انهيار الحزب الجمهوري الأميركي

انهيار الحزب الجمهوري الأميركي

version4_56dbb737c36188305a8b456f66

أنجز دونالد ترامب، المرشح الجمهوري، ومؤيدوه ما بدا أنه محال: وضع اليد على أحد أبرز الأحزاب الأميركية. وسعى الحزب الجمهوري الى لفظ ترامب، وصد اثنان من رؤساء الحزب السابقين المرشح هذا، وانضم إليهما عدد من حكام الولايات والشيوخ المعارضين له. ووبخه أبرز منافسيه النافذين: بول راين، رئيس مجلس النواب. ولم يسبق أن تفككت عرى حزب سياسي في الولايات المتحدة على هذا المنوال العلني والفج. والى اليوم، لا يصدق أميركيون كثر أن ترامب الصاخب، وذاع صيته نجماً في عالم تلفزيون الواقع، سيشارك في السباق الرئاسي في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل، وينظر كثر منهم بعين القلق الى ما سيفعله إذا بلغ الرئاسة.

ولكن خيبة الأمل أكبر في صفوف كبار الجمهوريين (منها في عموم الأميركيين). وتخشى النخب الجمهورية أن يكون حزبها على مشارف انقسام كبير- شرخ تاريخي بين المحافظة التقليدية التي صيغت في الستينات وشاعت في الثمانيات، وبين قومية بائدة قديمة قدم الجمهورية لم تتأجج منذ الحركة الأميركية الأولى (مجموعة ضغط مناوئة للحرب وضد مشاركة أميركا في الحرب العالمية الثانية) قبل (هجوم) بيرل هاربر.

ومنذ سنوات، بدأ عقد الآصرة بين النخب الجمهورية – المسؤولين المنتخبين والمانحين والمطلعين على خفايا الأمور في واشنطن- وبين الناخبين، ينفرط. ووسطاء القوى التقليدية لطالما دعوا الى تقييد يد الحكومة، ورغبوا في تعديل قوانين تجنيس المهاجرين غير الشرعيين وتقليص المساعدات، والتزام سياسة ترفع لواء التجارة الحرة وتنحو نحواً متشدداً في السياسة الخارجية.

وأقبل مرشحون من أمثال جون ماكّين وميت رومني على هذا النهج. وذم قادة جمهوريون الرئيس اوباما والديموقراطيين، ونفخوا الغضب في صفوف عامة المحافظين. ولكنّ ناخبين جمهوريين كثراً تثاقلوا في تأييد المرشحين الجمهوريين، ولم تلم بهم الحماسة إلا حين عرض عليهم ترامب نسخته من الشعبوية الغاضبة: خليط من الحمائية وتقليص الدور الأميركي في الخارج. ووسع ترامب الاستفادة من مشاعر الخيبة والنقمة في أوساطهم. فهذه المشاعر غذاها طوال سنوات قادة الحزب الجمهوري حين مهاجمة اوباما والديموقراطيين والمهاجرين غير الشرعيين وغيرهم. واستمال عدداً كبيراً من الناخبين الذين فقدوا الثقة في قادتهم وفي مؤسسات مثل الكونغرس والاحتياطي الفيديرالي ومجموعات تمويل الحملات الانتخابية التي لفظها ترامب، والشركات وكنيسة الروم الكاثوليك ووسائل الاعلام.

واستعمل في التواصل مع الناخبين ورص صفوفهم استراتيجيات تواصل واتصال تشبه تلك التي استخدمت في انتفاضات الربيع العربي. ولا شك في أن ترامب ليس ناطقاً نموذجياً باسم المعاناة المالية أو الأميركيين المهمشين: فهو بليونير من مانهاتن يشيد أبراجاً عالية للأثرياء وفي متناوله الاتصال المباشر بالسياسيين. ولكنه رجل أعمال حذق، وفهم زبائن الحزب الجمهوري أكثر من قادتهم التقليديين، وحدس بأن ماركته من الشعبوية والملاكمة الخطابية والسياسة المعادية للهيئات الحاكمة والمناصب، تنزل على حاجاتهم وتلبيها.

وينظر ناخبون كثر الى ترامب على أنه المخلص، ولو لم يفصح عن تفاصيل سياسته ولو أنهم ينزعجون من لغته القاسية والفجة. فمؤيدوه يستسيغون شعاراته الواضحة مثل «لجعل أميركا عظمى من جديد» أكثر من خطابات بول راين المدروسة والمطروقة النهج. «أحب بول راين الى الموت، ولكنني سأقترع لترامب. فمهنة بول راين هي السياسة»، قال ديفيد مييرز (49 سنة). واليوم، يشعر ترامب بأنه نافذ وأن في وسعه استمالة أميركيين من أطياف متباينة في ميتشيغن واوهايو وبنسلفانيا من غير دعم قادة جمهوريين، وأن في إمكانه هزيمة المرشحة الديموقراطية. وجمع ترامب بين الشهرة في عالم اليوم الى الديماغوجية القديمة، فتجاوز حراس الهيكل المتحجرين وتوجه مباشرة الى الناخبين في رسائل بث متواصل على تويتر لا ينقطع سيلها إلا حين يظهر على شاشات التلفزيون.

ويبدو انه أدرك المنعطف الجديد في الديموقراطية المباشرة: الناخبون الساخطون لا يقيمون وزناً لوسائل التواصل السياسي التقليدية، بل يثقون في ما يردهم عبر الهواتف الذكية ورسائل تويتر وريديتس أكثر مما يثقون في نتائج استفتاءات الرأي العام العلمية. والى يسار الحزب الديموقراطي، موّل بيرني ساندرز حركته بـ210 ملايين دولار جمعها في حملات بسيطة على الخط («اونلاين»)، منها توجيه رسالة بريد إلكتروني الى الناخبين.

وطوال 12 سنة، أشارت استفتاءات الرأي إلى أن الأميركيين يرون أن بلادهم تسير على المنحى الخطأ. وكان الجمهوريون ضعفاء أمام حملة مثل حملة ترامب تحاكي غضبهم. ولا شك في أن آصرة الجمهوريين ارتخت، إثر أفول الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة. ولكن الانقسامات الداخلية تراجعت ورصت الصفوف، إثر هجمات الحادي عشر من أيلول (سبتمبر) 2001. ولم تعد الخلافات الى البروز إلا في نهاية ولاية جورج دبليو بوش الثانية حين سعى (بوش) الى تعديل قوانين الهجرة ومنح اللاجئين غير الشرعيين سبيلاً الى حيازة الجنسية، وحين إنقاذ المصارف الكبيرة في 2008، إثر الانهيار المالي.

وتزامن الاضطراب الاقتصادي مع بروز مؤشرات الى نازع عميق في أوساط البيض من أصحاب الياقات الزرق الذين صاروا نواة الجمهوريين: ارتفاع عـــدد الأطفال المولودين لأم عزباء أو أب عازب وارتفاع معدلات الإدمان والانتحار وتقلص متوسط الأمل في الحياة. «فالحرمان الاقتصادي في العقود الثلاثة الماضية في أوساط الطبقة العاملة البيضاء، الى العزلة الاجتماعية، ساهما في تشكيل مادة قابلة للاشتعال، وأشعل ترامب فتيلها»، يقول روبرت دي. بوتنام، عالم سياسي من جامعة هارفرد.

و«انتخب ترامب أكثر من كبش محرقة، المسلمون والمهاجرون، وأصلاهم العداء. وبدا لهذه الأوساط أنه محق في ما يقوله عن مسؤولية هؤلاء عن مصابهم. ولم يكن الشرخ بين الناخبين والحزب الجمهوري كبيراً كما هو اليوم.

باتريك هيلي جوناثان مارتن

* مراسلان، عن «نيويورك تايمز» الأميركية، 7/5/2016، إعداد منال نحاس

نقلا عن الحياة