استقالة داود أوغلو: أزمة تحت السيطرة

استقالة داود أوغلو: أزمة تحت السيطرة

95c4f1a141b84ecdb84c09578686bfc7_18

قرَّر داود أوغلو الاستقالة بعد خلافاته المتكررة مع أردوغان، فبرزت إلى السطح مشكلة صراع الصلاحيات بين رئيس الحكومة ورئيس الجمهورية، إلا أن هذه الأزمة ستظل تحت السيطرة.

علن رئيس الحكومة التركية، د. أحمد داود أوغلو، في مؤتمر صحفي للشعب التركي عزمه الاستقالة من رئاسة حزب العدالة والتنمية، وبالتالي من رئاسة الحكومة.

من الواضح، على أية حال، أن داود أوغلو حرص طوال العام الأخير على أن لا يؤثِّر خلافه مع رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان، على مظهر وحدة الحزب وتماسك مؤسسات الدولة. وكان هذا بالتأكيد السبب الرئيس خلف تراجعاته أمام ضغوط الرئيس.

مهما كانت مضاعفات الأزمة الحالية إلا أن تركيا تبدو بعيدة كليًّا عن الفوضى أو فقدان القدرة على الحُكم.

مقدمة

ظهر رئيس الحكومة التركية، د. أحمد داود أوغلو، في مؤتمر صحفي، بعد ظهر الخميس، 5 مايو/أيار، معلنًا للشعب التركي عزمه الاستقالة من رئاسة حزب العدالة والتنمية، وبالتالي ومن رئاسة الحكومة. الحقيقة، أن إعلان الاستقالة كان متوقعًا منذ مساء اليوم السابق، بعد أن عقد داود أوغلو لقاء استمر ما يقارب الساعتين مع رئيس الجمهورية، رجب طيب أردوغان، في مكتبه. كان هذا هو اللقاء الثاني لرئيس الحكومة ورئيس الجمهورية خلال أقل من أسبوع. وقد أشارت مصادر مقرَّبة من الطرفين إلى أن الرئيسين لم يستطيعا التوصل إلى توافق، لا في اللقاء الأول ولا الثاني، وأن هذا ما دفع داود أوغلو إلى إبلاغ رئيس الجمهورية مساء 4 مايو/أيار عزمَه الاستقالة.

استعرض داود أوغلو في مؤتمره الصحفي سجل حكومتيه القصيرتين، الأولى والثانية، مؤكدًا على أنه لا يشعر بأنه ارتكب خطأ ما في إدارته لشؤون البلاد، كما أعلن حرصه البالغ على وحدة الحزب، حزب العدالة والتنمية، وعلى ضرورة الحفاظ على استقرار البلاد وفعالية مؤسسات الدولة. وبالرغم من أن الجميع يدرك أن الاستقالة جاءت على خلفية تباينات متراكمة في وجهات النظر بين داود أوغلو وأردوغان، قال داود أوغلو: “لم ولن أتفوه بكلمة واحدة ضد رئيس الجمهورية، ولن أسمح لأحد أن يستغل هذه المسألة، فشرف رئيسنا هو شرفي وشرف عائلته هو شرف عائلتي”. بيد أن هذا النُّبل والتعالي في اللغة السياسية، للأستاذ الجامعي السابق، يعكس في حدِّ ذاته حقيقة دوافع الاستقالة: التوتر المتفاقم في علاقات العمل، أو طريقة الحكم، بين الرجلين.

تحاول هذه الورقة قراءة المنعطفات الرئيسة التي برزت فيها الخلافات بين داود أوغلو وأردوغان، والتي أوصل تراكمها إلى افتراق الطريقين، وقراءة لأزمة نظام حكم الجمهورية، التي تعتبر السبب الرئيس في تحول هذه الخلافات إلى قوة تعطيل لعملية الحكم وإدارة شؤون الدولة والبلاد. كما تحاول استطلاع آثار استقالة رئيس الحكومة على حزب العدالة والتنمية وفرص إعادة البناء الدستوري لنظام الحكم في تركيا.

محطات التوتر

في 28 إبريل/نيسان المنصرم، وبينما كان رئيس الحكومة التركية يقوم بزيارة رسمية لدولة قطر، تقدم عضوان في لجنة حزب العدالة والتنمية المركزية بمقترح قرار لاستعادة اللجنة سلطة تعيين رؤساء فروع الحزب في المقاطعات من رئيس الحزب. طبقًا لدستور الحزب، تعتبر اللجنة المركزية صاحبة الحق في تعيين رؤساء الفروع، ولكن اللجنة تنازلت عن هذه السلطة لصالح رئيس الحزب منذ 2002، أي بعد أقل من عام على تأسيس العدالة والتنمية. ولذا، فإن تحرك اللجنة المركزية لاستعادة هذه السلطة من رئيس الحزب الحالي، أحمد داود أوغلو، اعتُبر مؤشرًا على أزمة، سيما أن أغلبية أعضاء اللجنة المركزية الخمسين من الموالين لرئيس الجمهورية. مرَّ القرار بسهولة في اجتماع اللجنة المركزية، وكان داود أوغلو، بعد عودته من قطر، أحد الموقِّعين السبعة والأربعين على القرار.

ما يقوله أنصار أردوغان أن هذا التحرك في لجنة الحزب المركزية جاء بعد أن قام داود أوغلو باستبدال أنصار له بـ15 من رؤساء الفروع، في مؤشر إلى سعيه إلى السيطرة على الحزب وإضعاف نفوذ أردوغان في قواعد الحزب الذي أسسه. في مؤتمره الصحفي يوم 5 مايو/أيار أكَّد داود أوغلو أنه لم يتخذ مطلقًا أي قرار بتغيير بنية الحزب التنظيمية، وأن التغييرات كانت تتم دائمًا باقتراحات من مسؤولي الحزب. مهما كان الأمر، فقد كان داود أوغلو قبل شهور قليلة قد عيَّن النائب البرلماني المعروف باسم مجاهد (علي إحسان أرسلان)، أحد أبرز قيادات العدالة والتنمية، ومن كان يوصف طوال سنوات بظل أردوغان، مساعدًا له لشؤون الحزب. أثار تعيين مجاهد، الذي يُعرف بقدراته التنظيمية الهائلة، ردود فعل في أوساط المحيطين بأردوغان، مقدِّرين أن رئيس الحكومة يسعى لإحكام قبضته على بنية الحزب التنظيمية.

في النهاية، وبالرغم من أن داود أوغلو وقَّع على القرار، فقد نظر إليه باعتباره مؤشرًا على فقدان الثقة بينه وبين اللجنة المركزية، وبالتالي بينه وبين رئيس الجمهورية.

ليس هناك من سجل موثوق لما دار في لقائي داود أوغلو وأردوغان يومي 2 و4 مايو/أيار، ولكن الواضح أن داود أوغلو قدَّر أن الرئيس لم يعد يرى من ضرورةٍ لاستمراره في رئاسة الحكومة؛ وهذا ما أدَّى إلى الاستقالة. بيد أن المؤكد أن قرار لجنة الحزب المركزية استعادة سلطة تعيين رؤساء الفروع لم يكن سوى القشة التي قصمت ظهر البعير. فالحقيقة أن الخلافات بين الرجلين بدأت في البروز منذ ما قبل الانتخابات العاجلة في أول نوفمبر/تشرين الثاني 2015.

في سبتمبر/أيلول 2015، عقد العدالة والتنمية مؤتمره العام الخامس. وبالرغم من أن مهمة المؤتمر الرئيسة كانت التحضير لانتخابات نوفمبر/تشرين الثاني العاجلة، إلا أن خلافًا محتدمًا برز بين رئيس الحزب، داود أوغلو، ورئيس الجمهورية، أردوغان، حول تشكيل اللجنة المركزية الجديدة للحزب. في سعي منه للحفاظ على نفوذه داخل الحزب، حتى بعد أن ترك صفوفه عند انتخابه رئيسًا للجمهورية، وضع أردوغان قائمة بأعضاء اللجنة، التي يفترض أن تُطرح للتصويت في المؤتمر العام. عارض داود أوغلو وجود بعض الأسماء في القائمة وأعرب عن رغبته باستبدال أسماء أخرى بهم. رفض الرئيس تعديل القائمة وعرض داود أوغلو الاستقالة من قيادة الحزب ولكن المناخ السياسي بالغ الحساسية في البلاد، والضغوط التي مورست على داود أوغلو من رفاقه وأصدقائه، دفعته إلى التراجع عن الاستقالة، والقبول، على مضض، بقائمة أردوغان.

عادت الخلافات من جديد خلال الحملة الانتخابية لانتخابات أول نوفمبر/تشرين الثاني 2015 المبكرة. كان العدالة والتنمية خسر أغلبيته البرلمانية المطلقة في انتخابات 6 يونيو/حزيران 2015. خاض الحزب انتخابات يونيو/حزيران ببرنامج ضمَّ وعدًا بوضع دستور جديد وتغيير نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي. كما أن رئيس الجمهورية، وفي بعض التجاوز لصلاحياته الدستورية، أسهم بصورة مباشرة في الحملة الانتخابية، داعيًا الشعب لتأييد النظام الرئاسي. احتشدت القوى المعارضة لرئيس الجمهورية ولحزب العدالة والتنمية في جبهة واحدة، فتحوَّلَ النظام الرئاسي، وليس سجل العدالة والتنمية في الحكم، إلى مسألة الانقسام الرئيسة في الحملة الانتخابية. وكان هذا الانقسام الحاد أحد أبرز أسباب خسارة العدالة والتنمية لأغلبيته البرلمانية.

في الحملة الانتخابية لاقتراع أول نوفمبر/تشرين الثاني، توقف أردوغان عن المشاركة في الحملة. وبالرغم من أن العدالة والتنمية حافظ في برنامجه على الدعوة لإقامة نظام رئاسي، إلا أن داود أوغلو تجنَّب الإشارة إلى المسألة في اللقاءات الجماهيرية. لم يأخذ المقرَّبون من أردوغان ضرورات الحملة الانتخابية في الاعتبار، ولم يقدِّروا لداود أوغلو الفوز الكبير في الانتخابات وعودة العدالة والتنمية للحكم بأغلبية كبيرة، واتهموه بعدم الإيمان بالنظام الرئاسي وعدم الدفاع عن رئيس الجمهورية أمام هجمات المعارضة. في الواقع العملي، وما إن الـتأم البرلمان الجديد وتشكَّلت الحكومة، سارع داود أوغلو إلى دعوة الأحزاب الممثَّلة في البرلمان لتشكيل لجنة توافقية لوضع مسودة الدستور الجديد؛ وعندما وصلت اللجنة التوافقية إلى طريق مسدود، شكَّل لجنة من حزب العدالة والتنمية لوضع المسودة، التي ستضم تصورًا لنظام رئاسي، ضمن عدة تصورات دستورية مدنية جديدة أخرى.

برزت المحطة الثالثة في الخلافات أثناء تشكيل الحكومة الجديدة بعد الفوز في انتخابات أول نوفمبر/تشرين الثاني، عندما أصرَّ رئيس الجمهورية على تعيين أحد أبرز المقربين منه من قيادات الحزب، والذي تحيط به شبهات فساد، وزوجِ ابنته، وزيرين في الحكومة الجديدة، ورفض بعض الأسماء الأخرى التي رشحها داود أوغلو لعضوية الحكومة. وقد وصل الخلاف حدَّ أن قرر داود أوغلو عدم الإعلان عن الحكومة الجديدة إلى أن يتوصل الطرفان إلى توافق مُرضٍ، مهما تأخر الإعلان عن الحكومة. ولكن حادثة إسقاط سلاح الجو التركي للطائرة الروسية، وما ولَّدته من مناخ تأزم، أبرز حاجة البلاد الملحة لوجود حكومة منتخبة، كاملة الشرعية؛ وهو ما دفع داود أوغلو مرة أخرى للتنازل وإعلان حكومته الجديدة بما يرضي الرئيس.

الواضح، على أية حال، أن داود أوغلو حرص طوال العام الأخير على الحفاظ على مظهر وحدة الحزب والتوافق بين رأسي الدولة. وكان هذا بالتأكيد السبب الرئيس خلف تراجعاته أمام ضغوط الرئيس. في المقابل، لم يتردد الرئيس، في أكثر من موقع خلاف، في أن يوضح للجميع أنه من يمثِّل المرجعية النهائية للنظام. عندما أشار داود أوغلو في زيارته الأخيرة لمدينة ديار بكر إلى أن الحكومة لن تكتفي بالمواجهة الأمنية والعسكرية لإرهاب حزب العمال الكردستاني، وأن خيار التفاوض لم يزل على الطاولة، خرج الرئيس ليقول بصورة لا تحتمل اللبس: إن الدولة التركية مصممة على القضاء على الإرهابيين جميعًا، إلى آخر واحد منهم، وأن لا تفاوض مع الإرهاب.

وبالرغم من أن الغالب على مسائل الخلاف بين الرجلين كان قضايا الداخل التركي، فالمؤكد أن هذه الخلافات طالت السياسة الخارجية أيضًا، ليس بالضرورة جوهر هذه السياسات، ولكن مرجعيتها وسبل إدارتها. وبدا، في لحظات ما، أن كلًّا من رئاسة الحكومة ورئاسة الجمهورية يدير سياسته الخارجية ويفتح قنواته الخاصة. وثمة من يشير إلى أن رئيس الجمهورية لم يكن سعيدًا عندما انتهت مفاوضات تركيا مع الاتحاد الأوروبي بتوقيع داود أوغلو على الاتفاق حول مسألة اللاجئين ورفع شرط تأشيرة الدخول عن المواطنين الأتراك المسافرين إلى مجموعة شنغن الأوروبية في 7 مارس/آذار. والمسألة لم تكن معارضة الرئيس لجوهر الاتفاق، بل لكون داود أوغلو من وقَّعه. في المقابل، يؤكد مقربون من رئيس الحكومة أن توقيعه الاتفاق كان مجرد مسألة إجرائية، توَّجت نهاية عملية التفاوض مع الزعماء الأوروبيين في بروكسل، ولم يكن مقصودًا بها المنافسة على الدور.

مهما كان الأمر، فقد أجمعت وسائل الإعلام التركية على أن الاتفاق مثَّل نصرًا كبيرًا لداود أوغلو ومهارته التفاوضية، وبدا وكأن أحمد داود أوغلو يُنظر إليه في العواصم الغربية، بما في ذلك واشنطن، باعتباره أكثر قبولًا من أردوغان. ويمكن القول، بقدر كبير من الترجيح: إن أوساط رئيس الجمهورية بدأت، منذ مارس/آذار، تتحدث عن عزم الرئيس على التخلص من رئيس حكومته. في تركيا الحالية، ثمة زعيم واحد يقود دفة الحكم ويحدد اتجاهها، يقول هؤلاء، وهذا الزعيم هو الرئيس أردوغان. وهنا، ربما، تقع جذور الأزمة البنيوية لنظام الحكم التركي الحالي.

أزمة نظام الحكم؟

أُعلنت تركيا الجديدة، في 29 أكتوبر/تشرين الأول 1923، دولة جمهورية. وقد احتل مصطفى كمال، قائد حرب الاستقلال، موقع رئاسة الجمهورية إلى وفاته في 1938. أردوغان هو الرئيس الثاني عشر للجمهورية، وليس أردوغان أول رئيس قوي للجمهورية، فمصطفى كمال وعصمت إينونو كانا من قبل أيضًا رئيسين قويين؛ كما أن ديميريل وأوزال لم يكونا رئيسين ضعيفين بالتأكيد. والتوتر بين رؤساء الجمهورية ورؤساء الحكومة ليس أمرًا غريبًا في تاريخ الجمهورية ولكن ثمة ما أضاف إلى شرعية السلطة التي يتمتع بها أردوغان.

منذ قيام الجمهورية، كان نظام الحكم التركي نظامًا برلمانيًّا، يُنتخب فيه رئيس الجمهورية من قبل البرلمان، بينما يحكم رئيس الحكومة باسم الأغلبية التي يتمتع بها في البرلمان المنتخب. الشائع، بالطبع، أن النظام التركي يمنح رئيس الحكومة السلطة التنفيذية، بينما لا يتمتع رئيس الجمهورية إلا بسلطات سيادية، رمزية. هذا بالتأكيد غير صحيح؛ فبالرغم من أن كلًّا من الدساتير المختلفة، التي وُضعت خلال التسعين عامًا من عمر الجمهورية، أحدث تغييرات ما في نظام الحكم، فقد أعطى دستور 1982، الذي لم يزل ساريًا، سلطات فعلية لرئيس الجمهورية، سواء في مجال تشكيل الهيئات القضائية والتعليمية العليا، أو في التعيينات السنوية لقيادات الجيش، أو ترؤس اللقاءات الدورية لمجلس الدفاع الأعلى، أو ضرورة موافقته على التشريعات التي يسنها البرلمان. 

في 2007، وعلى خلفية الانقسام البرلماني حول اختيار عبد الله غول رئيسًا جديدًا للجمهورية، وضع التعديل الدستوري نهاية لتقليد اختيار رئيس الجمهورية برلمانيًّا، وأقرَّ اختياره بالانتخاب الحر المباشر من الشعب. تضمَّن التعديل الجديد تحديد فترة ولاية رئيس الجمهورية بخمس سنوات، تُجدَّد لمرة واحدة فقط. أردوغان، الذي انتُخب رئيسًا للجمهورية في أغسطس/آب 2014، كان أول رئيس يتم اختياره بالاقتراع الشعبي المباشر. بهذا، أصبح لرئيس الجمهورية، كما لرئيس الحكومة، شرعية انتخابية شعبية، ولم يعد ممثلًا لمصالح الدولة، كما كان عليه التقليد السابق للجمهورية، بل ممثلًا للإرادة الشعبية أيضًا ومسؤولًا أمامها.

مثل هذا المتغيِّر، الذي رآه البعض صغيرًا حينها، في نظام الحكم، وضع العلاقة بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة في إطار أزمة موقوتة، أزمة في حالة انتظار، بغضِّ النظر عن شخصية أيٍّ منهما. وعندما يكون رئيس الجمهورية مسلحًا بموروث زعامة شعبية وسياسية بالغة التأثير، مثل رجب طيب ردوغان، وعازمًا على ممارسة صلاحياته كاملة، يصبح تأزم العلاقة بين المنصبين شأنًا متيقَّنًا. في مؤتمره الصحفي الوداعي، قال داود أوغلو، الذي ورث رئاسة الحكومة وقيادة الحزب، في أغسطس/آب 2014، إن التفاهم بينه وبين أردوغان أُسِّس من البداية على أن تركيا تحتاج رئيسًا قويًّا للجمهورية ورئيسًا قويًّا للحكومة. ربما حدث مثل هذا التفاهم بالفعل؛ ولكن الحقيقة، أن وضعه موضع التنفيذ كان مسألة بالغة الصعوبة، وربما مستحيلة.

التوتر في العلاقة بين أردوغان ورئيس الحكومة سيستمر مهما كان من يخلف داود أوغلو في قيادة الحزب ورئاسة الحكومة، إلا إذا وافق رئيس الحكومة القادم على لعب دور المساعد التنفيذي لرئيس الجمهورية. وهذا ما دفع كثيرين داخل العدالة والتنمية وخارجه، سيما الرئيس أردوغان، لاقتراح تغيير نظام الحكم كلية إلى نظام رئاسي، ليس فقط لحل أزمة الشرعيات المتنافسة بين منصبي رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة، ولكن أيضًا لأن النظام الرئاسي أكثر استقرارًا من النظام البرلماني. مسودة الدستور الجديد، التي تشتغل عليها لجنة من العدالة والتنمية، والتي يفترض أن تحتوي تصورًا لنظام حكم رئاسي، لم تكتمل بعد. ولكن، حتى لو اكتمل العمل عليها خلال الشهر أو الشهرين المقبلين، ليس من المؤكد بعد كيف ستُقرُّ.

فأي تأثير ستتركه استقالة داود أوغلو على مسيرة حزب العدالة والتنمية، وعلى مستقبل تركيا المنظور؟

ما بعد داود أوغلو

في التزام منه بنهج الوحدة والحفاظ على تماسك حزب العدالة والتنمية، أعلن داود أوغلو في مؤتمر 5 مايو/أيار الصحفي أن لجنة الحزب المركزية اتفقت على عقد مؤتمر عام طارئ للحزب في 22 مايو/أيار، يرأسه شخصيًّا، لاختيار خليفته في قيادة الحزب ورئاسة الحكومة. ثمة عدد من الأسماء التي يجري تداولها حول الخليفة المنتظر، أبرزهم وزيرا الدفاع والعدل الحاليين، وكلاهما من المقرَّبين لأردوغان. والواضح، أن عملية الانتقال ستكون منظمة وسلسة، وأن رئيس الحكومة المقبل سيكون أكثر طواعية في علاقته مع رئيس الجمهورية. وليس ثمة شك في أن لغة داود أوغلو التصالحية أسهمت في تعزيز الشعور بالطمأنينة، الشعور الذي انعكس بدوره على الوضع المالي والاقتصادي في البلاد. كانت الليرة التركية تراجعت بصورة ملموسة أمام الدولار يومي 3 و4 مايو/أيار، ولكنها عادت لتحقق مكاسب كبيرة بعد كلمة داود أوغلو يوم 5 مايو/أيار.

وليس من المتوقع أن يختفي رئيس الحكومة المستقيل من الساحة السياسية. يُعتبر داود أوغلو أحد أبرز علماء السياسة الأتراك، وساد انطباع بأنه مفكر استراتيجي بالغ التأثير قبل أن يقبل دعوة أردوغان للعمل كمستشار له للشؤون الخارجية في 2003. سيبقى داود أوغلو عضوًا في البرلمان، وسيحافظ على عضويته في العدالة والتنمية، والمؤكد أن مستقبله السياسي سيظل مفتوحًا على الاحتمالات طوال السنوات القليلة المقبلة.

من جهة عملية الانتقال، إذن، ليس ثمة من قلق. كما أن التوقعات بأن هذه الأزمة في قمة نظام الحكم ستشجع الجيش على العودة للتدخل في الحياة السياسية، مبالغ فيها بالتأكيد. لم يزل الجيش التركي شريكًا مهمًّا في قرارات البلاد الاستراتيجية، ولكن عودته للعب دور سياسي مباشر أو غير مباشر لم تعد ممكنة، لا على مستوى تفكير قادة الجيش، ولا على مستوى الرأي العام التركي. ومهما كان حجم الأزمة، فتركيا بعيدة كليًّا عن الفوضى أو فقدان القدرة على الحكم. وبصورة عامة، فإن عاش العدالة والتنمية مناخ أزمة داخلية في الأسبوع الأول من مايو/أيار، فكل أحزاب المعارضة الثلاثة الأخرى تعيش أزمات داخلية محتدمة، وليس في مقدور أي منها تشكيل تحد جاد للعدالة والتنمية في المدى المنظور.

على صعيد السياسة الخارجية، ليس من المتوقع أن تتعهد الحكومة المقبلة أي تغيير جوهري. بصورة عامة، وربما حتى على مستوى التفاصيل، كانت السياسة الخارجية التركية محل توافق كبير بين الرئيس ورئيس الحكومة، بل ومحل توافق مجلس الدفاع الأعلى برمته. كما أن التحديات التي تواجهها تركيا في جوارها الإقليمي، وفي علاقتها مع روسيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لن تتأثر سلبًا ولا إيجابًا باستقالة داود أوغلو.

السؤال المهم، الذي يطارد الساحة السياسية التركية منذ عامين على الأقل، هو ذلك المتعلق بإقرار دستور دائم جديد، وتغيير النظام السياسي إلى نظام جمهوري. وإن لم يُعِدْ رئيس الحكومة المقبل تشكيل اللجنة المكلفة بوضع مسودة الدستور، فالمتوقع أن تنتهي اللجنة من عملها في وقت قريب من هذا الصيف، على أن تُطرح المسودة للنقاش العام، قبل التقدم بها للتصويت في البرلمان في وقت ما من الخريف المقبل. لإقرار مسودة الدستور، ثمة خياران أمام أردوغان وحزب العدالة والتنمية: الأول: هو العمل على الحصول على أغلبية برلمانية كافية لطرح الدستور على الاستفتاء الشعبي، ومن ثم انتظار كلمة الشعب الأخيرة والحاسمة بشأن الدستور ونظام الحكم. مثل هذا الخيار ليس صعبًا، لأن العدالة والتنمية لا يحتاج أكثر من 14 صوتًا برلمانيًّا إضافيًّا لتحقيق الأغلبية الكافية لإرسال المسودة إلى الاستفتاء.

بيد أن هناك من يدعو إلى الإسراع في إقرار الدستور الجديد وتغيير نظام الحكم، وذلك بإقرار مسودة الدستور في البرلمان. مثل هذا الخيار يحتاج أغلبية كبيرة وأكثر من خمسين صوتًا إضافيًّا إلى كتلة العدالة والتنمية البرلمانية، وهذا غير قابل للتحقق بدون الدعوة لانتخابات مبكرة، يستطيع فيها العدالة والتنمية دحر الحزبين القوميين، الكردي والتركي، إلى أسفل حاجز العشرة بالمئة من الأصوات، الضروري للتمثيل في البرلمان. إن نجح العدالة والتنمية في هذه المقاربة، فمن المؤكد أن تصل كتلته البرلمانية إلى ما يقارب الأربعمائة عضو، وهو ما سيكون أكثر من كاف لتمرير مسودة الدستور تحت قبة البرلمان، وبدون الحاجة للذهاب إلى الاستفتاء الشعبي.

على أن من الضروري في الحالتين: الاستفتاء أو الانتخابات المبكرة، حساب اتجاه الرأي العام، وما إن كان الناخب التركي، الذي صوَّت بما يقارب الخمسين بالمئة للعدالة والتنمية في أول نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، سيتأثر سلبًا بأزمة أسبوع مايو/أيار الأول.

  • مركز الجزيرة للدراسات