ثقافة صناعة الأزمات

ثقافة صناعة الأزمات

مصر

يتمثل حصاد التغيير الذى حدث فى مصر عقب موجتى الثورة فى25 يناير عام 2011 و30 يونيو عام 2013 فى دخول المواطن المصرى إلى الشأن العام، باعتباره فاعلا ويحظى بالقابلية للمشاركة ويؤمن بحقه فى المعلومات، وبأن رأيه مهم فى اتخاذ القرارات، كسر المواطن حاجز الصمت والخوف واستشعر فى نفسه قوة كامنة تدفعه إلى الحضور والفاعلية، وتخطى حاجز السلبية واللا مبالاة، وربما يكون هذا التغيير من أهم إنجازات الثورة حتى الآن، هذا فى حين أن الدولة بقيت على حالها – أو على الأقل- لم تتغير بالقدر الكافى الذى يتلاءم مع التغير فى الطرف المقابل أى المواطنين، نمط العلاقة بين المواطن والدولة وفجوة الثقة بينهما ظلا باقيان كما هما، وكأن الثورة لم تقع، وكأن التغير الذى لحق المواطن هو تغير افتراضى.

الدولة لا تزال تحتفظ فى أعماقها بثقافة صناعة الأزمات فى تعارض صريح مع تشكيل خلايا الأزمات والخطاب المعلن الذى يزعم استباق وقوع الأزمات والتنبؤ بها، تقوم الدولة بإعادة إنتاج هذه الثقافة، بل وتغذيها وتبررها كما لو كانت ضرورة وجودية، تتمثل هذه الثقافة فى حجب المعلومات والحقائق والاحتفاظ بها، وعدم الكشف عنها فى التوقيت الملائم، من المؤكد أن كل دولة تحتفظ بنواة من الأسرار التى تتعلق بأمنها القومى ودفاعها الوطنى ونظم تسليحها وهذا أمر مشروع ولا غبار عليه، ولكن يصبح الأمر مشكلة عندما ينسحب ذلك على جميع القضايا والتحديات التى قد لا تدخل بالضرورة فى إطار السرية الضرورية.

الأزمة التى نجمت عن الاتفاقية المصرية السعودية الخاصة بترسيم الحدود البحرية بين مصر والمملكة العربية السعودية والتى كان جزء منها يتعلق بجزيرتى صنافير وتيران واعتبارهما سعوديتان مثال على ذلك، ويكفى أن نسأل أنفسنا بأمانة وأن نجيب أيضا بأمانة كمواطنين ومسئولين، حكاما ومحكومين، أفرادا وجماعات على هذا السؤال هل يجادل أحد منا فى أن المصريين لا يطمعون فى أرض، يثبت تاريخيا وقانونيا وجغرافيا أنها ليست لهم، أو من الوجهة المقابلة هل يجادل أحد فى أن المصريين لن يفرطوا فى أرض تثبت مصريتها وأنها جزء لا يتجزأ من مصر، والإجابة على هذين السؤالين هى لا بكل تأكيد، لأن الله قد حبى مصر جغرافيا متنوعة وموقعا فريدا وعبقريا يجعلها فى غنى عن التطلع إلى ما فى أيدى غيرهم فى الحالة الأولى، أما فى الحالة الثانية فلأن المصريين حافظوا على حدود دولتهم فى كل العصور والأوقات.

وبناء على ذلك فإن ثقافة صناعة الأزمات هى التى تقف وراء صناعة الأزمة الراهنة، هذه الثقافة التى تمثلت فى التكتم على موضوع الجزيرتين طيلة هذه العقود وحجب المعلومات المتعلقة بهما عن الرأى العام، بل وتكتم أخبار الاجتماعات والمباحثات بين اللجان المشكلة من الجانبين السعودى والمصرى طيلة السنوات الماضية ومفاجأة الرأى العام بها مرة واحدة ودفعة واحدة، كان ينبغى الإفراج عن هذه المعلومات وإطلاع الرأى العام على مضمون الاجتماعات وتقارير اللجان الفنية أول بأول فضلا عن إعلان تشكيلات هذه اللجان ومعرفة مواقع هؤلاء الأعضاء وخبراتهم.

تمهيد الرأى العام عبر إطلاعه أول بأول على الحقائق والمعلومات وتقديم الشرح والتفسير والتحليل بهدف توفر الاقتناع يمثل إحدى مراحل عملية اتخاذ القرار الناجح وتوفير أسس القبول به والاقتناع بصحته وتحقيق التراضى العام، وذلك يفترض قدرة المواطنين على الاستيعاب والفهم والتمييز والتقييم والاقتناع بأهليتهم للقبول والمشاركة.

إن تبنى هذا المنهج فى اتخاذ القرار كفيل بتجنب حدوث الأزمات وإرساء نمط جديد لعلاقة المواطن بالدولة يقوم على التفاعل والمشاركة والاحترام والتسليم بأهلية المواطن المصرى للتقييم والتمييز بين الحقيقة والأوهام وإعادة بناء الثقة بين الدولة والمواطن باعتبارها هدفا أسمى فى حد ذاته وإحدى ركائز الديمقراطية والمواطنة.

إن اتباع الدولة نهج إخفاء الحقائق وحجب المعلومات والعزوف عن إطلاع الرأى العام أول بأول عن حقائق الأوضاع والمشكلات وبصرف النظر عن حجج السرية وما دون ذلك من الأعذار، ليس طريقا مأمونا لحل المشكلات ومعالجة تداعياتها وآثارها، بل هو وصفة مضمونة لخلق الأزمات وتعميق فجوة الثقة بين الدولة والمواطنين، إن ما يميز المجتمع الديمقراطى والدولة الديمقراطية عن المجتمع التسلطى والدولة التسلطية هو أن الدولة الديمقراطية تواجه مشكلاتها بأول وتطرحها على الرأى العام والخبراء والقوى السياسية بهدف التعرف على الرؤى والآراء والأساليب المختلفة، لحل هذه المشكلات والأخذ بأفضل هذه الرؤى والأساليب، تتميز الدولة الديمقراطية بوجود آليات لتصحيح الرؤى والأخطاء وديناميكية خاصة للتصحيح والتصويب تتعلق بكل مستويات السلطة وبجميع مراحل اتخاذ القرارات.

أما الدولة التسلطية فتفتقد لهذه الآليات للتصحيح والتصويب والمفاضلة بين أفضل السبل لاتخاذ القرارات بل على النقيض من ذلك هى تعتقد أنها الأقدر على بلورة وصياغة الحلول والرؤى من المواطنين، وتحرص على تهميش المواطنين وإبعادهم عن المشاركة والفاعلية.

فيما يتعلق بقضيتى صنافير وتيران يبدو أن تصور المواطنين عن الحقيقة فيما يتعلق بأمر هاتين الجزيرتين يفوق الحقيقة ذاتها، ذلك أن هذا التصور قد ترسخ وبنى على مواقف ومعطيات وانحيازات تشكلت عبر فترة طويلة من الزمن، وهو الأمر الذى يترتب عليه صعوبة معالجتها بأسلوب المفاجأة والصدمة، بل كان ينبغى التدرج فى طرح القضية وطبيعة أبعادها واستجلاء الحقيقة بتأنى، ومن خلال هيئة وطنية حكومية وعلمية تشمل جميع الخبرات الوطنية والجغرافية والقانونية والتاريخية الضرورية لكشف الغموض واستجلاء الحقيقة، وهذا أقل ما تدين به الدولة إزاء مواطنيها لتجنب الدخول فى استقطاب الدولة فى غنى عنه وكذلك المواطنون.

د. عبد العليم محمد

نقلاً عن الأهرام