في «إصلاح» الشرق الأوسط أو تخريبه: ما لا تستطيعه أمريكا يستطيعه حلفاؤها

في «إصلاح» الشرق الأوسط أو تخريبه: ما لا تستطيعه أمريكا يستطيعه حلفاؤها

4848

كلابر هو مدير الاستخبارات الوطنية الأمريكية. يشرف، بحكم منصبه، على 17 جهازاً استخبارياً في الولايات المتحدة، ما يجعله أبرز رموز «الايستبليشمانت» أو المؤسسة الحاكمة التي تدير البلاد أثناء فترة انتقال السلطة من الرئيس الحالي باراك اوباما إلى الرئيس المقبل (هيلاري كلينتون الديمقراطية أو دونالد ترامب الجمهوري).
الفترة الانتقالية تبدأ، سياسياً، مع انعقاد مؤتمري الحزب الديمقراطي والحزب الجمهوري خلال شهر يونيو المقبل لاختيار مرشح كلٍّ منهما للرئاسة وتنتهي، عملياً، في 20 يناير المقبل، يوم يتسلّم الرئيس المنتخب سلطاته الدستورية. لكن الرئيس الجديد يلزمه نحو ثلاثة أشهر للإحاطة بأوضاع الإدارة ومتطلباتها التنظيمية والسياسية، وتعيين كبار مساعديه من وزراء ومستشارين وسفراء ومديرين، ووضع الترتيبات اللازمة لتنفيذ سياساته وخططه في مختلف الميادين.
خلال الفترة الانتقالية يكون الحكم، عملياً، في عهدة «الايستبليشمانت»، أيّ في عهدة طليعتها مدير الاستخبارات الوطنية جيمس كلابر. ولأن له هذا القدْر من السلطة والنفوذ، أجرى معه قبل أيام الكاتب الصحافي المرموق ديفيد اغناطيوس مقابلة في صحيفة «واشنطن بوست» كشف خلالها الخطوط العريضة لما ستكون عليه أوضاع العالم، ولاسيما الشرق الأوسط، غداةَ تسلّم الرئيس الأمريكي الجديد سلطاته. لعل أهم ما كشفه كلابر يتعلّق بحاضر تنظيم «الدولة الإسلامية» ومستقبله ودور الولايات المتحدة حياله، كما حيال القضايا والتحديات الأخرى. في المقابلة اكّد كلابر أن «داعش» سيفقد مدينة الموصل. متى؟ قال «إن ذلك سيأخذ وقتاً طويلاً ولن يتمّ خلال إدارة اوباما». اكثر من ذلك، قدّر انه بعد هزيمة «المتطرفين» في العراق وسوريا، «ستظل مشاكل الشرق الاوسط قائمة، وأن «داعش» فقد كثيراً من الارض والمقاتلين، إلاّ أن الصراع العام مع «المتطرفين» سيستغرق عشرات السنين».
حرص كلابر على الدفاع عن رئيسه أوباما، قال إنه يتفق معه في رؤيته بأن الولايات المتحدة لا تستطيع وحدها إصلاح الاوضاع في الشرق الاوسط، ألا يعني هذا الكلام، ضمناً، أنها لا تستطيع وحدها أيضاً تخريبها؟ لم يُشر كلابر إلى مَن يستطيع منافسة أمريكا في «إصلاح» أوضاع الشرق الاوسط او التعاون معها في هذا السبيل. كذلك لم يُشر إلى مَن يستطيع تخريبها بالتعاون معها أو، ربما، رغما منها. لم يفعل لأن كثيرين، أبرزهن هيلاري كلينتون، عضو مجلس الشيوخ ووزيرة الخارجية سابقاً، كانت كشفت أن الولايات المتحدة «خلقت» تنظيم «القاعدة» وموّلته ودرّبت عناصره لمقاتلة القوات السوفييتية أثناء وجودها في أفغانستان. قبلها قال القائد الأطلسي الجنرال لسلي كلارك الكلام نفسه، حتى ترامب أشار أيضاً إلى شيء من هذا القبيل بشأن «داعش» أثناء حملته الانتخابية.
إلى ذلك، طمأن كلابر حلفاء الولايات المتحدة إلى انها لن تترك المنطقة، بل جزم بأنها لا تستطيع ذلك. لماذا؟ «لأنها يجب أن تكون حاضرة لتقدّم المساعدة وتتوسط وتقدّم القوة في بعض الاحيان». لم يقل إنها كانت دائماً تقدّم القوة والسلاح لإسرائيل في حروبها. لعله اراد القول إنها قد تقدّم القوة او الموافقة، في الأقل، على قيام تركيا بشن حرب على «داعش» داخل سوريا بغية احتلال مساحة واسعة من اراضيها وتحويلها «منطقة آمنة» بذريعة إيواء النازحين السوريين. بدعوى «ان امريكا لا تستطيع وحدها اصلاح أوضاع الشرق الاوسط»، تغاضت واشنطن عن تنامي «داعش» انطلاقاً من الموصل وصولاً إلى وجوده في معظم محافظات العراق الغربية وتنظيمه مجازر متنقلة في قلب بغداد ومحيطها ومدن أخرى.
رجب طيب اردوغان استفاد من تغاضي واشنطن، وتغاضيه هو تحديداً، عن «داعش» طيلة سنوات ثلاث كان التنظيم الإرهابي خلالها يهرّب الرجال والعتاد والنفط عبر حدود تركيا مع العراق وسوريا ليبني «دولة الخلافة» على مساحة من الارض تتجاوز مساحة بريطانيا. لكن أردوغان يتذرع اليوم بقذائف يطلقها «داعش» على مدينة كيليس التركية الحدودية ليهدد بالتوغل داخل سوريا لتأديبه ولإقامة المنطقة الآمنة الموعودة. «داعش» بات حقيقة وذريعة، فهو من جهة حقيقة عسكرية وسياسية واعلامية متنامية تهدد جدّياً من يعتبرهم التنظيم اعداء له، وهو من جهة اخرى ذريعة عسكرية وامنية جاهزة للاستغلال من قبل «أعدائه» انفسهم ضد اعداء آخرين هم، في الواقع، اعداء الطرفين معاً! يعدّد كلابر المشاكل الرئيسية التي يواجهها وسيواجهها الشرق الاوسط: التحديات الاقتصادية، توافر السلاح، الزيادة الكبيرة في عدد الشباب المهمّشين، والمناطق المتعددة التي لا توجد فيها سيطرة حكومية لمدة طويلة. لعل ابرز التحديات الاقتصادية تدنّي سعر النفط وبالتالي تناقص عائداته لدى الدول المنتجة.
يقول كلابر إن أمريكا ليست الان بحاجة إلى الشرق الاوسط اقتصادياً. لماذا؟ ربما لأنها باتت مكتفية ذاتياً بعد اكتشافها النفط الصخري والقدرة على استثماره وتصديره. لكن، أليس تناقص عائدات النفط مشكلة ستزداد حدّة مع حاجة دول الخليج المنتجة إلى المزيد من المال لشراء المزيد من الأسلحة لاستخدامها في حروب إقليمية، ولا سيما حرب اليمن؟ ليست دول الخليج وحدها من سيكون بحاجة إلى المزيد من العائدات لشراء المزيد من السلاح. ايران وحتى روسيا ستكونان بحاجة ايضاً إلى مزيد من الاموال لتوفير المزيد من الأسلحة. ها هي أمريكا تقوم بتركيز منظومة الدرع الصاروخية في رومانيا وسط اعتراض وغضب شديدين من روسيا. كانت واشنطن تقول إن المراد منها مواجهة ايران وبرنامجها النووي، لكن واشنطن وطهران توصلتا إلى اتفاق نووي يجعل امريكا وحلفاءها بمأمن من خطر نووي ايراني، فلماذا الإصرار على تركيب منظومة صاروخية متطورة في رومانيا على مقربة من حدودها مع روسيا؟ هل تشكّل روسيا خطراً على أمن رومانيا أو على أمن حلف «الناتو» وسائر اعضائه الأوروبيين؟
كلا، لأن الغاية من إدخال المنظومة الصاروخية المتطورة هي إكراه روسيا، وايران ايضاً، على ولوج سباق تسلّح مُكلف للغاية يؤدي إلى إرهاق الخزينة الروسية (والإيرانية) وتالياً إلى اضعاف روسيا بما هي القطب المرشح ليكون نداً للولايات المتحدة في اوروبا والشرق الاوسط. لعل التسمية اللائقة بهذه السياسة الامريكية القديمة – الجديدة هي المشاغلة.. أجل، مشاغلة منافسي امريكا الحاليين واعدائها المحتملين بسباق تسلّح مرهق اقتصادياً، وبتنظيمات إرهاب وحشية مرهقة أمنياً واجتماعياً بقصد إضعافهم وتقليص خطرهم على مصالح الولايات المتحدة وحلفائها، ولاسيما في الشرق الاوسط الكبير.

د.عصام نعمان

صحيقة القدس العربي