أخبار العراق “السمينة”

أخبار العراق “السمينة”

11828800_10153638178932668_1793769804484305404_n-655x360
يشرح بحث طريف تأثير الجملة الاستهلالية في النص الروائي على قارئه، ويخلص إلى أن القارئ، إذا ما أسرته هذه الجملة، لا يترك الرواية إلا بعد أن يفرغ من آخر سطر فيها، فيما قد يلقي بالكتاب جانباً إذا لم تحمل الجملة الأولى على ما يأسره. يعطينا مثالاً، فقد بدأ غابرييل غارسيا ماركيز روايته “الحب وشياطين أخرى” بهذا الاستهلال: “لم يحمل السادس والعشرون من أكتوبر/ تشرين الأول من عام ألف وتسعمئة وتسعة وأربعين أخباراً مهمة …”. يعقب الباحث “أن ماركيز أراد، بهذا الاستهلال البسيط والسريع، أن يضعنا في دائرة توقع أحداثٍ ووقائع مثيرة، من خلال هذه التورية، وأن يجعلنا نتساءل: ما هي الأخبار المهمة المتوقعة؟ هنا يكون ماركيز قد حقق هدفه، فقد أصبح من المستحيل علينا أن نترك قراءة الرواية، إلا بعد أن نفرغ من آخر كلمة فيها”.
ذكّرتني ملاحظة الباحث بزميلٍ، كان يعمل معنا مخبراً في صحيفةٍ عراقيةٍ أيام زمان، اعتاد أن يطلق وصف “السمينة” على الأخبار المهمة والمثيرة التي يحصل عليها في جولته بين أروقة الدوائر الحكومية، مردّداً، عند عودته بحصيلته، أن أخباره اليوم “سمينة”. كان هذا الوصف يجعلنا، نحن المحرّرين، نتلهف لمعرفة ما في جعبته من تلك الأخبار، فيما كنا لا نأبه لسماع أخباره، إذا كان وشّحها مسبقاً بأنها عادية، لا تغني ولا تسمن، وهو يبرّر فشله في اصطياد الأخبار “السمينة” بأن الذنب ليس ذنبه، وإنما واقع الحال يفرض ذلك، إلى درجة أن الأخبار “السمينة” لم تكن تملأ سلة الخوص المستخدمة في نقل المواد الصحافية بين أقسام التحرير والمطبعة، والمربوطة بحبلٍ على سياج الخشب القائم في الطابق العلوي الذي يشغله المحرّرون، فيما تحتل المطبعة حوش المبنى العتيق، والرابط بينهما سلم مهترئ من الطابوق الأحمر المرصوف الذي اكتسى، من طول عمره، بلون التراب الأسمر، وكنا كلما صعدنا، أو نزلنا، تملكتنا الخشية من أن تنزلق أقدامنا، فنهوي إلى القاع.
تغيّر الحال اليوم، وأخبار العراق “السمينة” هذه الأيام كثيرة، تكاد تملأ أكثر من سلةٍ بمقياس

الأيام الخوالي، إلى درجة أن المواطن العراقي المتلقي لها يحتار في تقرير أيٍّ منها “أسمن” من الآخر، وهي تنهال عليه أربعاً وعشرين ساعة، متدفقةً من عشرين محطة أرضية، وأكثر من خمسين قناة فضائية، أضف اليها القنوات الفضائية العربية المعروفة، وأيضاً فقد جعل هذا الحال المواطن المغلوب على أمره لا يعرف أي مستقبلٍ ينتظره، وأي مآل تتجه إليه بلاده.
في مراجعةٍ ليوميات الأخبار العراقية، نعرف أن عشرات الألوف يعتصمون أمام بوابات المنطقة الخضراء، معلنين أنهم لن يبرحوا أماكنهم إلا بعد تنفيذ الإصلاح الشامل والكامل، فيما تغلق السلطات الأمنية البوابات باستثناء منفذ (الحارثية) المؤدي إلى مطار بغداد الدولي. ومصادر موثوقة ترصد هروب مسؤولين وموظفين كبار مع أسرهم إلى خارج البلاد، ونسمع عن خلافاتٍ داخل “التحالف الشيعي” الحاكم، وتراشق بين الصدر راعي الاعتصام، وزعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، عبر البيانات، وهو يعتبر المعتصمين لا يمثلون إرادة الشعب، والصدر يعطي مهلة أيام لتنفيذ الإصلاحات، أو اقتحام المنطقة الخضراء، والمجيء بحكومةٍ جديدة، وإياد علاوي يدعو إلى (مجلس إنقاذ) يضم الرئاسات الثلاث، والكتل السياسية الكبيرة، من أجل إنقاذ “العملية السياسية” التي توشك على الانهيار، وتحقيق مصالحةٍ وطنيةٍ، وحيدر العبادي يقول إنه ماضٍ في خطته نحو تشكيل حكومة التكنوقراط، وحكومة كردستان تبشر باستقلال قريب.
وفي المراجعة أيضاً، انقسام وشيك في المؤسسة العسكرية، وقيادة “الحشد الشعبي” تدعو إلى الاحتكام لصناديق الاقتراع، وسرايا تابعة للصدر تساند المعتصمين، وثمّة تقارير عن انضمام ضباط وجنود إلى الاعتصامات، بعد عزل قائد قوات بغداد، واعتقال عسكريين، وتوقع مواجهات مسلحة. وفي جديد الأخبار، إعلان الجيش الأميركي إرسال قوةٍ ضاربةٍ من مشاة البحرية بأعداد هائلة إلى العراق، وتواتر الحديث عن وصول مسؤولين إيرانيين كبار إلى بغداد، في مساعي تهدئة بين الأطراف.
كل هذه الأخبار “سمينة” ومثيرة ومهمة. لكن، وراء هذه الأخبار أخبار أخرى أكثر “سمنةً” وإثارةً وأهميةً، ما يزال العراقيون ينتظرونها، وهي وصول “العملية السياسية” الطائفية التي هندسها الأميركيون، وتابعوهم المحليون، إلى نهايتها الحتمية، وإصدار شهادة وفاتها، وتأسيس عملية سياسية وطنية لإنقاذ العراق، وإعادته بلداً مستقلاً وفاعلاً، وضمان الحياة الكريمة لأبنائه من دون تمييز، وقد تكون هذه الأخبار مفاجئة لبعضهم، لكن مفاجآت العراق ليست قادمةً فحسب، إنما هي قائمة بالفعل.

عبداللطيف السعدون
صحيفة العربي الجديد