أزمة أوروبية

أزمة أوروبية

TerrorBelgiumEuropeBrusselsGermanyRTSBP14-639x405

من خلال قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بهجماته في بروكسل في 22 آذار/مارس، فإن الجماعة لم تلحق الضرر ببلجيكا فحسب – كما أكدت مجلة التنظيم اللامعة والمضرَّجة بالدم، “دابق”، التي تُنشر على شبكة الإنترنت – بل ضربت أيضاً أوروبا “في قلبها”. وفي الواقع، إن التفجير الثاني الذي حدث ذلك اليوم، في محطة “مترو ماليبيك”، قد وقع على مشارف ما يسمى بـ “الحي الأوروبي”، حيث توجد معظم مقرات مؤسسات الاتحاد الأوروبي. وقد وقع الحادث على مسافة نصف ميل من “بناء بيرلايمونت” الضخم في بروكسيل، الذي هو مقر “المفوضية الأوروبية”. وفيما يتخطى الرمزية، فإن حملة الإرهاب التي يشنها تنظيم «الدولة الإسلامية» في القارة تهز “الاتحاد” المستضعف ويمكن أن تقوّض المشروع الأوروبي في النهاية.

قد يكون قرار فتح جبهة جديدة في أوروبا، قد جاء في أعقاب النكسات الأخيرة التي شهدها تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق. إلا أن هذه الخطوة تناسب أيضاً المفهوم الذي يعتمده التنظيم بأن “المسلمين الغربيين” يسكنون في “منطقة غير واضحة المعالم”، ولا يتّبعون طرق الخلافة المتخيّلة، ولا يندمجون تماماً مع التيار الغربي السائد. ومن خلال قيام تنظيم «الدولة الإسلامية» بهجمات إرهابية متكررة، تأمل الجماعة إثارة ردود فعل سياسية وأمنية ضد هؤلاء المسلمين، الأمر الذي يدفعهم إلى احتضان المتطرفين، والانضمام إلى الخلافة في النهاية. وتخدم دعوة التنظيم لأتباعه باغتيال رجال الدين المسلمين الليبراليين أو المعتدلين في أوروبا (والولايات المتحدة) الهدف نفسه وهو: ضمان عدم وجود مجال للحوار، ناهيك عن التكامل.

ووفقاً لما أعلنه تنظيم «الدولة الإسلامية» بالحرف الواحد، “باريس كانت تحذيراً. وبروكسل كانت تذكرة. وما سيحدث سيكون أكثر تدميراً من ذلك بكثير”. وقد تم إحباط عدة مؤامرات في فرنسا وحدها، قبل وقوع هجمات باريس ومنذ حدوثها؛ وقد حذر مسؤولون فرنسيون مراراً وتكراراً من احتمال وقوع هجمات كيماوية. وحيث يُعتقد أن أكثر من 5000 جهادي أوروبي كانوا قد سافروا في مرحلة ما إلى ساحات القتال في بلاد الشام، فبإمكان التنظيم الاعتماد على خزان كبير من العملاء المحتملين – بالإضافة إلى متطرفين محليين آخرين. إن حجم التهديد هو من النوع الذي يجعل حدوث هجمات ناجحة مرة أخرى أمراً حتمياً. وبالنسبة لوكالات الأمن، يُعد ذلك بمثابة لعبة كرة الطاولة مع وجود الكثير من الكرات في اللعبة.

بيد، كشفت الهجمات الأخيرة أيضاً – بل في الواقع استغلّت – بعض نقاط الضعف الهيكلية لللاتحاد الأوروبي. وقد تفاخر منظم هجمات باريس، عبد الحميد أباعود، في مقابلة سابقة كيف أنه تمكن من الهروب من المراقبة وسافر ذهاباً وإياباُ إلى سوريا. وعلى غرار إنشاء الاتحاد النقدي من دون اتحاد مالي، فقد تم الإعلان عن حرية التنقل في جميع أنحاء أوروبا دون قيام تعاون أمني قوي، سواء بين الدول الأعضاء في “الاتحاد” أو على حدوده الخارجية. واستغرق الأمر سبع سنوات مذهلة – ووقوع هجمات في عاصمتين أوروبيتين – لكي يتبنى البرلمان الأوروبي “سجل أسماء المسافرين”، وهو إطار تمس الحاجة إليه حيث يسمح للدول الأعضاء بتبادل سجلات السفر الجوي.

وفي ظل المؤامرات التي تتخطى حدود الدولة وتنتشر عبر الولايات القضائية، لا يزال التعاون الأمني وتبادل المعلومات الاستخباراتية بين الدول الأعضاء غير كاف. بإمكان الأوروبيين الاستفادة أيضاً بشكل أفضل من المنظمات المتاحة، مثل وكالة حدود الاتحاد الأوروبي (“فرونتكس”)، ووكالة إنفاذ القانون التابعة لها (“يوروبول” أو “الشرطة الأوروبية”). وبعد نهاية “الحرب الباردة”، وضع الاتحاد الاوروبي “سياسة مشتركة للأمن والدفاع”، وأجرى عمليات ناجحة في هذا الإطار. ولكن تم تصميم هذه الأداة لتحقيق الاستقرار في المنطقة (البلقان عادة) أو للمساعدة في حل أزمات أكثر بعداً (معظمها في أفريقيا)، وليس للدفاع عن أوروبا بصورة خاصة. وفي حين تساهم عشرات الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي في العمليات التي تقودها الولايات المتحدة ضد تنظيم «الدولة الإسلامية» في سوريا والعراق، إلا أنها تفعل ذلك على أساس وطني محض.

بل والأسوأ من ذلك، تنشأ هذه التحديات في الوقت الذي يواجه الاتحاد الأوروبي بالفعل سلسلة من الأزمات، من بينها: أزمة مالية ونقدية أسفرت عن مساعدات لإنقاذ العديد من الدول الأوروبية وتراجع اليورو، وأزمة اقتصادية، مع تباطؤ النمو والبطالة المتفشية، وأزمة هجرة اندلعت في البداية بسبب الحرب الأهلية السورية، وأزمة اندماج (كما اتضح من الأحياء على غرار “حي مولينبيك”، القاعدة الخلفية لهجمات باريس وبروكسل، التي تعاني من البطالة والعزل الاجتماعي والتمييز والجرائم الصغيرة وتهريب المخدرات والنفوذ السلفي)، وأزمة هوية تتمحور حول وضع الإسلام في أوروبا ومسألة الهجرة، وأخيراً وليس آخراً، أزمة المشروع الأوروبي نفسه، ابتداءً من الاستنكار الأولي من قبل الفرنسيين والهولنديين للمعاهدة الدستورية من عام 2005 وإلى استفتاء “بريكسيت” المقبل في المملكة المتحدة (تصويت البريطانيين لصالح خروج بلادهم من الاتحاد الأوروبي أم لا).

وترتبط هذه الأزمات واحدة بالأخرى وغالباً ما تُفاقم بعضها البعض. فتنظيم «الدولة الإسلامية» وعملائه الأوروبيين (معظم مرتكبي هجمات بروكسل وباريس ولدوا وترعرعوا في أوروبا) يفهمون هذا المأزق، وهم مصممون على تحقيق الاستفادة القصوى منه. إن حرية التنقل، التي يمكن القول إنها إحدى أبرز إنجازات الاتحاد الأوروبي وأكثرها شعبية، هي الآن في خطر. وسوف يتخذ الناخبون البريطانيون قراراً بشأن بقاء بلادهم في الاتحاد الأوروبي أم لا، وذلك في التصويت الذي سيجري في 23 حزيران/يونيو. وفي حين بدأ النقاش حول السيادة والرعاية الاجتماعية والقواعد المالية، من المرجح أن يكون للهجمات الأخيرة على الجزيرة الأوروبية (فضلاً عن التدفق الحالي للمهاجرين من سوريا وخارجها) بعض الوزن في حسم النتيجة.

وبالتالي، فإن مستقبل أوروبا كمشروع سياسي قد يعتمد بشكل كبير على قدرة الاتحاد الأوروبي، والدول الأعضاء كل على حدة، على التصدي لـ تنظيم «الدولة الإسلامية». وإذا ما فشل الأوروبيون في معالجة التهديد بينما يبقون مخلصين لقيمهم، فقد نواجه أوروبا مختلفة جداً. وحيث يبقى الاتحاد الأوروبي أقرب شريك اقتصادي ودبلوماسي وأمني لواشنطن، فإن المخاطر على الولايات المتحدة هي الأخرى كبيرة أيضاً.

 أولفييه ديكوتينيي

معهد واشنطن