في ذكرى وفاة بديع الزمان النورسي: “رسائل النور”

في ذكرى وفاة بديع الزمان النورسي: “رسائل النور”

tyrkey-post-bediuzzaman-said-nursi-cumhuriyet-cumhuriyetci-ataturk1

في قرية “نورس” التابعة لولاية “بتليس” شرق الأناضول، ولد سعيد النورسي سنة 1293هـ / 1876م.  تتلمذ على يد أخيه الكبير “الملا عبد الله”، واقتصرت دراسته في هذه الفترة على الصرف والنحو، ثم بدأ يتنقّل في القرى والمدن بين الأساتذة والمدارس، ويتلقى العلوم الإسلامية من كتبها المعتبرة بشغف عظيم، يرفده ذكاؤه الذي اعترف به أساتذته جميعهم بعد امتحانات صعبة كانوا يجرونها له،  واجتمع له مع الذكاء قوة الحافظة؛ إذ درس وحفظ كتاب “جمع الجوامع” في أصول الفقه في أسبوع واحد.

ولم تلبث شهرة هذا الشاب أن انتشرت بعد أن فاق في مناقشاته علماء منطقته جميعا، فسمّوه “سعيد المشهور”. ثم ذهب إلى مدينة “تِللو” حيث اعتكف مدّة في إحدى الزوايا، وحفظ هناك القاموس المحيط للفيروز أبادي إلى باب السين.

ذهب “الملا سعيد” في سنة 1892 إلى “ماردين”؛ حيث بدأ يلقي دروسه في جامع المدينة، ويجيب على أسئلة الناس، فوشي به إلى الوالي، فأصدر أمرا بإخراجه، وسيق إلى “بتليس”، فلما عرف واليها حقيقة هذا الشاب العالم ألحّ عليه أن يقيم معه، وهناك وجد الفرصة سانحة لمطالعة الكتب العلمية؛ لاسيما علم الكلام، والمنطق، وكتب التفسير، والحديث الشريف، والفقه، والنحو حتى بلغ محفوظه من متون هذه العلوم نحو ثمانين متنا.

وفي سنة 1894 ذهب إلى مدينة “وان” وانكبّ فيها بعمق على دراسة كتب الرياضيات، والفلك، والكيمياء، والفيزياء، والجيولوجيا، والفلسفة، والتاريخ، حتى تعمّق فيها إلى درجة التأليف في بعضها فسمّي بـ”بديع الزمان” اعترافا من أهل العلم بذكائه الحاد، وعلمه الغزير، واطلاعه الواسع.

غيرته على الإسلام، وإنشاؤه جامعة إسلامية
وفي هذه الأثناء نُشر في الصحف المحلية أن وزير المستعمرات البريطاني “غلادستون” قد صرّح في مجلس العموم البريطاني وهو يخاطب النواب قائلا: “ما دام القرآن بيد المسلمين فلن نستطيع أن نحكمهم، لذلك فلا مناص لنا من أن نزيله من الوجود، أو نقطع صلة المسلمين به”، زلزل هذا الخبر كيانه وأقضّ مضجعه، فأعلن لمن حوله: “لأبرهنن للعالم بأن القرآن شمس معنوية لا يخبو سناها، ولا يمكن إطفاء نورها”.

فشد الرحال إلى إسطنبول عام 1907 وقدّم مشروعا إلى السلطان عبد الحميد الثاني لإنشاء جامعة إسلامية في شرق الأناضول، أطلق عليها اسم “مدرسة الزهراء” –على غرار الأزهر الشريف– تنهض بمهمة نشر حقائق الإسلام، وتدمج فيها الدراسة الدينية مع العلوم الكونية، في ضوء مقولته المشهورة: “ضياء القلب هو العلوم الدينية، ونور العقل هو العلوم الكونية الحديثة، وبامتزاجهما تتجلى الحقيقة، وبافتراقهما تتولد الحيل والشبهات في هذا، والتعصب الذميم في ذاك”.

وكانت شهرته العلمية قد سبقته إلى هناك فتجمّع حوله الطلبة والعلماء يسألونه وهو يجيب في كل فن بغزارة نادرة، فاعترف له الجميع بالإمامة، وبأنهم لم يشاهدوا في علمه وفضله أحدا، حتى أن أحدهم عبّر عن إعجابه الشديد بعد أن اختبره اختبارا دقيقا، قال: “إن علمه ليس كسبيا، وإنما هو هبة إلهية وعلم لدنيّ”.

وفي سنة 1911 ذهب إلى بلاد الشام، وألقى خطبة بليغة على منبر الجامع الأموي، دعا فيها المسلمين إلى اليقظة والنهوض، وبيّن فيها أمراض الأمة الإسلامية وسبُل علاجها، ثم رجع إلى إسطنبول، وعرض مشروعه بخصوص الجامعة الإسلامية على السلطان “رشاد”، فوعده السلطان خيرا، وفعلا خُصّص المبلغ، وشرع بوضع الحجر الأساس للجامعة على ضفاف بحيرة “وان”، غير أن الحرب العالمية الأولى حالت دون إكمال المشروع.

حميته في الحرب ودفاعه عن وطنه
وعلى الرغم من معارضة سعيد النورسي لدخول الدولة العثمانية الحرب، فإنه حالما أُعلنتْ اشترك هو وطلابه فيها ضدّ روسيا القيصرية المهاجِمة من جهة القفقاس، وعندما دخل الجيش الروسي مدينة “بتليس” كان بديع الزمان يدافع مع طلابه عن المدينة دفاعا مستميتا، حتى جُرح جرحا بليغا، وأُسر من قبل الروس، وسيق إلى معتقلات الأسرى في سيبيريا.

وفي الأسر استمر بإلقاء دروسه الإيمانية على الضباط الذين كانوا معه، والبالغ عددهم 90 ضابطا، ثم هرب من الأسر بأعجوبة نادرة، وبعناية ربانية واضحة، ومرّ في طريقه بـ”وارشو” فألمانيا وفينا، وعندما وصل إلى إسطنبول مُنح وسام الحرب، واستقبل استقبالا رائعا من قبل الخليفة وشيخ الإسلام والقائد العام وطلبة العلوم الشرعية.

وكلّفته الدولة بتسلّم بعض الوظائف، رفض جميعها إلا ماعينته له القيادة العسكرية من عضوية في “دار الحكمة الإسلامية”، التي كانت لا توجّه إلا لكبار العلماء، فنشر في هذه الفترة أغلب مؤلفاته باللغة العربية؛منها تفسيره القيّم “إشارات الإعجاز في مظان الإيجاز” الذي ألفّه في خِضَمّ المعارك، و”المثنوي العربي النوري”

كتاب “الخطوات الست”… مقاومة القلم
وبعد دخول الغزاة إلى إسطنبول أحسّ النورسي أن طعنة كبيرة وجّهت إلى العالم الإسلامي، ولذلك شمّر عن ساعد الجد، فبدأ بتأليف كتابه “الخطوات الست”، هاجم فيه الغزاة بشدة، وأزال دواعي اليأس الذي خيّم على كثير من الناس.

ولشهرته الواسعة وجهاده المتواصل دُعي إلى أنقرة عدة مرات، فتوجّه إليها سنة 1922، حيث استقبل في محطة القطار بحفاوة من قبل أركان الدولة. ولكن سرعان ما خاب ظنه بمن دعوه؛ إذ وجد أن معظمهم لا يؤدون الفرائض الدينية، فتوجّه إلى المجلس النيابي “مجلس المبعوثان”، وألقى خطابا مؤثرا استهلّه بـ: “أيها المبعوثون، إنكم لمبعثون ليوم عظيم!”، وهناك عرض أيضا مشروع إنشاء الجامعة الإسلامية، فلقي القبول، إلا أن ظروفا سياسية حالت دون إكمال المشروع.

من عزلته خرجت “رسائل النور”
في سنة 1923 توجّه بديع الزمان إلى مدينة “وان”، واعتزل الناس في جبل “أرَك” القريب من المدينة طوال سنتين متعبدا ومتأملا، ورغم ذلك لم ينجُ من شرارة الفتن والاضطرابات، فنُفي مع الكثيرين إلى “بوردور” جنوب غرب الأناضول، ثم نفي وحده إلى ناحية نائية وهي “بارلا”، ووصل إليها في شتاء سنة 1926، فظن أعداء الايمان أن سيُقضى عليه هناك في “بارلا”، ويخمد ذكره، ويطويه النسيان، ويجفُ هذا النبع الفياض.

ولكن الله سبحانه وتعالى لطيفٌ بعباده، فرعاه بفضله وكرمه، حتى غدت “بارلا” مصدر إشعاع عظيم لنور القرآن؛ إذ ألّف الأستاذ النورسي هناك معظم “رسائل النور”، وتسرّبت هذه الرسائل عن طريق النسخ اليدوي، وانتشرت من أقصى تركيا إلى أقصاها؛ إذ ما كان الأستاذ النورسي يُساق من منفى إلى آخر، ويُزج في السجون والمعتقلات في عديد من ولايات تركيا طوال ربع قرن من الزمن، إلاّ ويقيّضُ الله من ينسخ هذه الرسائل، وينشر هذا الفيض الإيماني، حتى أيقظت روح الإيمان الراكدة لدى أهل الإيمان وأرستها على دعائم علمية ومنطقية في غاية البلاغة، بحيث يفهمه العوام، ويتزود منه الخواص.

وهكذا استمر العلامة النورسي بتأليف “رسائل النور” حتى سنة 1950، فأصبحت في أكثر من 130 رسالة، جُمعت تحت عنوان “كليات رسائل النور”، التي تضم أربع مجموعات أساسية؛ هي: الكلمات، المكتوبات، اللمعات، الشعاعات… وغيرها من المجموعات التي لم يتيسّر لها أن ترى طريقها إلى المطابع إلا بعد سنة 1954، وكان الأستاذ النورسي يُشرف بنفسه على الطبع، حتى كمل طبع الرسائل جميعها.

وفاته
توّفي سعيد النورسي في الخامس والعشرين من رمضان المبارك سنة 1379 هـ الموافق 23 آذار 1960م، فدفن في مدينة “أورفة”. ولكن السلطات العسكرية الحاكمة في تركيا آنذاك، قامت بعد أربعة أشهر من وفاته بهدم القبر، ونقل رفاته بالطائرة إلى جهة مجهولة، وبعدها أعلنوا منع التجول في مدينة “أورفة”، فأصبح قبره مجهولا، لا يعرفه الناس حتى اليوم.

تركيا بوست