وهم سايكس – بيكو

وهم سايكس – بيكو

images

تفجر الزبد المرعب للتطورات في الشرق الأوسط إلى حطام لم يقتصر على الأرواح البشرية التي لا تعد ولا تحصى وحسب، بل وأيضاً قصصاً لطالما كنا نرويها لأنفسنا عن المنطقة. وعلى رأس بين هذه الحكايات، ثمة الرغبة —والتي كثيراً جداً ما نخلطها مع الحتمية— في الدولة–الأمة. أي البناء السياسي المتميز بدولة معترف بها، وبمؤسسات وبحدود. ومثل سراب في الصحراء، كانت الدول القومية في الشرق أوسطية تتبخر أمام أعيننا، لتتركنا في مواجهة واقع دموي ممزق.
بفضل مكر التاريخ، يصادف هذا الشهر مرور الذكرى السنوية المائة لاتفاقية سايكس- بيكو، المصدر الموثوق بكل تأكيد لهذه الحكاية المخصوصة. وكانت الدول–الأمم، التي ليست أمماً ولا دولاً في الحقيقة—كما نشاهد راهناً في العراق وسورية ولبنان- من عمل اثنين من ممثلين متوسطي المستوى لحكومتي بلديهما، الإنجليزي مارك سايكس والفرنسي جورج بيكو. وكان هذان الرجلان ثنائياً غريباً. كان سايكس أرستقراطياً مختالاً لم ينجز أي شيء أبداً، والذي نشر قبل دخوله معترك السياسة روايات عن أسفاره عبر أنحاء الامبراطورية العثمانية. ويتحدر بيكو، من جهة أخرى، من عائلة من المستعمرين المحترفين المخلصين لحمل “مهمة التحضر” التي ادعتها فرنسا للشعوب الجاهلة في العالم. وخلف أبواب مغلقة، أعاد هذان الرجلان رسم خريطة المنطقة لتناسب التطلعات الإمبريالية لبلديهما.
كُتب الكثير عن التداعيات التاريخية للخريطة المعتمدة، والممهورة في الزاوية اليمنى الدنيا بتوقيعي سايكس وبيكو. وثمة صفحة ورق مفردة مغطاة بشبكة من الخطوط المستمرة والمنقطة التي تحدد المناطق البريطانية والفرنسية المرسومة بألوان الباستيل، والتي انطوت على التسبب بعبء ضخم. فقد تم إسناد كل شيء سار في الاتجاه الخطأ منذ ذلك الحين في الشرق الأوسط إلى صانعي الخريطة. ومثل “11/9” أو معسكر “أوزفيتش”، أصبحت “سايكس-بيكو” مجاز جزء من كل قاتماً لحدث تاريخي عالمي من الطراز الأول.
لكن معنى هذه الخريطة – أو أي خريطة في حقيقة الأمر— يذهب إلى أعمق مما نظن. وبطبيعة الحال، نميل إلى التفكير في الخرائط على أنها مرايا للطبيعة، ونقل مخلص للأرض والمياه والجبال والسهول، والتي تكون موضوعية مثل صورة طبقية لجهازنا الهضمي. ومع ذلك، وعلى العكس السيجار مثلا، لا يمكن أن تكون الخريطة مجرد خريطة. وخلال العقود القليلة الماضية أعاد جيل جديد من الجغرافيين، من الناحية الفعلية، رسم حرفتهم. وهم يقولون علم رسم الخرائط، بغض النظر عن استخدامه لأدوات الرسم اليديوية أو الحواسيب، هو فن أكثر من كونه علماً، والذي يعرض مخاوفنا الجماعية وآمالنا وتطلعاتنا وحالات القلق التي لدينا على الورقة أو الشاشة. وتكون شبكات المربعات والألوان، والأساطير والأبعاد، خطابية بمعان أخرى، وتوفر تمثيلاً معيناً للواقع المصمم لإقناع المشاهد أو إغوائه.
لهذا السبب، لا تكون الخرائط أكثر شفافية من رسم الوجوه أو الخزف اليوناني. وهي تخفي عمل الذكاء الإنساني بالضرورة بقدر ما تظهره، ولا تعرض سوى الغموض عندما نأمل في الحصول على استبصار. ويستدعي ذلك الشك في افتراضنا -سواء كنا صانعين لهذه الخرائط أو مشاهدين لها على حد سواء- بأننا نسيطر على الخرائط. لكن الجغرافي الراحل بريان هارلي كان قد فجر الفقاعة قبل عدة أعوام. وحاجج، في حينه، بأن الخرائط تسيطر علينا أيضاً من خلال منطقها الداخلي. وأعلن أنها تصنع منا “سجناء في داخل مصفوفة حيزها”.
يخلف ذلك تبعات هائلة على الطرق التي قد نفكر بها في إرث سايكس-بيكو. وقد لاحظ هارلي ذات مرة أنه “بالنسبة لأولئك الذين يتوافرون على قوة في العالم… فإنهم سيزدادون قوة في الخريطة”. وعلى المستوى الأكثر سطحية —والخرائط هائلة في سطحيتها— فإننا نستطيع أن نرى هذا الاستعراض للقوة في الخطوط التي رسمها سايكس وبيكو. فقد قسم الدبلوماسيان وقطعا جسم الإمبراطورية العثمانية وفقاً للأهداف الجيوسياسية لحكومتيهما، بينما تم استبعاد الوقائع الدينية والتاريخية على أرض الواقع. وكما يلاحظ ديفيد فرومكين في دراسته المهمة “سلام لإنهاء كل السلام”، كانت فرنسا مضللة بقدر لا يقل عن ضلال إنجلترا في اعتقادها بأن المواطنين المسلمين كانوا يريدون أن تحكمهم فرنسا وبريطانيا.
لكن الأوهام في رسومم الخرائط كانت جديدة بالكاد. فمن الحملات الصليبية في العصور الوسطى إلى عهد التنوير، خطط الغرب الشرق وفقاً لرغباته وأحلامه. وفي عمله الكلاسيكي “الاستشراق” يتأمل ادوارد سعيد في “الجغرافية التخيلية” التي لطالما شكلت إحساس الغرب بالشرق الأوسط. وقال سعيد أنها نظرة سمحت لنا “بإدارة –وحتى إعادة إنتاج– الشرق”. وبينما افتقر عرضه إلى بيان الفارق الدقيق، فإنه يؤشر على عادة غربية مميتة: رسم الحدود حيثما لم تكن موجودة من قبل، وتعريف حدود أخرى بأسماء لم يعرفها أي أحد من قبل.
نتيجة لذلك، ومع حلول العام 1915 عندما عقد سايكس اجتماعاً للجنة حكومية لرسم خريطة أهداف بريطانيا في الشرق الأوسط، فإنه كان يلتزم ببساطة بتقليد طويل. ومما لا يدعو للدهشة أن تكون لجنته قد محت الحدود وأسماء الأمكنة التي كان الحكام العثمانيون قد أسسوها. وبالرجوع إلى النصوص اليونانية واللاتينية القديمة، كدحوا مثل الطلاب، وجمعوا معاً كلمات من اليونانية واللاتينية، وعمدوا المناطق المختلقة حديثاً بأسماء مثل “بلاد ما بين الرافدين” و”سورية” و”فلسطين” (في إفساد لـ”فلستيا”، قطعة الأرض التي شغلها الفلستينيون ذات مرة). وبدا الأمر وكأن معركة بريطانيا من أجل الشرق الأوسط قد خسرت سلفاً في الصفوف الدراسية لكلية إيتون.
تنقل خريطة سايكس-بيكو وهماً آخر في علم الخرائط: حيث يبدو رسم الخطوط وتلوين المناطق وأنه يكبت طاقة وحرية الناس الذين يعيشون في تلك الأماكن التي أعيد ترسيمها. ومع ذلك، فإن فرض خريطة سايكس-بيكو ألهم صعود الحركات الوطنية، بالإضافة إلى القومية العربية في عموم المنطقة. وفي وقت مبكر هو العام 1917، اعترف حتى سايكس نفسه بأن خريطته هي مجرد أثر فني لحقبة غابرة.
وبالإضافة إلى ذلك، فإننا نميل حتى في يومنا هذا إلى افتراض أن التسوية الشرق أوسطية في العام 1922، والتي اعتبرت اتفاقية سايكس-بيكو حجر الزاوية فيها، كانت برمتها من عمل وبنات أفكار القوى الغربية. لقد جئنا، وخططنا وغزونا. ولكن، وكما يقول المؤرخون التعديليون بطريقة مقنعة، فإن اللاعبين المحليين -مسلمين ومسيحيين وعرباً وأتراكاً وفرساً – لعبوا كلهم أدواراً محورية في هذه التطورات. وفي الحقيقة، تم رسم الخرائط في الغرف العابقة بالدخان في باريس ولندن، لكن الذي عمل بناء عليها كانوا أولئك الذين تظاهروا بأن حياتهم تقررت بها.
في روايته “حلم رسام الخريطة”، يعيد جيمس كوان تجسيد حياة فرا ماورو، راهب القرن السادس عشر الذي يريد رسم خريطة للعالم من دون أن يترك صومعته مطلقاً. وعندما ينظر إلى ما صنعه، يعترف الراهب: “بدأت في رؤية رسم لنفسي”. وعندما تنظر بعد ذلك في خريطة الشرق الأوسط، فإن الخدعة لا تكمن فقط في رؤية رسم لصورة سايكس وبيكو، أو أولئك الذين خلفوهما. وبدلاً من ذلك، ستكون الخدعة هي رؤية الوجوه التي لا تعد ولا تحصى لأولئك الذين ستقاوم حيواتهم دائماً تجريد الخطوط والظلال.

روبرت زارتسكي

ترجمة:عبدالرحمن الحسيني

صحيفة الغد