“العدالة والتنمية” يُعاقب نفسه..لماذا داود أوغلو؟

“العدالة والتنمية” يُعاقب نفسه..لماذا داود أوغلو؟

349
للأسف، تبدو التطورات الداخلية في تركيا على مستوى القيادة الحزبية والسياسية متوقعة. ميل القيادة إلى احتكار القرارات والتحكم التام بالتحركات، حتى قبل إبرام نظام رئاسي، جعل رجلاً مثل أحمد داود أوغلو في دائرة “الشبهات” بنقص الولاء. وأوغلو من أقرب المقربين إلى أردوغان، وأسهم الأخير في تصعيده من مستشار إلى وزير خارجية إلى رئيسٍ لحزب “العدالة والتمنية” إلى رئيسٍ للوزراء. وقد وقع ذلك في السنوات الخمس الأخيرة في أجواء الخلافات التي نشبت بين أردوغان والرئيس السابق عبدالله غول.
يتعلق الأمر، أيضاً، بالضيق بالتعددية، فالرئيس أردوغان ينظر، كما يبدو، إلى وسائل الإعلام والتواصل، من منظور الولاء الواجب، وليس من منظور الحق في التنوّع الذي يعكس تنوعاً اجتماعياً وثقافياً داخل البلاد. وها هو الضيق بالتعدّد يشتد، ويأخذ بجريرته أوغلو القيادي في الحزب الحاكم، وليس في أي حزب سياسي، أو تيار فكري آخر، وأحد أقرب المقربين إلى أردوغان. مغزى ذلك أن أحداً قد لا ينجو من الوقوع تحت طائلة الارتياب. تلك مشكلة كبيرة، تهدّد تماسك الحزب الحاكم، وتلحق ضرراً بالغاً بصورته في الداخل والخارج، خصوصاً أن التحفظات الرئاسية على أوغلو لا تأخذ طابعاً واضحاً، ولا يتم عرضها ضمن قنوات حزبية أو برلمانية، وتكاد التحفظات تبدو حصيلة وشايات، أو تدور حول نيات الرجل، لا حول سلوكه وسياساته. ومِن عجبٍ أن يتعرّض أوغلو لحملة التشكيك، في وقتٍ تواجه فيه تركيا تحديات جمّة، وسبق لأوغلو أن ورثها حين تولى رئاسة الحكومة، قبل نحو عشرين شهراً (22 أغسطس/ آب 2014). وقد تحسّنت العلاقات بين أنقرة والرياض بدرجة كبيرة في حقبة أوغلو، وحافظت الحكومة على تعاونها الاقتصادي مع إيران، محتفظةً، في الوقت نفسه، بموقفها من الأزمة السورية. وعمل الرجل على تبريد الخلافات مع العراق، وتحسينها بدرجة ملحوظة مع إقليم كردستان العراق. وفي الداخل، أدار الرجل الانتخابات المبكرة، وأسهم بتصدّر حزب العدالة مجدداً مع بعض التراجع في عدد المقاعد، وأدار مفاوضات مع أحزاب المعارضة، ساهمت في تسليك قنوات التواصل والحوار مع بقية المكونات السياسية والحساسيات الفكرية في البلاد، وإنْ لم تؤد إلى تشكل حكومة ائتلافية.
عُرف أوغلو بالشعار الذي رفعه، منذ تولى وزارة الخارجية: صفر مشاكل في العلاقات مع دول الإقليم. لكن ذلك كان قبل اندلاع الأزمة السورية، وقبل حادث الاعتداء الإسرائيلي على سفينة مرمرة التركية، وقبل نشوء تحالفٍ بين إيران وروسيا، وعلى هذا النحو المكشوف. مستفيداً من خبراته الدبلوماسية، سعى الرجل إلى ترطيب علاقات تركيا مع دائرة واسعةٍ، شملت الأردن أخيراً.
إذا قيّض لأردوغان أن يزيح أوغلو، وبدون تشبث من الأخير بامتيازات الموقع التي وصفها،

الأربعاء الماضي، بـ “المناصب الفانية”، فإن صورة تركيا الديمقراطية ستتعرّض لاهتزاز مجدداً. فبينما حرص عبدالله غول وأحمد داود أوغلو، وكذلك أردوغان نفسه، في مرحلة سابقة، حين كان التعاون قائماً بينه وبين غول، على تفادي ظهور تركيا نظاماً يحكمه حزبٌ واحدٌ، بل كنظام يفوز فيه حزبٌ بعينه، ويلتزم هذا الحزب، في الوقت نفسه، بحقوق المعارضة، وبمقتضيات التعددية الاجتماعية والثقافية، فإن تطوراتٍ صعبةً، كإزاحة أوغلو، سوف تؤدي إلى تظهير بلاد الأناضول محكومةً ليس من حزب واحد فقط، بل من رجلٍ واحد فقط، لا يطيق تنوع الاجتهادات داخل حزبه، ولا يستفيد منها في إغناء الأداء، فما بالك، إذن، باحترام اجتهادات الأحزاب والتيارات الأخرى المنافسة ومواقفها؟
سوف يثير التفرّد على هذا النحو المزيد من النقد السياسي والإعلامي في الداخل والخارج، وتفسير ذلك على أنه مؤامرة أو مكيدة، مما يعزّز موجة النقد مجدداً، ويضع المستويات العليا للحكم في دوامة، تنعكس على الأداء التركي، داخلياً وخارجياً، وفي ظروفٍ بالغة الحساسية، تعبرها العلاقة التركية مع روسيا، ومع وصول الأزمة السورية إلى منعطف حساس وخطر بالسعي إلى الاستيلاء على حلب، مع دعم المكون الكردي السوري المقرب من النظام وتعزيزه، وتشجيعه على التمدّد بجوار الحدود التركية، فضلاً عن نشاط داعش، الذي بات يستهدف مواقع تركية من الداخل السوري. وفي وقتٍ، أبدت فيه مفوضية الاتحاد الأوروبي انفتاحاً على تركيا والأتراك، إثر مفاوضاتٍ شاقة، قادها أوغلو مع قادة أوروبيين، بخصوص تمتيع الأتراك بدخول دول منطقة “شنغين” بغير تأشيرة مسبقة. ويشك المرء حقاً في أن يكون تمركز السلطات العليا بيد مسؤول واحد أمراً مفيداً لتشجيع الجيران الأوروبيين على منح ملايين الأتراك تسهيلاتٍ نوعيةً في الدخول والتنقل بين دول الاتحاد.
كان أردوغان بحاجة إلى مرونة مسؤولٍ، مثل أوغلو، واستعداد الأخير للتحرك على خط الأزمات ونزع الألغام عنها، والتخفيف من غلواء الاندفاع الأيديولوجي (الأسلمة والعثمنة) للرئاسة. وحتى أمام التجهم شبه الدائم لأردوغان، طوال السنتين الأخيرتين، فقد كان المشهد السياسي المحلي، وكذلك صورة حزب “العدالة والتنمية” في الأذهان، بحاجةٍ إلى ابتسامة أوغلو شبه الدائمة في حلّه وترحاله. ولا شك في أن الأمر سيكون مشجعاً على نسج روايات سينمائية حول الرجل الكبير، الذي يختار أشخاصاً من دائرته القريبة، يعقد صداقات سياسية وثيقة، وتحالفاتٍ تنهي دائماً بالعداء مع هؤلاء.
لا يستبعد متابعون من الداخل أن تؤدي الأزمة الجديدة إلى زج البلاد في سيناريو انتخابات جديدة، إذا ما نشبت خلافات بين نواب حزب “العدالة والتنمية”، وفي أجواء مكفهرة في الداخل (التصعيد الكردي المسلح بالذات والعمليات شبه اليومية، والاستعداد لنزع الحصانة النيابية عن نواب حزب الشعوب الديمقراطي).
وفي جميع الأحوال، لم يكن وقتاً مناسباً، ولا ظرفاُ ملائماً، إثارة هذه الأزمة التي يتطلع كثيرون في الخارج، من كارهي الدور التركي والوزن التركي في الإقليم، إلى أن تؤدي إلى إضعاف صدقية حزب “العدالة والتنمية” وخياراته السياسية، والذي يبدو، الآن، وعلى المستوى القيادي كأنه يعاقب نفسه بنفسه، وبالتالي، إضعاف رصيده في عيون الناخبين. لو كان هناك استعداد أكبر للمشاركة في بلورة القرارات المصيرية، والاستماع إلى أصحاب الرأي داخل الحزب الحاكم وخارجه، لما سار أردوغان على طريق التضحية بأوثق شركائه، مكرّرا سابقة التخلي عن عبدالله غول والافتراق عنه، وعلى زج البلاد في حالة من البلبلة والتشويش هي في غنىً تام عنها.
والسؤال الذي يستحق أن يثار في هذه الآونة: أيكون ما يجري من الثمار المبكرة لحكم النظام الرئاسي، وقبل أن يتم تشريع هذا النظام؟ علماً بأن الوقت لم ينفد لتدارك هذه الهزّة، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه.

محمود الريماوي
صحيفة العربي الجديد