الحرب بين أعداء “داعش”

الحرب بين أعداء “داعش”

2015_7_12_18_8_55_260

الكرسي، العراق – مضى 15 شهراً على إلحاق الهزيمة بـ”داعش” في المناطق الشمالية من جبل سنجار. ومع ذلك، ما يزال مصطفى سعادة غير راغب في الحديث.
مصاباً بالصدمة من تصادم عائلته القريب مع الجهاديين، لم ينطق بكلمة واحدة منذ بدأت عملية الإبادة الجماعية لأبناء شعبه. ويتحدر سعادة من المواطنين الأزيديين، وهم شعب محلي يقطن في الأجزاء الشمالية من بلاد ما بين النهرين، ويمارس عقيدة قديمة تنتمي إلى زمن ما قبل النبي إبراهيم. ويعتقد بأن الأزيديين يشكلون نحو ثلثي سكان منطقة سنجار في فترة ما قبل الحرب؛ حيث وصل عددهم إلى نصف مليون شخص. وبما أن العديد من أصدقائه في المدرسة يقبعون مدفونين الآن في القبور الجماعية الضحلة التي تبدأ أقل من نصف ميل وراء حقول التبغ التي تعود لعائلته، لا يستطيع هو ولا أخوه إجبار نفسيهما على الخروج من قريتهما التي تقع على رأس الجبل.
بالنسبة للحجي سعادة، والد مصطفى، ما يزال الرعب والألم حاضرين أيضاً. فثمة اثنان وعشرون من إخواته وأبناء عمومته قتلوا وهم يفرون من السهول المنخفضة باتجاه السلامة النسبية في الجبل. وما يزال شعور الحجي بالذنب جامحاً لأنه بقي على قيد الحياة، لدرجة أنه يقول إنه يتمنى لو أنه شاركهم المصير نفسه.
وقال: “العيش هنا يذكرنا فقط بكل شيء حدث لنا. أحيانا يبدو الأمر كما لو أننا نعيش في مدينة أشباح”.
منذ شن مقاتلو “الدولة الإسلامية” هجوماً على أراضي الأزيديين الرئيسية على طول الحدود السورية يوم 3 آب (أغسطس) من العام 2014، علقت هذه المجموعة الإثنية الدينية في كابوس لا نهاية له. فقد قتل 5000 أزيدي على الأقل، وخطفت ما يزيد على 7000 امرأة أزيدية لاستخدامهن كرقيق، وفق أرقام الأمم المتحدة. وبينما كسر الحصار الذي كان “داعش” قد فرضته على جبل سنجار عند تحرير مدينة سنجار في تشرين الثاني (نوفمبر) الماضي، فإن بعض المجتمعات سويت بالأرض إلى درجة أن السكان العائدين وجدوا صعوبة بالغة حتى في تحديد مواقع منازلهم.
ومع أن الجهاديين لم يعودوا يهاجمون القرى، فإن الأزيديين ما يزالون يواجهون صعوبة في إعادة بناء موطنهم المحطم. ويستمر عدة آلاف من الأزيديين في المعاناة في ظل ظروف بدائية على قمة جبل سنجار، غير قادرين على ترميم الضرر الذي أوقعه الجهاديون بسبب تكتيكات الأرض المحروقة التي استخدموها أثناء تراجعهم. وفي ذلك، يلقون اللوم على ارتفاع حدة التوترات بين القوى المتنافسة المتبقية، والتي تتنافس راهناً من أجل السيطرة على هذه الشريحة من أرض العراق، وعلى ادعاء الفضل بهزيمة “داعش” على حد سواء.
هذا الصراع الجديد -بين المجموعات الكردية والحكومة المركزية العراقية- أقنع العديد من الأزيديين بأنه من المقدر لوطنهم أن ينتقل من صراع إلى صراع. وفقد البعض الأمل في إعادة بناء حياتهم مرة أخرى في بيئة يشعرون بأنها منذورة للصدمة والخوف إلى الأبد.
يتساءل كمال شنغلي، المزارع السابق الذي دمرت قريته، غرميس، وقتل العديد من سكانها في القتال، والذي قرر منذئذٍ السعي للجوء في ألمانيا: “كيف يمكنك محاولة أن تمضي قدماً عندما ما نزال نستخرج جثامين أقاربنا؟”.
حرب جديدة؟
بالكاد أخرج “داعش” من سنجار قبل أن يجد الأزيديون أنفسهم عالقين في صراع جديد على السلطة.
عشية الهجوم على مدينة سنجار، كاد حزب العمال الكردستاني، مجموعة الثوار الماركسية المتمركزة في تركيا والتي تعتبرها الولايات المتحدة منظمة إرهابية، وقوات البشمرغة الكردية العراقية، كادا يخوضان مواجهة ضد بعضهما بعد أن أغلقت قوات البشمرغة نقطة عبور حدودية لمنع مقاتلي حزب العمال الكردستاني من جلب عرباتهم المدرعة من سورية. وتصاعد التوتر مرة أخرى في شباط (فبراير) الماضي بعد أن حاولت قوات من أربيل تفكيك نقطة تفتيش تابعة لحزب العمال الكردستاني على الطريق السريع إلى الشرق من جبل سنجار.
رفعت الحرب ضد “داعش” من مخاطر التنافس بين هذه المجموعات التي ترى في نفسها الحامل المعياري للقضية الكردية، والتي تنتمي إلى أيديولوجيات متنافسة. ويرى الأكراد العراقيون في سنجار منطقة تخصهم، ويبدو أنهم مستاؤون من تواجد حزب العمال الكردستاني وشعبيته في أوساط الأزيديين بعد أن جاءت المجموعة لإنقاذ الذين علقوا على الجبل في العام 2014. وقد بلغت عداوتهم المتبادلة حداًً حمل حتى بعض الجنود على الاعتراف بأن المنافسة المحتدمة بين الأطرف الكردية أعاقت القتال ضد الجهاديين.
ويقول خليل خلف، الضابط في قوات البشمرغة، والمكلف بحراسة صومعة الحبوب المركزية في مدينة سنجار: “هذا ليس بالأمر الجيد بالنسبة لشعبنا. إنه يلحق الضرر بنا”.
وفي الأثناء، دعا بعض الأزيديين إلى جلب قوات حفظ سلام غربية لتولي السيطرة، على أمل الخفض من حدة التوترات. وقال محمود حمد عندما التقيته في الخيمة الغارقة في قمة جبل سنجار حيث عاش لأكثر من 18 شهراً: “إننا مجرد بيادق في هذه اللعبة ولا نثق بأي أحد…”. وأضاف: “هذا هو السبب في أننا نريد قوات دولية”.
وفي غياب أي قوات برية أجنبية على الأرض، ليس لدى السنجاريين أي خيار سوى التأقلم مع الحرب الباردة المريرة المفروضة عليهم وحسب.
في هذه المنطقة، أقامت قوات البشمرغة وقوات حزب العمال الكردستاني على أبعاد منتظمة حواجز طرق، وفي بعض الأحيان لا تسمح لبعضها البعض أو للسكان المحليين بالمرور. ولأنها حريصة على بسط سلطتها على المنطقة، بذلت الحكومة الإقليمية الكردية التي كانت تدير سنجار قبل ظهور “داعش” وتدعي أنها جزء من كردستان، قصارى جهدها لتجميد القوات الأمنية التابعة لبغداد من البرد عبر حرمانها من التيار الكهربائي طيلة فصل الشتاء القارس والرطب.
ويقول شامو علي، ضابط اللوجستيات في الشرطة العراقية والمتمركز في خاناصور، البلدة الأزيدية في معظمها والتي تقع إلى الشمال من جبل سنجار: “لقد متنا من دون مولدات”! وهو مكلف بتوفير الاحتياجات لرفاقه -ولكن، مع منع الأكراد مرور العديد من السلع، يقول أن رفاقه، ومعظمهم مجندون محلياً، يضطرون أحياناً للاستدامة بفضل النية الطيبة
لعائلاتهم.
كما يترتب على الآلاف القليلة من الأزيديين الذين استطاعوا النجاة من الحصار على الجبل التعامل مع ما يقولون أنه النهب واسع النطاق الذي قامت به القوات الكردية العراقية الموجودة هناك ظاهرياً لحمايتهم. وقد اتهم نصف دزينة من الذين تمت مقابلتهم لإعداد هذه المادة قوات  البشمرغة بسرقة كل ما لم يكن مقاتلو “داعش” قد سرقوه أصلاً، وخاصة المحولات الكهربائية والأنابيب النحاسية. وقد شاهد صحفيو “فورين بوليسي” سيارتي شحن صغيرتين إلى الشرق من مدينة سنجار، محملتين عن آخرهما بالسلع المحلية، بما في ذلك ثلاثة للدندرمة “البوظة”، والمأخوذة من حانوت أزيدي محطم.
وقال هيفال سيروان، المقاتل في وحدات حماية الشعب، المليشيا الأزيدية التابعة لحزب العمال الكردستاني: “إنهم يعتقدون أن باستطاعتهم أخذ ما يريدون وحسب. ومع ذلك، وإذا ألقينا القبض عليهم، سوف تنشأ مشكلة”.
ثقة ممزقة
حتى ظهور “داعش”، تجنبت منطقة سنجار العديد من الصراعات التي عصفت بالموصل والأجزاء الأخرى من محافظة نينوى حيث توجد سنجار. لكن من الصعب اليوم رؤية كيف سيتم إعادة وصل أجزاء هذه القطعة المربكة من الأديان والأعراق بعد أن تم تمزيقها بوحشية.
هنا، يتهم الأزيديون والأكراد والمسلمون الشيعة على حد سواء أقرانهم من العرب السنة المحليين بدعم الجهاديين. ولهذا السبب، كما يصرون، لن يسمح لأي منهم بالعودة. وقال كمال شنغلي، الأزيدي الذي يتطلع للانتقال إلى ألمانيا: “لقد تبددت الثقة”. ومع تدمير كل الكنائس الثلاث التي كانت موجودة في مدينة سنجار، يبدو من غير المرجح أيضاً أن الكثيرين من مجتمع المسيحيين سيعودون إلى البلدة على الإطلاق.
ومع ذلك، وبالنسبة للأزيديين، فإنهم الأكراد هم الذين يشغلون بالهم أكثر ما يكون. وكان انسحاب قوات البشمرغة السريع من سنجار مع اقتراب مقاتلي “داعش” منها في صيف العام 2014 قد ترك الأزيديين مكشوفين وبلا قدرة على الدفاع عن أنفسهم. وبعد أن أمروا بالبقاء في منازلهم بينما كانت القوات الكردية ترتب للانسحاب السريع، يقول الكثيرون من الأزيديين هنا أنهم سيحملون الغضب الذي تكون في نفوسهم بسبب التخلي عنهم معهم إلى القبر.
يقول ماثيو باربر، المدير التنفيذي لـ”يازدا” في العراق، وهي جمعية خيرية تقدم المساعدات للأزيديين: “كان رد الفعل حاداً جداً إلى درجة أن معظم الأزيديين لا يريدون الآن أن تكون لهم أي صلة مع كردستان. ولم يعودوا يريدون تعريف أنفسهم بأنهم أكراد”. ويضيف: “إنهم يشعرون بأن الأكراد خسروا الحق في حكمهم عندما تركوهم في مواجهة الإبادة والاسترقاق”.
ثمة أقلية من الأزيديين التابعين لحزب الحكومة الإقليمية في كردستان برئاسة مسعود برزاني، والذين يدافعون عن البشمرغة، ويقولون أن قوات “داعش” كانت تفوقهم في الأسلحة، وأن جنودها كانوا سيذبحون لو أنهم بقوا وقاتلوا الجهاديين قبل عامين. وقال سعدون راشو، عضو مجلس منطقة سنجار الذي عينته الحكومة الإقليمية الكردستانية: “إنهم ببساطة لم يكونوا يتوافرون على ذلك النوع من القوة”.
أما بالنسبة لمعظم أقرانه في الدين، فإن التطورات التي شهدتها الأعوام القليلة الماضية مزقت ثقتهم في اللاعبين السياسيين الرئيسيين. ويقول شامو علي رجل الشرطة الأزيدي العراقي: “إننا عالقون بين حكومتين لا تحبنا أي منهما أو تريد مساعدتنا. كان الذي ساعدنا هو حزب العمال الكردستاني فقط، وليس هناك حكومة تحبه أيضاً”.
في منتصف آذار (مارس)، قال وزير الخارجية الأميركية، جون كيري، ما أصر الأزيديون على قوله كل الوقت: إن ممارسات “الدولة الإسلامية” ضد شعبها والمسيحيين والشيعة المسلمين تشكل إبادة جماعية.
وحتى الآن، تم اكتشاف نحو 35 قبراً جماعياً تحتوي على 1000 جثة على الأقل، وفق “يازدا” التي تتوقع اكتشاف المزيد من الجثث. وفي الأثناء، يستمر عدد إضافي من حوالي 300.000 أزيدي في معايشة الألم والمعاناة في مخيمات اللجوء في كردستان.
بالنسبة للعديد من السنجاريين، ليست العودة إلى الديار ممكنة حيث ما يزال الكثير من آثارهم ومقدساتهم ممزقة ومدمرة في كافة الأنحاء. ومن صومعة الحبوب المركزية في سنجار، حيث اغتصب مقاتلو “داعش” النساء الأزيديات على نحو ممنهج، تاركين ملابسهن ملقاة على الأرض، إلى المدارس الابتدائية التي مزقتها القنابل، تتبدى كل مظاهر الوحشية في كل مكان.
ولكن، بالنسبة لكثيرين آخرين، سوف يقوم القبول الروحي الفريد من نوعه، وجغرافية سنجار التي حمتهم من قرون من محاولات العثمانيين قتلهم أو تحويلهم لاعتناق الإسلام، سوف يقوم بدفعهم إلى العودة للديار، بغض النظر عن الأشياء الكثيرة التي تذكر بالفجيعة.
ويقول لي محمود حمد فوق قمة جبل سنجار: “كانت هناك دائماً عمليات إبادة للشعب الأزيدي. لكن أحداً لم يستطع أبداً إخراجنا من هناك. ونعرف الآن بالتأكيد أن أحداً لن يستطيع أن يفعل ذلك أبداً”.

ترجمة:عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد الأردنية