التحرّر من قواعد اللعبة الروسية

التحرّر من قواعد اللعبة الروسية

resize

سوف تخسر المعارضة السورية الكثير إذا استمرت في السير خلف قواعد اللعبة التي صنعتها روسيا. لن يطول الوقت كثيراً، قبل أن يجدوا أنفسهم، وقد تكيفوا مع تلك القواعد، ووجدوا أنفسهم في مكان آخر غير الذي أرادته الثورة السورية. والسؤال: إذا كانت الثورة السورية ستنتهي بالتكيّف، فلماذا لا تختار بنفسها نمط التكيف وشكله؟ ولماذا تستبعد المعارضة خيار مواجهة روسيا مباشرةً على الأرض السورية، باستهداف أصولها وقواعدها العسكرية؟
ربما يعتبر بعضهم أن الدعوة لمواجهة روسيا محض تخريجات طفوليةٍ غير واعية لما تنطوي عليه من مخاطر، فإذا كانت الثورة لم تواجه روسيا، وأصابها ما أصابها، فما الذي سيحصل في حال قرّرت إعلان الحرب على روسيا؟ ربما ليس أفضل طريقة للرد على مثل هذه الآراء سوى مقولة مؤسس موقع فيسبوك، مارك زوكيربيرغ، “أكبر مخاطرة تكمنُ في محاولة تجنب المخاطرة. ففي عالمٍ يتغيّر بسرعة، تتمثل الاستراتيجية الوحيدة المحكومة بالفشل في عدم القيام بأي مخاطرة”.
لم يعد الأمر بحاجة لمزيد من التحليلات والتقديرات لتقييم السياسات الروسية في سورية، بعد حربٍ عسكريةٍ شرسةٍ، تشنها منذ ثمانية أشهر، من دون توقف، وحرب دبلوماسية وإعلامية تخوضها روسيا ليل نهار تستخدم فيها كل خبرتها في التزوير، بقصد تشويه ثورة الشعب السوري، بل حتى ملاحقة المنكوبين المهجرين في أوروبا وتشويه حتى الضحايا، من أطفال ونساء، وتجريمهم. بعد ذلك كله، هل تركت روسيا مجالاً للشك بأنها جاءت إلى سورية لاستكمال تنفيذ ما عجز عنه بشار الأسد وخامنئي وحسن نصر الله من السياسات القائمة على الإبادة والإخضاع والتطهير الديمغرافي؟
لم تعلن روسيا، منذ لحظة قدومها إلى سورية، ما من شأنه طمأنة الثورة وشعبها. على العكس، كانت أهدافها العلنية مجرد خطة حربٍ ضد أكثرية الشعب السوري، المحافظة على نظام الأسد، تدعيم مؤسساته التي أنتجت الخراب والقتل، سحق الإرهابيين الذين هم كل معارض لنظام الأسد، ومنع وصول المساعدات للثوار والمجتمعات المحلية للدفاع عن أنفسهم، وتغطية جرائم المليشيات الطائفية القادمة من العراق ولبنان، وتشريع آلة القتل الإيرانية”. فقط الثوار، والدول التي تسمي أنفسها داعمةً لهم، هم من توهموا أنه قد تكون لروسيا أهداف أخرى، مثل تحجيم النفوذ الإيراني، أو ضبط سلوك بشار الأسد، وصولا إلى عزله عن سلطة القرار، صنعوا لروسيا أهدافاً لا تسمح لها طبيعة سياستها وطريقة تفكير صناع السياسة فيها بالاقتراب منها أو مقاربتها.

الأدهى من ذلك كله أن الاستمرار في السير وراء قواعد اللعبة التي صنعتها روسيا لن يسفر

عنه سوى زيادة الشقاق والتباعد بين مختلف مكونات الثورة العسكرية والسياسية، بل إن المخطط الروسي المعلن هو صناعة بدائل كاملة للأجندة الثورية، ولن يتطلب مثل هذا الأمر وقتاً كبيراً، بدليل نموذج معارضة حميميم التي صدّرتها موسكو، وتطالب بدمجها في هيئة التفاوض، وكذلك بعض التشكيلات العسكرية التي بدأت بالعمل معها على الأرض.
أثبتت الحملة على حلب أخيراً، والتي قامت بتخطيط وقيادة روسيين، أن الخطة تقوم على تدمير البنى التحتية للثورة على مراحل، تشمل تدمير مرتكزات القوة لدى الثوار، من عتاد وكوادر وطرق إمداد، وتحطيم البنى التشغيلية لبيئة الثوار، من مستشفياتٍ ومخابز، وتفريغ البيئات الحاضنة، وفق خطةٍ ممرحلةٍ، تجري كل فترة، وكلما وجدت أن المفاوضين لم يستسلموا بعد، وما زال سقف مطالبهم أعلى من تصوّر روسيا للحل. الأمر إذاً لن يستغرق عدداً من الجولات وفق هذه النمطية، وهو يندرج في إطار الصبر الاستراتيجي، وتراكم المتغيرات.
أخطأ الثوار كثيراً يوم لم يعطوا للتدخل الروسي حقه، يوم لم يتكيّفوا مع هذا المتغير، ويتعاطوا معه بجدية، وانتظروا، بدل ذلك، أن تهبّ الأقدار برياحٍ تزعزع القوة الروسية، أو أن يأتي العون من الخارج كما يشتهون. كان الأجدر بهم تغيير هياكل منظومتهم العسكرية، وتغيير أساليبهم في المواجهة والقتال، واجتراح طريقةٍ لمواجهة القوة الروسية، ولم ينتج عن استمرارهم في المماطلة وسياسة الانتظار سوى تضييق خياراتهم إلى أبعد مدى، وهم لو انتظروا أكثر، سيجدون أنفسهم بلا فاعليةٍ، ولا قدرة لديهم، للتأثير بمجريات الأحداث.
الأكيد أن مواجهة روسيا أمر مكلف، وله أثمان عالية، في وقت وصلت فيه الثورة إلى حد الإرهاق والتعب، بعد مواجهةٍ مديدة مع نظام الأسد، ثم إيران وأذرعها، لكن عدم مواجهتها يعني خسارة كل شيء، ولا توجد رهاناتٌ أخرى، يمكن الركون لها، لا القوى الدولية، ممثلة بأميركا وأوروبا، لديها استعداد للانخراط في حربٍ خطيرةٍ ضد روسيا، ولا القوى الإقليمية يمكن أن تجازف، في ظل هذا الوضع الدولي المتغير في مواجهة روسيا، والعكس صحيح، بمعنى أن استمرار الرهان على الخارج بات أحد مصادر التهديد الخطيرة على الثورة السورية، انطلاقاً من حقيقة أن للخارج حساباته المختلفة، ويملك قدرةً على التكيف مع المتغيرات، ومهما تكن خسائره في ذلك، تبقى أقل بكثير من خسائر الشعب السوري الذي سيبقى يعاني، وحده، من استمرار سلطة الأسد، بدعم من روسيا وإيران.
مواجهة الثوار روسيا مكلفة، لكنها الممكن الوحيد، والرهان الذي يستحق الخوض فيه، وهذه مهمة القادة الميدانيين بالدرجة الأولى، إعادة خلط أوراق الصراع والخروج من قواعد اللعبة الروسية ربما يحرّر داعمين كثيرين، ويفتح الأفق أمامهم لإيجاد الطرق لدعم الثوار. من هنا البداية.

غازي دحمان

صحيفة العربي الجديد