عن بلادٍ تُساق إلى حتفها

عن بلادٍ تُساق إلى حتفها

View_Baghdad_Iraq

أحدّثكم عن بلادٍ تسقط في متاهةٍ لا قرار لها، يشعر مواطنها بالخذلان، وهو يرى الأزمات التي تحيط به تكبر وتتناسل مدار الساعة، كل أزمةٍ تمر تلد أخرى: أزمة كهرباء، أزمة خدمات، أزمة موارد، أزمة نازحين، أزمة نزاهة، أزمة أمن، أزمة “داعش”، أزمة حكومة. وأخيراً، أزمة برلمان، هو في وضعٍ لا يملك فيه ما يعينه على مواجهة كل تلك الأزمات سوى أن يشدّ على الجراح، ويدمن الانتظار والصبر، ويسعى إلى مغالبة الزمن الرديء الذي أوقعه بين براثن احتلالين، ليس ثمّة ما هو أقسى منهما ولا أمرّ.
أحدثكم عن ثلاثة عشر عاماً من العذابات، والخراب، والقتل، واللصوصية التي لم تدفع إلى استخلاص الدروس والعبر. على العكس، ربما تكون قد جرّت بعضهم الى القبول باختبار جديد للسياسيين القابضين على السلطة، وتجار الطوائف الذين يمنحونهم البركة والغفران، لعل أحداً من هؤلاء أو من أولئك يملك “عصا موسى” التي تمسك بكل تلك الأزمات، وتلقي بها أرضاً. في آخر المطاف، اكتشف الجميع أنه لا هؤلاء ولا أولئك، يمكن أن يكونوا في وارد البحث عن حل، لأن أي حلٍّ يعني خسارتهم سلطة القرار، أو لسلطة الفتوى. وبالتالي، تعرّضهم للحساب عما اقترفوه من خطايا. عندها، أدرك المواطن الغلبان أن ما يطرحه السياسيون عن “حكومة تكنوقراط” أو “حكومة إنقاذ” أو “حكومة أقطاب”، أو حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة، أو حتى الدعوة إلى اعتصامات مبرمجة، ترفع شعاراتٍ كاذبة، ظهرت وكأنها مسرحية كوميدية، معروفة بدايتها كما معروفة نهايتها، أدرك أن هذا كله ليس سوى هواء في شبك.
أحدّثكم عن سياسيين يتبادلون التهم، ويتنابزون بالألقاب في وضح النهار، ثم يعودون على موائد الليل أولياء حميمين.
أحدثكم عن مراجع دينية، تصطنع موالاة المواطن الغلبان، تهدّد وتتوعد، وسرعان ما تتراجع وتستسلم وتستكين.

أحدّثكم عن مساعٍ تجري في غرفٍ مظلمة، لتسويق بضاعةٍ قديمةٍ ثبت فسادها، شعارُها أن أميركا وحدها تمسك بأوراق اللعبة، وإذا ما أراد العراقيون حلاً لأزماتهم لن يجدوا سوى أميركا ناصراً ومعيناً. ولذلك نشطت فعاليات معروفة، وعقدت مؤتمراتٌ في عواصم تطمع في الحصول على حصةٍ من النهب المبرمج، وارتفعت أسهم سياسيين وإعلاميين، ورجال أعمال، وشيوخ عشائر، وضباط سابقين، توجه بعضهم إلى واشنطن، لطرح خدماتهم مباشرةً على الإدارة الأميركية التي لم تعد تثق في الذين يتسكعون على بوابات مدنها، بعدما عرفت كثيرين مثلهم.
أحدّثكم عن عديد ممن عرفوا بمعارضتهم للعملية السياسية الطائفية الماثلة، أو حتى بعض من حملوا راية المقاومة المسلحة لقوات الاحتلال، وقد ارتدت عيونهم اليوم نحو واشنطن، وآثروا العزف على النغمة القديمة الجديدة نفسها في دعوة أميركا إلى التدخل لإصلاح الحال، وكأن عودة البرابرة أصبحت نوعاً من الحل، أو ربما الحل كله.
دعا عزت الدوري أكبر مساعدي الرئيس الراحل صدام حسين، والرجل الأول في حزب البعث، أميركا في خطاب له أخيراً إلى “أن تتحرك لإنقاذ العراق وشعبه من الهيمنة، والسيطرة والاحتلال الإيراني، وإيقاف نزيف الدم والهدم والحرق والتدمير الديموغرافي”. هنا، يحار المرء في تفسير مبرّرات هذه الثقة المستعادة في مصداقية أميركا في ما تزعمه عن مساعٍ لإصلاح الأوضاع في العراق، وهي التي صنعت كل هذا الدمار والخراب، وأورثته في صفقةٍ محسوبةٍ بذكاء، أو قل بغباء، إلى إيران التي وجدت فرصتها التي انتظرتها، منذ شرب عرّابها الخميني كأس السم، ومعروف عنهما معاً أنهما لا تريدان لهذا البلد أن يتجاوز أزماته، ويحقق ذاته في دولةٍ حرةٍ مستقلةٍ وصاحبة قرار، بل إن ضمان مصالحهما في العراق والمنطقة لن يتحقق بغير إدامة هذه “الفوضى الخلاقة”، وتكريسها.
أحدّثكم عن مشاريع طرحت واختفت، ومؤتمرات عقدت، ونسي الناس أمرها، بمجرد أن انفض سامرها، ومنظمات ومنابر أقيمت، ثم تلاشت، بعد اقتسام ما رزقها الله من مال.
أحدّثكم عن حواراتٍ، ومناقشاتٍ، وخطب مطولة، و”مانشيتات” عريضة، وأخبار عاجلة، وكلها كانت تبحث عن إجابةٍ للسؤال الصعب: هل البيضة من الدجاجة، أم الدجاجة من البيضة؟
أحدّثكم عن بلادٍ تساق إلى حتفها، ولا تجد لها ناصرا أو معيناً.

عبداللطيف السعدون

صحيفة العربي الجديد