأكيد على أنه حركة مقاومة تستهدف تحرير الدولة الفلسطينية من الاحتلال الإسرائيلي، وكانت تقف وراء محاولة تحويل الحزب من مجرد حركة مقاومة عسكرية إلى المشاركة في الحياة السياسية اللبنانية عقب اتفاق الطائف، وبالفعل شارك الحزب في بداية الأمر في الانتخابات البرلمانية اللبنانية بعد انتهاء الحرب الأهلية وفاز بـ 11 مقعدًا في البرلمان. ووصل الدعم السياسي الإيراني لحزب اللـه ذروته في أكتوبر 2010 عندما زار أحمدي نجاد الدولة اللبنانية، وألقى خطابه في منطقة بنت جبيل المعقل الرئيسي لحزب اللـه. كما اتخذت إيران موقفًا حاسمًا من إعلان حزب اللـه منظمة إرهابية، حيث رفضت هذا القرار شكلًا وموضوعًا واعتبرته قرارًا غير مسئول يخدم بالدرجة الأولى مصالح الكيان الصهيوني.
• ثقافيًا: حيث لا تتوانى طهران عن تقديم الدعم الثقافي والإعلامي لشيعة لبنان وذلك بالتنسيق مع حزب اللـه، حيث يحرص النظام الإيراني على الوجود الثقافي في المناسبات المشتركة مع شيعة لبنان، ومنها الاحتفال بيوم القدس العالمي الذي يكون عادة برعاية المستشارية الثقافية الإيرانية في لبنان، بجانب المناسبات الشيعية الأخرى. كما تنشط عدد من المؤسسات الإيرانية الثقافية داخل لبنان مثل جمعية مراكز الإمام الخميني الثقافية، والتي لها فروع في بيروت وضواحيها وفي الجنوب والبقاع ويصل عددها إلى 15 فرع داخل الدولة اللبنانية. كما أنشأت إيران عددًا من المؤسسات التعليمية التي تلعب دورا في العملية التعليمية داخل لبنان منها جامعة أزاد الإسلامية، ومعهد الرسول الأكرم والسيدة الزهراء، والمدرسة الإيرانية للبنات والمدرسة الإيرانية للبنين، والمؤسسة الإسلامية للتربية والتعليم. وعدد آخر من المراكز البحثية والثقافية التي يُشرف عليها حزب اللـه اللبناني، ومنها المركز الاستشاري للدراسات والتوثيق، ومركز الإمام الخميني الثقافي، وجمعية “قيم” وجمعية “أمان”.
• إعلاميًا: في هذا الإطار تقدم طهران الدعم المالي والمعنوي للصحف والقنوات التي تسعى إلى نشر الثقافة الإيرانية ومبادئ الإمام الخميني ونشر المذهب الشيعي في لبنان والتي تساند سياسات حزب اللـه. ومن تلك القنوات التي ساعدت إيران في تأسيسها وتقدم لها كل أوجه الدعم المالي والمعنوي قناة المنار التابعة لحزب اللـه، وقناة إن بي إن التابعة لحركة أمل. ومن الصحف التي تمولها إيران داخل لبنان صحيفة بيت الله التابعة لجمعية المعارف الإسلامية، صحيفة الحياة الطيبة التابعة لمعهد الرسول الأكرم. كما قامت إيران بتمويل عدد من القنوات الفضائية التي تبث من لبنان برعاية حزب اللـه، لدعم المكونات الشيعية في العالم العربي، مثل قناة المسيرة الحوثية والاتجاه المؤيدة لميلشيات الحشد الشعبي في العراق وقنوات الثبات والقدس وفلسطين اليوم والميادين.
• ماليًا وعسكريًا: منذ نشأة حزب اللـه وهو يتلقى الدعم المالي من إيران، والذي قٌدًر في بعض الأوقات بـ 200 مليون دولار سنويًا، وقد تأرجح هذا الدعم بين الفينة والأخرى نتيجة نظام العقوبات المفروض على طهران، ومن المتوقع أن يعود هذا الدعم بصورة أقوى مما كان عليها بعد رفع العقوبات عن إيران عقب توقيع الاتفاق النووي. وعلى المستوى العسكري تسهم إيران في تدريب ميلشيات حزب اللـه، وإمدادها بالسلاح من خلال التنسيق بين الجانب السوري والحرس الثوري الإيراني. وتحاول إيران في الفترة الأخيرة تكريس وجودها العسكري في لبنان بصورة أكبر من خلال عرضها تسليح الجيش اللبناني لتحل محل الرياض على خلفية الأزمة الأخيرة التي علقت فيها المملكة العربية السعودية مساعدتها للدولة اللبنانية.
رابعًا: تداعيات النفوذ الإيراني على الداخل اللبناني
يتضح للعيان أن النفوذ الإيراني داخل الدولة اللبنانية قد أثر كثيرًا على مجمل الأوضاع الداخلية في بيروت لا سيما مع حالة عدم الاستقرار التي تعيشها الدول العربية، وقد اتضح ذلك في جملة من الأمور منها حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني في لبنان.
• عدم الاستقرار السياسي والأمني: حيث عجزت الدولة اللبنانية منذ 25 مايو 2014 عن انتخاب رئيس للجمهورية من خلال مجلس النواب لعدم اكتمال النصاب القانوني للحضور، والذي يتطلب حضور ثلثي الأعضاء البالغ عددهم 120 عضوًا. حيث أرجأ رئيس البرلمان، نبيه بري، جلسة انتخاب رئيس الجمهورية التي كانت مقررة في 2 مارس 2016 إلى 23 مارس. ومن المعروف أن مجلس النواب تتنازعه قوتان أساسيتان وهما قوى 14 آذار المناهضة لحزب اللـه ودمشق، وقوى 8 آذار المدعومة من دمشق وطهران، ومازالت هذه الأزمة السياسية غير محسومة حتى هذه اللحظة بسبب مقاطعة نواب حزب اللـه وحلفائه حضور جلسة اختيار الرئيس. وعلى المستوى الأمني تواجه لبنان مأزقًا أمنيًا حرجًا نتيجة لتورط حزب اللـه في الحرب السورية، مما أجج الميلشيات الإرهابية ضد لبنان كداعش والنصرة، وقد ظهر هذا جليًا في الهجمات الإرهابية على الجنود اللبنانيين في منطقة عرسال.
• النمط التصويتي اللبناني على القرارات التي تخص الدولة الإيرانية وحلفاءها: بالطبع أثر النفوذ الإيراني في لبنان على النمط التصويتي لها داخل جامعة الدول العربية فيما يتعلق بالقرارات التي تمس إيران أو حلفاءها في المنطقة، حيث امتنعت لبنان على التصويت على قرار وزراء الخارجية العرب، والذي أكد على التضامن الكامل مع السعودية وإدانة الاعتداءات على سفارتها في طهران وقنصليتها في مدينة مشهد الإيرانية. كما تحفظت لبنان على قرار وزراء الخارجية العرب في 11 مارس 2016 والذي صنف حزب اللـه منظمة إرهابية، وقد سبقه قرار مماثل على مستوى وزراء الداخلية العرب في ختام دورتهم 33 في تونس في 2 مارس 2016، والذي تحفظت عليه لبنان أيضًا.
• توتر العلاقات اللبنانية- الخليجية: فقد توترت العلاقات اللبنانية- الخليجية في الآونة الأخيرة نتيجة للنمط التصويتي اللبناني على قرارات الجامعة العربية السابق ذكرها، خاصة بعد الاعتداء على السفارة السعودية في إيران. فعلى إثر امتناع لبنان عن التصويت على قرار وزراء الخارجية العرب الذي ناهض الأعمال الاستفزازية والتصريحات العدائية الإيرانية في المنطقة داخل جامعة الدول العربية ومنظمة المؤتمر الإسلامي، أوقفت المملكة مساعداتها لتسليح الجيش اللبناني، كما طالبت وزارة الخارجية السعودية مواطنيها بعدم السفر إلى بيروت. وقد سار عدد من الدول الخليجية في فلك الرياض، حيث دعت كل من الإمارات والبحرين وقطر والكويت مواطنيها إلى عدم السفر إلى لبنان، وحثت الموجودين هناك على سرعة المغادرة، وخفضت كل من الإمارات والبحرين تمثيلهما الدبلوماسي في لبنان.

إبراهيم منشاوي

المركز العربي للبحوث والدراسات